تحتفل الأُمَّة الإسلاميَّة في هذه الأيام المباركة بذكرى الهجرة النبويَّة الشريفة، التي تُعدُّ حدثًا مُهمًّا في التاريخ الإسلاميِّ، والتي نقلت الدَّعوة الإسلاميَّة من دعوة مضطهدة في مكَّة، إلى مظلَّة الدولة الإسلاميَّة التي كانت الهجرة النبويَّة حجر الزاوية الرئيس في إقامتها.
وتكتسب الهجرة النبويَّة أهمِّيتها ومكانتها من كونها اللبنة الأولى في البناء الإسلاميِّ الحضاريِّ، لِتكُونَ أولى نسمات الرحمة الإلهيَّة على البَشَريَّة جمعاء، والتي كانت انطلاقة مرحلة جديدة من البعثة النبويَّة المباركة. وبجانب تلك الأهمِّية التاريخيَّة للهجرة النبويَّة كحدثٍ، يبقى حدث الهجرة النبويَّة التي قام بها النَّبيُّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مع صاحبه أبو بكر الصديق، حدثًا عظيمًا نستلهم مِنْه الدروس والعِبَر، ونستخلص من جوهره القِيَم والمُثل العُليا التي نحتاج أنْ ننهلَ مِنْها في حياتنا المعاصرة. وأولى تلك القِيَم النبويَّة هي الإيمان المطلق بالله وعدم اهتزاز اليقين رغم ضيق الظروف وتحكُّمها، لِيكُونَ اليقين بالله هو طوق النجاة الذي تمسَّك به النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في مواجهة الأحداث الكبيرة الي واكبت الهجرة النبويَّة المباركة، عندما قال لصاحبه في غار حِراء: لا تحزن إنَّ الله معنا.
إنَّ الدروس المستفادة من الهجرة النبويَّة كثيرة وعميقة؛ فبجانب الإيمان المطلق بالله وقدرته التي تفوق قدرة البَشَر مهما بلغ مكرُهم وكيدُهم، كان الأخذ بالأسباب وحُسن التخطيط والتوظيف الأمثل للمشاركين في حدث الهجرة نموذجًا من الهدي النَّبويِّ الذي نحتاجه في حياتنا اليوميَّة، فهذا المزج بَيْنَ روحانيَّة اليقين ومادِّيَّة الأخذ بالأسباب وحُسن التدبير، هو عنوان الفلاح والنَّجاح لِمَنْ يلتمسُ العُلا، فقد بذل رسول الله والصحابيُّ أبو بكر الصدِّيق كُلَّ ما يُمكِن لإنجاح عمليَّة الهجرة من خلال الإعداد الجيِّد لكُلِّ خطوة بها، وحتَّى عندما سبَقَ كفَّار قريش الخطوة بحصار منزل النَّبيِّ، كان الثَّبات والثِّقة في قدرة الله هو طريق الخروج الآمن الذي سطَّر معجزة نبويَّة، ستظلُّ إحدى أهمِّ معجزات النَّبيِّ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ حينما أغشى الله عيون المشركين أمام بيت الرسول فلَمْ يروه وهو خارج، ولَمْ يجعلهم يلقون نظرة واحدة داخل غار ثور، وأغرق أقدام فرس سراقة في الرمال وألقى الرعب في قلبه ثمَّ هداه للإسلام.
كما كان إعلاء قِيمة الأمانة أحد أهمِّ الدروس التي يجِبُ أنْ نخرجَ بها من حادث الهجرة النبويَّة. فرغم أنَّ كفَّار قريش كانوا يستهدفون قتل النَّبيِّ ومنْعَه من الخروج، برزت قِيمة الأمانة في رحلة الهجرة، فنجد الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يأمر عليًّا بن أبي طالب ـ رضي الله عَنْه ـ بتأدية الأمانات التي كانت عِندَه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلى أهلها حتَّى وإنْ عادوه وأخرجوه، حتَّى وإنْ تآمروا على حياته، وذلك يتَّسق أكثر مع القِيَم النَّبويَّة، التي خرجت في الأساس لتأدية الأمانة للمولى عزَّ وجلَّ عَبْرَ تأدية أمانة الدَّعوة ونَشْر الدِّين، لذا كان الحرص على تأدية أمانة البَشَر حتَّى وإنْ كانوا أعداء رسالة إسلاميَّة لأهمِّية أداء الأمانة كواجب إسلامي لَمْ يُمكِن التراجع عنه. على أنَّ ما تكتنزه حادثة الهجرة الشريفة من أحداث وعِبَرٍ ودروس ومواعظ حريٌّ بالمُسلِمين اليوم أنْ يمتثلوها ويقتدوا بها، ولِتكُونَ لهم نبراسًا في دهماء حملات التغريب والإلحاد، وليظلُّوا قابضين على جذوة دِينهم.