ضمن المفكر و العالم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، رحمه الله، كتابه (الحب في القرآن) خلاصة فكره وسرّ عنفوانه و نشاطه المتدفق إنه الحب (فحديثه ملء الأفواه وديدن الكتّاب والأدباء و مصدر الإلهام للشعراء وأنيس المجالس والأسمار ورابطة ما بين الفلاسفة والعلماء (حسب تعابيره) .
يهمس الدكتور في أسماعنا قائلا : إنه تأمل في سبب إعراض الكاتبين والباحثين عما يقوله القرآن في الحب فلم يعثر إلا على سبب واحد هو أن القرآن الكريم يوجّه القلوب إلى حب ما لا يستهوي النفوسَ حبُه ويحذّرها من حبّ ما يصعب على النفوس الإعراض عنه والتحرّر منه .
قسّم كتابه الذي يقع في 175 صفحة إلى محورين رئيسين : الحب في القرآن – ودور الحب في حياة الإنسان .
ففي المحور الأول : يظهر لنا خبرته كعالم فذّ فيوضح من خلال الآيات الحكيمة : محبة الله للإنسان – ثم محبة الإنسان لله – ثم محبة الإنسان للإنسان .
وأما في المحور الثاني : فيَبرز المربي الرشيد و المحب الرقيق حين يؤكد لنا : أن الإنسان ثنائي التركيب – دور الحب في أعمال الدعوة و التعريف بالإسلام – آثار يحققها الحب في مسلك الدعوة إلى الله – الخاتمة .
في البداية يشرح لنا المؤلف أن القرآن الكريم يؤكد أن الله عز و جل أخضع كثيرا من المكونات لخدمة الإنسان و سخّرها لإنجاز مصالحه سواء من ذلك ما يتم بجهود يبذلها الإنسان
وما يتم من ذلك بخدمة ذاتية مباشرة دون حاجة إلى تدخل الإنسان وبذل شيء من جهده .
برز ذلك في تكريمه عز وجل لبني آدم ( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء 70
ويتبين مظهر ذلك التكريم في أمره عز وجل للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام ، وتكمن مهمة الإنسان في حياته الدنيا هذه في ضرورة العمل على استبقاء الحب الرباني الذي كان من آثاره مظاهر التكريم الكثيرة التي ميّزه الله بها ولا بد للإنسان من ولوج مسلكين :
1- الاحتفاظ بالمكرمة التي اختصه الله بها فيرقى إلى درجات المقربين .
2- تضييع هذه المكرمة بالإعراض عن المهمة المقدسة والاستغراق في الملهيات والملذات
فيهوي به إلى دركات الحيوان .
ويعرج الكاتب على إشكالية في مسألة الحب عند بعض الناس فإخراج الحب عن معناه الحقيقي وتأويله بالطاعة والإتباع يجعل المنافقين في مقدمة من يحبون الله ورسوله ويستدرك مبينا أن ثبوت محبة العبد لربه يستلزم طاعته له في الجملة ولكن طاعة العبد لا تستلزم حبه له لأن بين طاعة الله و محبته عموم و خصوص مطلق .
و يصل من ذلك إلى حقيقة لا ريب فيها و هي أن الذي يستحق الحب بمعناه الحقيقي غنما هو الله وحده لأن أسباب الحب مجتمعة بالمعنى الحقيقي فيه وحده فهو الجميل الذي انعكس جماله وظهر في الصور والأشكال التي يتراءى لنا فيها معنى الجمال وهو المحسن الذي تفرقت مظاهر إحسانه في أنواع الوسائل والأسباب وهي كلها من صنعه وتدبيره وهو العظيم الأوحد الذي دانت لعظمته سائر القدرات و خوارق الطاقات طوعا وكرها كما قال الله عز و جل .
