ينقلنا الكتاب الذي بين أيدينا إلى طور جديد من الأطوار التي قطعتها «دار الفكر» في مسيرتها الحوارية المتميزة؛ فلقد دأبت على إصدار سلسلة من الحوارات الثنائية في مختلف المجالات الفكرية والسياسية، أي حوارات تجمع بين طرفين اثنين لكل منهما رأيٌ خاص في السؤال المطروح أو المسألة المعروضة؛ وها هي ذي اليوم تُصدر حواراً استجوابياً متعدد الأطراف ، إذ يبلغ عدد المستجوبين تسعة عشر فرداً هم من صفوة العلماء والمفكرين والباحثين، طُرِحت على كل واحد منهم أسئلةٌ تكاد تتحد بمضمونها واتجاهها؛ وبذلك، يصح القول إن الحوار هنا، ولو أنه لَم يَجْرِ بين المثقفين بشكل مباشر - أي بعضهم مع بعض - فقد جرى بينهم حقيقةً، ولكن، هذه المرة، بواسطة، إذ كانت «دار الفكر» هي هذه الواسطة؛ وحينئذ، لا شيء يكون أنسب لتقديم هذه الأجوبة من أن نستخرج بعض عناصر هذه الحوارية غير المباشرة التي ضمها الكتاب الجديد (الخطاب الإسلامي إلى أين؟).
وحتى نقف على هذه العناصر الحوارية، نقسّم الإجابات عن الأسئلة المطروحة إلى ثلاث مجموعات، تتعلق أولاها بأوضاع العالم الإسلامي وأسبابها وأولويات المفكر إزاءها؛ والثانية تدور حول الخطاب الإسلامي والحركات الإسلامية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001؛ والثالثة تتناول الحوارات المختلفة بين المسلمين وغيرهم، متدينين وعلمانيين؛ ثم نستنبط من كل مجموعة جملة من الأقوال والآراء - أو، بالاصطلاح، «الدعاوى» و«الأطروحات» - المتعارضة التي تضمنتها[(1)]، مع العلم بأن التعارض ينزل منزلة شرط الانطلاق من شروط الممارسة الحوارية؛ وإسهاماً منا في تقرير هذه الحوارية غير المباشرة بين الآراء المختلفة، سوف نذيّل كل واحدة من هذه المجموعات الثلاث بكلام نتعقّب فيه بعض الأسباب التي دعت إلى اختلاف الآراء، ونهضت بهذه الحوارية الخاصة بين المشاركين في هذا الكتاب.
فمِمّا تتضمنه المجموعة الأولى نجد الآراء المتعارضة التي تتحدث عن أوضاع العالم الإسلامي.
فهناك ابتداءً رأي يقول إِن العالم الإسلامي لم يشهد في تاريخه الطويل حالة أسوأ من هذه التي هو عليها الآن، حتى إنه لا يتبدَّى في الأفق القريب سبيلٌ للخروج منها؛ إذ يعاني من التيه في الفكر والسياسة، فالعلمنة المفروضة على مؤسساته تقطع صلاته بالإسلام، والتبعية المطلقة لقرارت غيره تقطع عنه أسباب التقدم؛ وفي المقابل، نجد مَن يدَّعي بأن العالم الإسلامي ليس بالسوء الذي يبدِّد كل أمل في اهتدائه إلى طريق النهوض؛ فبفضل يقظة إسلامية تكاد تسري آثارها في مختلف أقطار الأرض، يستطيع أن يتصدى للهجمات الفكرية والحملات الاستعمارية التي تستهدفه، كاسراً شوكتها ومجدداً صلاته بدينه وتاريخه في أفق استعادة دوره الحضاري.
وهناك أيضاً رأي يقول إنَّ العالم الإسلامي يراكم إخفاقات كثيرة تكشف عن أزمة شاملة تُكرس «الفوات الحضاري» بينه وبين بقية العالم المتمدن؛ منها إخفاق النخب الحاكمة، وإخفاق الدولة القُطرية الحديثة، وإخفاق مشاريع النهوض، وإخفاق خطط التنمية، وإخفاق تجربة الاستقلال، وإخفاق التيارات العلمانية، وإخفاق الحركات الإسلامية، وإخفاق الدولة الأمنية، حتى كأن هذا العالم حطامٌ، ويعارض هذا الرأيَ من يقول إن العالم الإسلامي حقق نجاحات مختلفة؛ فقد أضحى بمقدوره أن يستوعب الحداثة على شرط الإسلام وعلى مقتضى مصالح المسلمين، واضعاً حداً لتزايد نفوذ العلمانية في داخله؛ وليس هذا فحسب، بل إن الإسلام صار قادراً على أن يمد جذوره في البلاد غير الإسلامية، وأن يتعاطى أبناؤه اجتهادات متميزة تناسب خصوصيات تلك البلاد.
