تخطي إلى المحتوى
حين يخون الفن الحقيقة: الفنانون بين التواطؤ والمقاومة حين يخون الفن الحقيقة: الفنانون بين التواطؤ والمقاومة > حين يخون الفن الحقيقة: الفنانون بين التواطؤ والمقاومة

حين يخون الفن الحقيقة: الفنانون بين التواطؤ والمقاومة

في سياق العلاقة بين الفنان والسلطة، تبرز تساؤلات أخلاقية: هل يمكن أن يكون الفنان متواطئا مع سلطة مجرمة بحق الإنسان والمجتمع؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي مسؤوليته تجاه هذا التواطؤ؟ والتاريخ يحفل بأمثلة تُظهر كيف يمكن للفنان أن يصبح أداة بيد سلطة ظالمة، سواء عن قصد أو دون وعي كامل. ففي أنظمة شمولية مثل النازية أو الستالينية، استُخدم الفن، وسيلة دعائية لتمجيد النظام وقمع الوعي الجمعي. والفنان كونه جزءا من المجتمع، قد يجد نفسه تحت ضغوط متعددة: الخوف من العقاب، الرغبة في النجاح، أو حتى الانخداع بوعود السلطة.
هذه العوامل قد تدفعه لتبرير أفعال السلطة أو الترويج لها، ما يجعله شريكا في جرائمها، حتى لو لم يكن المنفذ المباشر. والفن، كوسيلة، تعبيرا وتأثيرا، يضع صاحبه أمام خيارين: إمَّا أن يكون صوتا للحقيقة أو أداة للخديعة. عبر التاريخ نجد أمثلة لفنانين اختاروا الوقوف إلى جانب الضمير الإنساني، رافضين تزييف الوعي، بينما انخرط آخرون في خدمة سلطات ظالمة، مساهمين في صياغة الوهم.

فواخرجي وتعقيدات العلاقة

في هذا السياق أثارت الممثلة السورية سولاف فواخرجي جدلا واسعا بسبب موقفها الداعم لنظام بشار الأسد، حتى بعد سقوطه في ديسمبر/كانون الأول 2024. رغم الانتقادات الحادة التي واجهتها. وإصرارها على الوقوف إلى جانب نظام الأسد قد يكون مزيجا من الولاء الأيديولوجي، والمصلحة الشخصية، والخوف من المستقبل. وسواء كانت مدفوعة بقناعة حقيقية، أو بحسابات براغماتية، فإن موقفها يعكس تعقيدات العلاقة بين الفنان والسلطة في أوقات الأزمات. وربما موقفها في نظر السوريين، سيبقى نقطة سوداء في مسيرتها الفنية، طالما يرون في النظام السابق رمزا للقهر والدمار. وأن موقفها ليس مجرد رأي شخصي، بل تواطؤ مع نظام متهم بقتل الآلاف وتشريد الملايين. وتصريحاتها الأخيرة، مثل تشكيكها في اعتقال الفنانة المعارضة مي سكاف، أو دفاعها عن ماهر الأسد، اعتُبرت استفزازية وفاقدة للمصداقية من قبل الكثيرين، حتى إن منتقديها وصفوها بـ»الشبيحة»، لأنها اختارت مصالحها على حساب الحقيقة. ويبقى اختيارها يثير سؤالا أعمق: هل يمكن للفنان أن يفصل بين فنه ومسؤوليته الأخلاقية تجاه شعبه؟

مسؤولية الفنان

إذا سلّمنا بأن الفنان قد يكون متواطئا، فإن السؤال الأكبر يصبح: ما هي مسؤوليته؟ الفنان ليس مجرد فرد عادي؛ إنه صوت مؤثر يمتلك القدرة على تشكيل الوعي العام. هذه القوة تجعل مسؤوليته مضاعفة، لأن أعماله لا تؤثر فيه وحده، بل تمتد إلى المجتمع بأسره. والفن، كما يراه الكثيرون، تعبير عن الإنسانية، وأي انحراف عن هذا المبدأ يُعتبر انحرافا عن جوهر الفن . وعندما يختار الفنان تزيين واجهة سلطة مجرمة، فإنه لا يخون المجتمع فحسب، بل يفقد مصداقيته كفنان، ومسؤوليته تشمل الشجاعة الأخلاقية.. وفي ظل الظلم، فالسكوت ليس حيادا، بل هو اختيار.