هل من مستلزمات محبة الله عدم الوقوع في المعاصي ؟
إذا كان من أجل ّ وأولى ثمرات حب الإنسان لله اتباع المحبوب بالانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه فهل يعني أن الحب يستلزم من المحب العصمة من الذنوب والآثام ؟
وبعد نقاش وشرح يصل لنتيجة أن عزة الحب لله لا تستلزم كمال الانقياد الدائم لشرع الله وذلك لضعف الإنسان من جراء محدودية قدراته وتسلط الغرائز الحيوانية .
وقد ورد أن صحابيا اسمه نعيمان كان يُؤتَى به أكثر من مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتكب موجبا للحد فيُقام عليه الحد إلى أن أتي به يوما فحُدَّّ لشربه الخمرة فلعنه رجل وقال : ما أكثر ما يؤتى به رسول الله ! فقال رسول الله : ( لا تلعنه فإنه يحب الله و رسوله ) ص 63
دور الحب في حياة الإنسان :
يذهب المؤلف تحت هذا العنوان إلى أن الإنسان ثنائي التركيب لأنه عبارة عن عقل يدرك ووجدان يحب ويبغض وإنما الذي يعنينا من وظائفها كل من الوعي وما يتفرغ عنه من علم وإدراك والعاطفة وما تنقسم إليه من حب وكراهية و تنظيم وما يعنينا من ذلك الحب دون غيره .
إن مصدر الإيمان بالله عز و جل وما يتبعه من مستلزمات إنما هو الإدراك بواسطة العقل ولا يغني عنه أي بديل كتقليد الآباء أو إكراه الآخرين لذلك فإن التكليف بالإيمان يتعلق بمقدمات الإيمان وأسبابه وهو التأمل وإعمال العقل والفكر .
ويترتب على ذلك أن من لم يتأت له إعمال الفكر والتعامل مع الأدلة التي هي سبيل الوصول إلى الإيمان غير مكلف لأن المكلف به غير موجود وهو إعمال الفكر واتخاذ الأسباب الموصلة إلى الإيمان .
ثم يبين لنا المؤلف أن القيام لله بالأعمال الصالحة سبيله الحب أو الخوف ويريد بهذا أن يؤكد لنا أن مجرد الإيمان العقلي لا يقود صاحبه إلى الأعمال الصالحة إذا لم يقترن ذلك بالحب .
وفي مسألة أخرى ضمن هذا الموضوع يبين أن الاعتماد على الحب وحده آفة لا تحمد عقباه إذ ما أكثر ما ظُنًّ أن الحب وحده يكفي للسير على درب الحق فذهبوا ضحية حب أعزل لله ورسوله كما يوضح .
وحين نسأل الكاتب من هم ؟ يبين لنا أنهم :
أولئك المرشدون الزائفون الذين تعاملوا مع حبهم لله ورسوله في بادئ الأمر إذ كانوا صادقين ربما مع مشاعرهم على أساس من الجهل بضوابط العقائد الإيمانية والمبادئ والأحكام الشرعية فلما استرسلوا في نهجهم ذاك وذاقوا نشوة قيادتهم للمريدين وقطفوا ثمار استسلامهم لأوامرهم مرشديهم وتوجيهاتهم واستمتعوا بلذة خضوعهم لهم والتسابق إلى تقبيل أيديهم أصبحت يقظتهم إلى الضلال الذي وقعوا و أوقعوا فيه حتى أصبحوا يرون في الرجوع إلى ضوابط العلم عدوا لهم يمارسون عداوة شرسة لموازين العقل و ضوابط العلم .
لا شك أن الحب مهما كان مخلَصا فيه فإن عواقبه ستكون وخيمة إذا ما كان عن جهل ولم يقيد العقل بضوابطه السليمة .
لذلك حذر المؤلف من اتخاذ الحب أو دعوى الحب لله ورسوله وحده قائدا في السلوك إلى الله مع الاستهانة بالضوابط و الكوابح العقلية و العلمية التي يفيض كتاب الله تعالى بلفت النظر إلى أهميتها وضرورة الأخذ بها .