ونجد أخيراً رأياً يدّعي أن العالم الإسلامي تسيطر عليه فئات متشددة تتجه إلى مخاصمة العالم كله، فضلاً عن مخاصمة بني جلدتها وملّتها ممن لا يشاركونها تشدُّدها، مُجبرة المسلمين كافة على الدخول في صراع مع قِوى لا طاقة لهم بها؛ وفي المقابل، نجد الذين يقولون إنَّ العالم الإسلامي يحتضن أكثر من صنف واحد من الجماعات الناشطة؛ فمنهم من يذهب إلى أن الساحة الإسلامية تشهد صراعاً عنيفاً بين فئتين اثنتين، إحداهما علمانية تمارس الإرهاب اليساري، متعاطيةً تخريب المقومات الروحية للأمة باسم الحداثة؛ والفئة الثانية أصولية تمارس الإرهاب الديني، متعاطيةً تخريب مجهودات النهوض المادي للأمة باسم الأصالة؛ ومنهم من يرى أن هذه الساحة تضمُّ فئات متعددة متنافرة، منها ذات النزعة المانَوية التي تدفع إلى الصدام؛ ومنها المأخوذة بالخوف على الهوية الإسلامية، مختارةً الانغلاق على التعامل مع «العالم الجاهلي»؛ ومنها، على العكس من ذلك، المتطلعة إلى تجديد حضارتها وابتكار حداثتها.
كما تتضمن المجموعة نفسها آراء متضادة تورد الأسباب التي أدت إلى الأوضاع التي يعاني منها العالم الإسلامي.
فمن المشاركين في هذه الحوارات مَن يرى أن الأسباب التي أدت إلى الوضع المتدني للعالم الإسلامي ترجع إلى أسباب محصورة ومخصوصة كالاستعمار والاستبداد؛ أو إلى أسباب مركزية معلومة كإخفاق النخب الحاكمة وإخفاق مشاريع الإصلاح، وعلى العكس من ذلك، هناك الرأي الذي يقول إنَّ هذه الأسباب عديدة ومركبة ومتشابكة ولها امتدادات بعيدة في تاريخ الأمة، منها الموروث الفكري والثقافي المتمثل في المعتقدات والسلوكات الباطلة، بالإضافة إلى توقُّف عملية الاجتهاد لقرون عدة؛ ومنها حالة التمزق الشامل التي خلَّفها الاستعمار الأجنبي بأشكاله المختلفة، بين احتلال للأوطان؛ وغزو للفكر والثقافة؛ واستيلاء على الاقتصاد والثروات؛ واستخلاف لنخب فكرية أو عسكرية موالية له عند جلائه عن الأوطان؛ ومنها كذلك المعاناة الطويلة للتخلف في المجالات كافةً حتى الأخلاقيةِ والروحية، فضلاً عن اهتزاز الثوابت التي تنبني عليها الهوية الإسلامية.
ومن المشاركين أيضاً من يعتقد أن الأسباب التي أدت إلى الوضع المتدني للعالم الإسلامي هي أصلاً أسباب داخلية، منها سقوط الخلافة؛ والقابلية للاستعمار؛ والانغلاق الثقافي؛ وجمود الفكر الديني؛ والافتقار إلى العقل النقدي؛ وانتشار الحكم الاستبدادي؛ وفي المقابل، نجد أصحاب الرأي القائل إنَّ هذا الوضع نتج عن أسباب داخلية وخارجية مجتمعةً؛ إلا أن منهم فئة تقول بوجود تداخل بين النوعين من الأسباب، فلا يقل أحدهما تأثيراً في هذا الوضع المزري عن الآخر؛ في حين تقول فئة أخرى بوجود تفاوت في هذا الأثر، إما بترجيح تأثير الأسباب الداخلية كالثقافة القائمة على تمجيد الحكام المتسلطين وغياب القيادة السياسية الكفءِ والملتزمة، أو بترجيح تأثير الأسباب الخارجية من مثل سياسات الدول الغربية نحو العالم الإسلامي واستمرار الحرب الصليبية إلى هذا اليوم، متخذةً وجهاً جديداً.