ضد التحريف

فنانون مثل بابلو بيكاسو، الذي رسم «غورنيكا» لفضح وحشية الحرب، أظهروا كيف يمكن للفن أن يكون أداة مقاومة بدلا من أن يكون أداة خضوع. على النقيض، فإن الفنان الذي يصمت، أو يُشارك في تلميع صورة الظلم يتحمل وزر تشويه الحقيقة وتخدير الضمير الجمعي.
الشاعر الروسي أوسيب ماندلشتام، الذي عاش في ظل الستالينية، في ثلاثينيات القرن العشرين، كتب قصيدة ساخرة ضد ستالين، عرفها النقاد بـ»قصيدة ستالين»، مُعرضا حياته للخطر، رغم اعتقاله ونفيه ووفاته لاحقا في معسكر عمل، ظل ماندلشتام صوتا للحقيقة، رافضا استغلال موهبته لتلميع صورة نظام قمعي.
وفي العالم العربي، هناك العديد من الأسماء التي رفضت تحريف الحقائق لصالح السلطة، وتحملت الكثير من الظروف الصعبة نتيجة موقفها ولم تتراجع. منهم على سبيل المثال: فدوى سيلمان، سامر المصري، مكسيم خليل، عبد الحكيم قطيفان، غطفان غنون، عمر واكد، خالد أبو النجا، عبد الغني قمر، نجيب سرو، محسنة توفيق، ناهدة الرماح، وداد سالم، زينب.

بين الحرية والمسؤولية

مع ذلك لا يمكن تجاهل تعقيدات الواقع، فقد يواجه الفنان تهديدات مباشرة لحياته أو عائلته، مما يضعه في مأزق أخلاقي، فهل يُلام الفنان الذي يختار النجاة على المواجهة؟ هنا، يصبح الحكم نسبيا، لكن يبقى السؤال: هل الانصياع للسلطة المجرمة يُبرر التضحية بالمبادئ؟ إمكانية تواطؤ الفنان مع سلطة مجرمة ليست مجرد احتمال، بل هي واقع شهدناه عبر التاريخ، لكن المسؤولية تبقى واضحة: الفنان مدعو لأن يكون صوت الضمير، لا أداة للقمع. إذا كان الفن يملك القدرة على تغيير العالم، فإن هذه القدرة تأتي مع واجب أخلاقي لا يمكن التنصل منه. بين خياري المقاومة والخضوع، يبقى الفنان هو من يحدد إرثه: هل سيكون شاهدا على الحقيقة أم شريكا في الجريمة؟

تعزيز الوهم

على النقيض، هناك فنانون اختاروا الانحياز للسلطة المجرمة، مُساهمين في تزييف الوعي. واحدة من أشهر الأمثلة هي المخرجة الألمانية ليني ريفنستال. في ثلاثينيات القرن العشرين، أنتجت أفلاما دعائية للنظام النازي، مثل «انتصار الإرادة»، الذي مجّد هتلر والحزب النازي، رغم دفاعها لاحقا بأنها كانت «فنانة فقط» وليست سياسية، إلا أن عملها ساهم في تعزيز الدعاية النازية وتخدير الشعب الألماني عن حقيقة الجرائم التي كانت تُرتكب. وفي الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، نجد الملحن ديمتري شوستاكوفيتش كمثال معقد. فقد تعرض في بداية مسيرته الفنية لانتقادات النظام الستاليني، بسبب أعماله «الطليعية»، لكنه لاحقا أُجبر على تأليف موسيقى تمجد الدولة لتجنب العقاب. رغم أن بعض النقاد يرون في أعماله سخرية خفية، إلاَّ أن خضوعه الظاهري للنظام جعله أداة في يد الدعاية السوفييتية.
وفي العالم العربي، يمكن الإشارة إلى فنانين قدّموا أغاني وأفلاما ومسرحيات تمجد أنظمة قمعية، وتُظهر حكاما مستبدين كأبطال شعبيين، دون أن نُسمي أسماء بعينها لأن الظاهرة تتكرر. هؤلاء، سواء بدافع الخوف أو المصلحة، ساهموا في تعزيز الوهم وتزييف الحقيقة.
إن فنانين مثل ليني ريفنستال، التي أنتجت أفلاما دعائية لصالح هتلر، فإن أفلامها تُظهر كيف يمكن للموهبة الفنية أن تُوظَّف لخدمة أجندة إجرامية. وهنا، لا يقتصر التواطؤ على المشاركة المباشرة، بل قد يمتد إلى السكوت عن الجرائم أو تقديمها بصورة مُجمَّلة تخفي بشاعتها.
الفرق بين الفريقين يكمن في الاختيار الأخلاقي. الفنانون الذين وقفوا مع الحقيقة، تحملوا المخاطر، وتركوا إرثا يُلهم الأجيال. أما أولئك الذين تورطوا في الخديعة، فغالبا ما ارتبطت أسماؤهم بالعار، حتى لو برروا أفعالهم بالضغوط الخارجية. الشجاعة أو الخضوع هما ما يحددان مصير الفنان: هل يكون شاهدا على عصره أم مجرد أداة في يد السلطة؟

المصدر: 
القدس العربي