لدى الحديث عن أعلام الفكر والثقافة في المملكة العربية السعودية، لا بد أن يحضر اسم الدكتور سعد عبد الله الصويان، الأكاديمي والباحث المختص في التاريخ الشفاهي والشعر النبطي في الجزيرة العربية، الذي بذل جهودا مشهودة في توثيق فترة مهمة من تاريخ السعودية، والتي بدأ بها قبل حصوله على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وحملت عنوان “الأنثروبولوجيا والفلكلور والدراسات الشرقية”.
تولى الدكتور الصويان مناصب علمية وبحثية عدة وحقق إنجازات عدّة مضيئة. عن تجربته في توثيق الموروث الشفاهي، يقول: “خصوصية المجتمع السعودي أنه عاش حياة الشفاهة حتى وقت قريب، ولم يظهر التدوين إلا في مراحل متأخرة، والأجيال التي تحتفظ بهذا الموروث الشفاهي تتخطفهم يد المنون ويدفن معهم ما يختزنونه في الذاكرة من معلومات شفاهية. ومن المحزن أننا مقصرون كل التقصير في توثيق هذا الموروث الشفاهي الثري والأصيل، وهذا مما يفاقم خطر التغريب ويؤدي إلى اضمحلال الهوية”.
المشروع الوثائقي
بين عامي 1991 و2001 شغل الدكتور الصويان منصب رئيس ومدير عام "المشروع الوثائقي الملك عبد العزيز آل سعود"، وعمل في تلك الفترة على توثيق سيرة الملك عبدالعزيز وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية، وصدر عن دار الدائرة للنشر والتوثيق في عشرين مجلدا. كما كان الدكتور الصويان المشرف العلمي ورئيس هيئة تحـرير المشـروع الوثائقي الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية الذي صدر في ثلاثة عشر مجلدا. يقول: "الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز أدرك أهمية المشروعين ولم يبخل عليهما وبَذَل كل ما يلزم لإخراجهما بالشكل اللائق الذي يفيد الباحثين في تاريخ المملكة العربية السعودية وثقافتها". ويضيف: "كانت طواقم العمل على المشروعين كلهم من أساتذة الجامعات وذوي الاختصاص مما ضمن جودة العمل ومصداقيته. ومما يضفي أهمية خاصة على مشروع الوثائق أنني أعطيت تعليمات واضحة للمترجمين/الملخصين أن لا يمر في أي وثيقة اسم لشخص أو عائلة ساهموا مع الملك عبدالعزيز في توحيد البلاد وبناء الدولة إلا ويذكر اسمه في ملخص الوثيقة".
ويوضح الدكتور الصويان: "كل من اطلع على هذين العملين يشهد على أنهما أُنجزا على خير وجه. وأنصع دليل على أهمية مشروع الوثائق أنه منذ صدور المجلدات والباحثون يتلهفون للاطلاع عليها، إلا أنه مع الأسف هناك جهة تدعي الوصاية على تاريخنا صادرت جميع المجلدات المطبوعة ومنعتها من التداول، وهي 19 مجلدا ضخما". ويذكر: "مشروع الثقافة التقليدية يقع في 13 مجلدا ضخما توثق مختلف مظاهر الثقافة التقليدية، وتتبعنا تطور بعض هذه المظاهر الثقافية عبر أطوار التاريخ، والمشروعان من أهم المشاريع التوثيقية لكن مآلهما، مع الأسف، كان اليتم والضياع".
الشعر النبطي في جزيرة العرب لا يقل عن الشعر الجاهلي قيمة فنية ولغوية وتاريخية. عدم تقدير أهمية هذا المنتج الفني علامة جهل فاضح. ولقد وظفت دراساتي عن الشعر النبطي لإلقاء بعض الضوء الكاشف على شعر الجاهلية وصدر الإسلام
عمل تنويري
فاز الدكتور سعد الصويان مناصفة مع الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري بجائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية عام 2016. وكرمه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى لاتحاد دولة الإمارات حاكم الشارقة، في العام 2017 خلال ملتقى الشارقة الدولي للكتاب.
ومن قبل ذلك تحديدا في العام 2014 حصل الدكتور الصويان على جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع التنمية وبناء الدولة عن كتابه "ملحمة التطور البشري" وكشفت لجنة التحكيم حينها أن نيله الجائزة جاء بسبب المجهود الضخم الذي بذله في جمع المادة العلمية والاطلاع على طيف كبير من المناهج المستخدمة في العلوم الاجتماعية كما يظهر في الكم الضخم من المراجع، ولقدرة الكتاب على تتبع فكرة التطور ونقل منهجها من الميدان البيولوجي إلى الميدان الاجتماعي والاقتصادي والربط بين هذه الأبعاد، إضافة إلى تعزيز الدراسات الأنثروبولوجية في المكتبة العربية وهي دراسات قليلة مقارنة بالدراسات الاجتماعية.