وثمة أخيراً قول بأن هذه الأسباب إنما هي وليدة الظروف الدولية والأوضاع السياسية المستجدة في العالم، متمثلةً في اكتساح ظاهرة العولمة لدوائر الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام في مختلف الأقطار الإسلامية، وبروز القطبية الواحدية، وتفاقم سياسات الاستتباع، وإحكام السيطرة على ثروات العالم الإسلامي الذي تنتهجه القوى العظمى؛ ويعارضه قولٌ إنَّ هذه الأسباب تعود إلى فترات قديمة من تاريخ الأمة، يرجعها بعض الباحثين إلى الحدث الفاصل في هذا التاريخ، وهو سقوط الخلافة، وما تلاه من تقسيم للعالم الإسلامي إلى شتات من الدويلات؛ في حين يرجعها غيرهم إلى ما قبل هذه الفترة، عندما تعرَّض هذا العالم للحملة الاستعمارية الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ بل منهم من ردَّها إلى فترة الحروب الصليبية، وهي، في نظره، حروب، لو تأملها المرء مليّاً، لأدرك أن المسلمين إنما توهموا الفوز بالنصر فيها، إذ لو انتصروا فيها حقاً، لما بدأ معها عصر الانحطاط الذي دخلوا فيه.
وأخيراً، تتضمن هذه المجموعة الدعاوى المتقابلة المتعلقة بالأولويات التي تمليها أوضاع العالم الإسلامي على المفكر الإسلامي أو العربي.
فهناك دعوى تؤكد على أن الأولويات التي تُطرح على المفكر الإسلامي أو العربي تغيّرت بعد أحداث 11 أيلول 2001، إذ إِنَّ أسئلة النهضة أصبحت غير ما كانت عليه قبل هذه الأحداث، فأضحت تدور على تحديات أشد خطورة وأكثر تهديداً لمصير الأمة؛ فبعد أن كان سؤالها الأساسي هو: «لِم تأخَّرنا وتقدَّم غيرنا»؟، أصبحت صيغته اليوم هي: «لِمَ نُجْتثُّ ويتمكَّن غيرنا؟» ؛ ونجد من يعارض هذا التأكيد، قائلاً إنَّ أولويات المفكر لا تتحدد بهذه الأحداث، على هولها؛ ذلك أن ما يقع في الغرب لا يجوز أن يحدِّد منطلقات الأمة ومختاراتها، إلا ما يكون من تحصيل الوعي بالمتغيرات العالمية، لأن الواجب في هذه الأولويات أن تأتي على شرط التداول الداخلي الإسلامي، مراعية رسالة الأمة وما تقتضيه من مسؤوليات بغض النظر عن هذا الحدث أو ذاك.
وهناك أيضاً دعوى تقول إنَّ أولويات المفكر، بعد أحداث أيلول، تتحدد بصياغة مشروع نهضوي تنويري قومي جديد يختلف عن سابق المشاريع النهضوية بكونه لا يتعلق بكيفية الخروج من التخلف، طالباً تقدُّماً يضاهي التقدم الغربي، وإنما يتعلق بكيفية الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية ذاتها التي يسعى النظام العالمي الجديد إلى محوها؛ وعلى خلاف ذلك، هناك الرأي الذي يقول إنَّ هذه الأولويات تتحدد بوضع تصور إسلامي جديد على مقتضى منهج علمي دقيق يتصدي لتحديات المرحلة الراهنة، ويضبط العمل الإسلامي، ويراقب ساحته الواسعة، بانياً له على أسس شرعية أصيلة ترعى مصالح الأمة، ودافعاً عنه الحالاث العبثية التي تتسبب فيها تصرفات بعض الأفراد والفئات.
