استطاعت الجوائز الأدبية التي مُنحت للرواية أن تجعلها سيّدةً على الأجناس الأدبية الأخرى لاسيما في العقد الأخير عندما تلاطمت أمواج التنافس بشكل مستمر بين الكتّاب، والتي لم تُنجب إبداعاً مميزاً، ولم نرَها أحدثت تطوراً في شكل وبناء الرواية، بل هذه الأخيرة سارت بثياب مقلوبة، فقد أُصيبَ جسد السرد بالفقر الفني، والضعف في نسيج اللغة، الذي يلتف على أغلب الروايات التي تُوجت بجوائز أدبية ــــــــ عرضنا هذا الجانب بمقالة سابقة بعنوان محاكمات اللغة الروائية ــــــ والموضوعات التي تكرر نفسها، فأجواء المنافسات التي خلقتها الجوائز أشعلت نيرانا من الهواجس عند الكتّاب، والهموم غير الإبداعية، وإنما إرضائية، وبعبارة أدق: إنَّ الكاتب وجه كتابته نحو أمرين هما: الكتابة وفق توجهات الجائزة وسياستها، والعمل من خلالها على إرضاء لجان المسابقة وهذا ما تكشفه بعض الروايات المتأهلة للقوائم القصيرة، والفائزة، فنلحظ كأنها توأم كتابي متشابه، لكنه مختلف بالأسلوب والموضوعات الفرعية، أما الثيمة العامة فنفسها تتكرر.
ولا أريد أن أنشرَ نظرة البؤس والتشاؤم إزاء الجوائز والمسابقات، ولم أنوِ التقليل من شأنها؛ لأنّها أصبحت حاجة ضرورية في واقع الأدب المعاصر، وهذا ما يثير التساؤلات: هل ساهمت البوكر العربية بصنع أدباء نجوم لا يمكن إزالتهم من سماء الأدب؟ وما تأثير شهرة العمل الفائز في القارئ؟ وهل يمكن القول: محظوظ من لم يفز بالمسابقة؟.
إنَّ جائزة البوكر العربية في العقد الأخير تحولت إلى قبلةٍ لكل كاتب طموح يسعى إلى أن تكون رواياته مقروءةً عند أكثر عدد وبلغات عديدة، ومن جانب آخر ترتفع قيمتها من ناحتين، معنوية، ومادية، فالأولى تعزيز مكانة الأدب في الحياة، وأنه ركن أساسي فيها، كباقي المناحي الأخرى، وتزيد من استقطاب الجمهور، واهتمام الإعلام وتركيزه على الرواية. والثانية: أن يكون لكلّ نص في الرواية ثمن مادي، فقيمة المبلغ تقدر بعشرة آلاف دولار للمتأهلين إلى القائمة القصيرة، والفائزة تقدر بخمسين ألف دولار. فهذه الأمور الجانبية تعمل على تسويق العمل، وتدعم الكاتب الذي يفترض أن يرفعَ من شعلة إبداعه، ويزيد من توهج كتابته، لا سيما أنه صار نجماً، وبهذا الصدد يحقّ لنا أن نتساءل أين الآن الكتّاب الذين فازوا بالبوكر العربية؟ وأين نجوميتهم التي سطعت؟ هل خذلتهم سماء الأدب؟.
بهاء الطاهر، ربيع جابر، أحمد سعداوي، شكري المبخوت، هدى بركات، عبد الوهاب العيساوي.. وأسماء أخرى نالت حظوتها من النجومية البوكرية، واشتهرت آنذاك، فأين هم اليوم؟ لماذا لم يستمروا بقوة تلك الشهرة أثناء فوزهم؟ ولِمَ لم يصدروا لنا روايات تغيّر واقع الرواية العربية الحالي نحو الأفضل؟ ولماذا تلاشت نجوميتهم بعد عام أو عامين من الفوز؟. لو نظرنا من زاوية أخرى للنجومية الأدبية سنجد على سبيل المثال لا الحصر، مارك توين، الذي قال عنه ويليام فوكنر بأنه ( الأب الحقيقي للأدب الأمريكي) لكني أرى أن شهرته تجاوزت حدود الأمريكتين وأوروبا، وانتقل أدبه عبر كلّ الأزمان. ودستويفسكي ما زال يعيش بين القرّاء، ولا ننسى مقولة نتيشة عنه في كتاب (دستويفسكي محاضرات ومقالات): هو الوحيد الذي أفادني من علم النفس، كان اكتشافي له يفوق أهمية اكتشاف ستنادال. وفرجينا وولف التي اخترقت الرواية الكلاسيكية، وقد عدها النقاد من رواد تيار ما بعد الحداثة. ولم يغب عن بالنا نجيب محفوظ، وغسان كنفاني، والطيب صالح، وأسماء ظلت محفورة بذاكرة الأدب بالرغم من رحيلها، لكن أدبها ظل ساطعا. فالنجومية الأدبية هي بنت الموهبة المصقولة بنار المعرفة والثقافة، والمتغذية على التجربة والرؤية، وطريقة تعاطيها مع الخيال الذي يلامس الواقع. فأقول: إنَّ البوكر العربية ــــــ وأي جائزة إبداعية ـــــــــ لم تبنِ أبراجاً لنجومها وإنما وجهت نحوهم الأضواء فقط، واختفاؤهم وتواريهم، مردّه ضعف الموهبة التي لم تستطع أن تستمر أمام موجات الرواية المتدفقة، وهو نفس السبب الذي جعل كتابتهم تبقى تسير بخط ثابت من دون ارتفاع، فمن خلال قراءتي للعديد من الكتّاب الذين فازوا بالبوكر بعد الفوز لم أر ما يدل على أن ما يكتبونه يرتقي للإبداع ، أو أنه سيعيش لعقد آخر، فضعف التكنيك، والبناء، وتكرار الجمل الإنشائية، سمات طغت على رواياتهم. فرواية مذكرات دي لأحمد سعداوي التي جعل من موضوعتها تقترب من فرانكشتاين أيضاً، فبطلتها دي أو ديالى عبد الواحد الشابة العراقية تعيش مع عالم الجن والأشباح والخيال، بل مسكونة به، كذلك يوجه الكاتب عدسته إلى الواقع العراقي السياسي، في العقد الأخير محللاً القضايا وما حدث للعراق بعد داعش وللمجتمع مع نقده للسياسات كما في فرانكشتاين، فالرواية بشقين الأول الواقع، والثاني عالم الغيب والجن، وهذا الأخير لم يأتِ منسجماً من الناحية الموضوعية مع الرواية، ولا فنيتها فكأننا نقرأُ روايتين منفصلتين. وهذا مثال لأحد نجوم البوكر.
إن الإبداع في الرواية يصنع نجوماً لا يمكن أن تتوارى، أما الجوائز فتلقي الضوء سريعاً وتمرّ، ولا تقوم بتربية الفن، أو تبني أيّ أديب. فقضية اختفاء البوكريين مرتبطة بالموهبة والخبرة الكتابية.