تبحث هذه الدراسة التي تقع في 1014 صفحة من القطع الكبير، في مسألة التطور البشري من منظور أنثروبولوجي وتقدم دراسة تفصيلية تحتوي على توصيف شامل، أو يكاد، لمراحل التطوّر البشري كافة، وأبرز الإسهامات التي وفّرها علماء الأنثروبولوجيا في هذا المضمار، على مر العصور. ومن هنا تتجلى أهمية العمل في ما بذله الدكتور الصويان من جهود شاقة لتعريب المصطلحات. عن هذا التكريم يقول: "في رأيي أن كتابي 'الصحراء العربية: شعرها وثقافتها عبر العصور' هو الأجدر بنيل جائزة الشيخ زايد لأنه من بنات أفكاري ونتيجة لجهودي البحثية، بينما 'ملحمة التطور البشري' مجرد نقل معرفي من مصادر أجنبية، لكنه يبقى عملا معرفيا وتنويريا أعتز به. ولعل ما جذب هيئة التحكيم للكتاب هو عنوانه الصارخ وغير المألوف في الكتابات العربية. ومع ذلك فقد جاء التكريم في وقت كنت فيه محبطا جدا".
ويضيف: "فقد استقبل معظم القراء، خصوصا الأعلى صوتا منهم، كتاب الملحمة لا على أنه عمل يطرح أمام القارئ أحدث النظريات الأنثروبولوجية، بل على أنه رجس يعارض السرديات الدينية. مع ذلك فقد سعدت جدا بالجائزة لكن أحزنني ضعف التغطية الإعلامية للحدث، أقصد التغطية التي توصل فحوى العمل ومضامينه التنويرية لشريحة عريضة من القراء". والكتاب الذي كان بمثابة البانوراما التي تناول فيها الدكتور الصويان كثيرا من الميادين البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك، كان له طقوسه الخاصة عند التأليف. يوضح الدكتور الصويان: "كتاب الملحمة استغرق مني تأليفه وقتا طويلا، خصوصا أنني مهووس بالصياغة. حينما أكتب أتلبس شخصية القارئ العادي غير المتخصص فيكون همي كيف يمكنني توصيل الأفكار المركبة لهذا القارئ العادي وأستحثه على مواصلة القراءة واستطعام المعلومة".
أتمنى أن أتمكن قبل أن أودع هذه الحياة من أن أقرأ كتابي "أيام العرب الأواخر" مسجلا بصوتي لأن الكتاب عبارة عن "سوالف" كتبتها بلغتها العامية الأصلية والقليل من القراء لديهم القدرة على قراءة ما يكتب باللهجة العامية قراءة صحيحة
سوالف بالعامية
للشعر أهمية خاصة عند الدكتور الصويان وأصدر في هذا المجال عدة كتب منها "فهرست الشعر النبطي"، "الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور- قراءة أنثربولوجية"، و"الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص". عن هذا الشعر يقول: "الشعر النبطي في جزيرة العرب لا يقل عن الشعر الجاهلي قيمة فنية ولغوية وتاريخية. وعدم تقدير أهمية هذا المنتج الفني علامة جهل فاضح. ولقد وظفت دراساتي عن الشعر النبطي لإلقاء بعض الضوء الكاشف على شعر الجاهلية وصدر الإسلام، خصوصا فيما يتعلق بآليات النظم والرواية والأداء. ولتأكيد أن الشعر النبطي ما هو إلا امتداد حي للشعر الجاهلي المنقرض، ولإثبات أن ما ينطبق على الشعر النبطي ينطبق على شعر الجاهلية وصدر الإسلام فيما يخص آليات النظم والرواية والتداول. هذا عدا ما يتضمنه هذا الشعر من معلومات عن تاريخ الجزيرة العربية ومجتمعاتها ولهجاتها".
حديث الدكتور الصويان عن الشعر وشغفه به يدفعنا إلى سؤاله إن كان قد كتب الشعر يوما؟ فيجيب: "كان أحد فصول كتابي عن الشعر النبطي يتناول عملية نظم القصيدة والحالة الذهنية والنفسية التي تنتاب الشاعر أثناء هذه العملية. ولكي أستبطن هذه المشاعر نظمت عددا من القصائد القصيرة فقط لأمارس عملية النظم وأفهمها على وجهها الصحيح. لكنني لم أحتفظ بشيء من هذه القصائد لأنها لم تكن تعبر عن مشاعر شخصية وتجارب حياتية، وإنما هي مجرد عيّنات مخبرية ركيكة".
وأخيرا، يقول الصويان: "الصحة لم تعد تساعد على عمل الكثير، لكن ما أتمناه هو أن أتمكن قبل أن أودّع هذه الحياة من أن أقرأ كتابي 'أيام العرب الأواخر' مسجلا بصوتي، لأن الكتاب عبارة عن 'سوالف' كتبتها بلغتها العامية الأصلية والقليل من القراء لديهم القدرة على قراءة ما يكتب باللهجة العامية قراءة صحيحة".