وهناك كذلك دعوى تقرر أن هذه الأولويات تتقدمها مهمة الدفاع عن صورة الدين الإسلامي؛ فبعد الأحداث، صار الغرب يقرن الإسلام بالتطرف والإرهاب والهمجية وإرادة القضاء على التمدن، مستحضراً الصورة النمطية التي كان يغذيها بخياله ويخنزنها في ذاكرته عن هذا الدين منذ انطلاق الحملات الاستعمارية للشرق؛ فيلزم العمل على تغيير هذه الصورة المشوَّهة والمحرَّفة عن الإسلام وتبرئته من هذه التهم الرخيصة التي اتخذها بعضهم ذريعة للدعوة إلى تغييره من الداخل ولحمل الحكومات الإسلامية على تبديل مناهج التعليم الدينية؛ وفي مقابل ذلك، ثمة من يرى أن هذه الأولويات تقتضي تجاوز مقام الدفاع ودفع الشبهات إلى مقام الإبداع والتأصيل، إذ الدفاع لا يعدو كونه رداتِ فعل على ما هو ظرفي ونسبي وعلى ما يحدده الآخر من آفاق يريد أن نتحرك اتجاهها، أمَّا نحن فمطالبون ببناء نظريات متميزة في الفكر الإسلامي ترفع التحديات القائمة، وبإعادة قراءة النصوص على ضوء الحاجات المستجدة للمجتمع الإسلامي مع حفظ الهوية الثقافية، بل ينبغي إعادة النظر في الأصول وتجديد علوم الدين بشرط تحصيل التمكن فيها، وكذلك إنشاءُ مؤسسات الاجتهاد الجماعي؛ كل ذلك ليس إلا خطوة في طريق ما يجب على الأمة فعله لكي تمتلك أسباب القوة وتتحقق بمقتضى «الاستعداد الرادع».
ونجد دعوى أخرى تقول إنَّ أهم الأولويات للخروج من هذا الوضع المتأزم هو أن يمارس المفكر النقد الجذري للذات وأن يداوِمَ على هذه المراجعة، حتى يقف على مواطن الخلل والقصور التي تَصدُّ المسلمين عن عالم الثقافة المعاصرة، وتجعلهم لا يدركون عمق التغيرات التي طرأت على الحضارة الإنسانية؛ ويدفعها الرأي القائل إنَّ الأولوية الأساس هي أن يدخل المفكر في حوار شامل مع الذات، لا ليمارس شديد النقد عليها، متتبعاً أخطاءها وعيوبها، ولكن ليتبيّن مدى استيعابه للصورة الإسلامية وإيمانه العميق بها؛ حتى إذا فرغ من ذلك، حُقَّ له أن يشتغل بحوار كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، مكتشفاً طاقات الأمة ومجالات التعاون بين مكوناتها؛ ولا يندفع في حوار الآخرين من غير المسلمين إلا بعد استكمال هذا العمل الحواري الإسلامي، لكي يقتدر على أن يوضح لهم الصورة الإسلامية على أفضل وجه.
وأخيراً ثمة دعوى تؤكد أن أولويات المفكر هي الكشف عن العوائق التي تحول دون نهوض الأمة والتي ترجع، في مجملها، إلى الاستغراق في قضايا الإيمان والعبادات وإهمال الاشتغال بالأسباب المادية والحضارية، بالإضافة إلى العائق المنهجي الذي يمثله انقطاع الصلة بين المفكر والفقيه، مع أن أدوارهما تتكامل فيما بينها؛ ويخالفها الرأي الذي يقول بضرورة الانتقال إلى طرح المنظور الإسلامي بحسب مقتضيات العصر؛ فلا بد من إنشاء خطاب إسلامي مبدئي يأخذ بأسباب الاعتدال والانفتاح وقبول الآخر وبالعقلانية والواقعية والشمولية، طارحاً الإسلام بلغة تستجيب لثقافة العصر بعد استيعاب الثقافة الأصلية، وساعياً إلى تحديث مضامينه دون التفريط في الثوابت بعد قراءة فاحصة للتاريخ الإسلامي تساعد على التعامل مع تحديات الواقع.
هذه هي جملة قضايا الحوارية غير المباشرة التي تنطوي عليها المجموعة الأولى من الأجوبة؛ فلنذكر الآن بعض الأسباب التي ربما تكون قد أثَّرت في اختلاف الآراء في نطاق هذه المجموعة.
الكتاب: (كتاب الخطاب الإسلامي إلى أين؟) /
الكاتب: وحيد تاجا
الناشر: دار الفكر بدمشق ودار الفكر المعاصر في بيروت ودبي....
المصدر: