وأما المجموعة الثالثة من الأجوبة، فتتعلق بكيفيات إنهاء الصراعات وإقامة الحوارات بين المسلمين وغيرهم داخل أوطانهم وخارجها.. فمن المشاركين من يصرح بأن صراع الحضارات حالة قائمة لا يمكن الالتفاف عليها، وبالأولى لا يمكن إنكارها، لأن الحقيقة واحدة غير متعددة، والاختلاف فيها يفضي حتما إلى التنازع؛ والشاهد على ذلك أن الساحة العالمية تشهد صراعات مختلفة منها «الصراع الأمريكي الإسلامي» و«الصراع الروسي الشيشاني» و«الصراع الإسرائيلي العربي» و«الصراع الهندي الباكستاني» و«الصراع الصربي البوسني»؛ وفي المقابل، منهم من يؤكد أن صراع الحضارات لا وجود له في الواقع، وإنما الذي يوجد حقّا هو صراع على المصالح بين قوى كبرى - على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية - تسعى إلى بسط هيمنتها على العالم كله، وإلا فلا أقل من بسطها على مناطقه التي تزخر بالثروات وتحتوي على مصادر الطاقة، غير أنها تُغطّي ذلك بلباس فكراني مختلَق تُضلل به الرأي العام المحلي والعالمي، وتسوغ به مخططاتها الرهيبة في التوسع والنهب.
وهناك مَن يرى أن أطروحة «صراع الحضارات» - التي انبنت على فرضيةِ أن في العالم حضارات متعددة ذات توجهات مخالفة للتوجه الليبرالي
الغربي - وقعت ترجمتها، على أرض الواقع، في صراع واحد قائم بين طرفين اثنين فقط هما: العالم الغربي والعالم الإسلامي، مع عدِّ المسلمين هم وحدهم المسؤولين عن إثارة هذا الصراع الذي لا ينفع معه إلا استخدام القوة؛ إذ إنهم اختاروا بمحض إرادتهم واستناداً إلى عقيدتهم أن يجعلوا من الغرب عدواً لهم، مصرين على استعمال منطق القوة معه ولو أنهم لا يملكون من أسبابها إلا الحد الأدنى؛ وعلى العكس من ذلك، يرى آخرون أن الغرب هو الذي أدخل العالم في لُجّ صراع الحضارات منذ انطلاق حملاته الاستعمارية، مدمّراً الثقافات والتراثات المحلية لكثير من الشعوب، ومسلّطاً عليها ثقافته الأوربية باسم الكونية، بل إنه سعى، في نهاية المطاف، إلى أن يجعل فصول الصراع الحضاري تدور في ساحة العالم الإسلامي وحده؛ وقد اتخذ هذا الصراع فيها الآن إما صورة صراع بين حركات إسلامية مقاوِمة للوجود الأمريكي من جهة وأنظمة وقوى سياسية دينية وعلمانية متحالفة مع أمريكة من جهة أخرى، وإما صورة صراع بين هذه القوى السياسية المتحالفة معها بعضِها مع بعض كما هو الشأن في أفغانستان وفي العراق.
كما أن بعض الباحثين يعتقدون أن الغرب في تعامله مع المسلمين يكاد يسير على نهج واحد، إذ ليس مستعداً أن يقبلهم مع اختلافهم عنه في المقومات والقيم، بل يطالبهم بترك هذا الاختلاف الثقافي والدخول في ثقافته؛ وليس هذا فقط، بل مازال على موقفه القديم من دينهم، إذ ينكر أن يكون الإسلام ديناً سماوياً وأن يكون محمد (ص) نبياً مرسلاً؛ وفي مقابل هؤلاء، نجد من يعتقد أن الغرب أكثر من واحد؛ فهناك غرب المصالح العسكرية والاستراتيجية، وهناك غرب الشركات الكبرى، وهناك غرب النصرانية الكنسية؛ وهناك كذلك غرب الجماهير المناهضة للحروب، وهناك غرب الطبقات المستضعفة شأن السود في أمريكة؛ وقد يشكل بعضهم مع المسلمين جبهة واحدة تعمل على تغيير موازين القوى، مؤسِّسة لفكرانية إنسانية تجعل الناس سواسية.
أما بصدد الحوار بين الإسلامين والعلمانيين، لبيراليين أو اشتراكيين، فهناك من يرى أنه قطع أشواطاً عدة، متجاوزاً مرحلة الدعوة والتأسيس إلى مرحلة التنفيذ والعمل المشترك ولو أن النتائج تبقى محدودة؛ فقد أصبح التياران - وقد تساويا في المواطنة - يتعاونان معاً في الدفاع عن الحريات الفردية والسياسية، ومناهضة الاستبداد السياسي وانتهاك حقوق الإنسان، ومواجهة الفساد المستشري في المؤسسات، والتصدي للعدوان الدولي على الأمة، والنضال من أجل تحقيق الوحدة ودعم مقاومة الاحتلال في فلسطين والعراق؛ ويخالفهم في هذا الرأي الذين يقولون إنَّ الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، ولو أنه ضرورة ملحة، فإنه ظل في جوهره لا يتناول القضايا الخلافية المركزية، وذلك بحثاً عن القواسم المشتركة للتعاون في قضايا طارئة، بل ظل يتحاشى التعرض للصورة التي يُكوّنها أحد الجانبين عن الآخر؛ فمعلوم أن الإسلامي يرى في التيار العلماني نتاجاً أفرزه الغزو الغربي للبلاد الإسلامية، عاملاً على تخريب المقومات التقليدية الإسلامية للأمة، ثم داعياً إلى إحياء خطاب عصر النهضة القديم في مواجهة العقل «السلفوي»، ومنتهياً، بعد أحداث أيلول، إلى الدعوة إلى إنشاء خطاب يستوعب روح العصر التي تمثلها الفكرانية الأمريكبة الغازية؛ ومعلوم أيضاً أن العلماني يرى في الإسلامي إنساناً يعيش الماضي البائد ويكرس واقع التخلف، ويتوسل في مواجهة أزماته بأسباب العنف المدمّر؛ وعلى هذا، فواجب العلمانيين أن يُقروا بأن الإسلام هوية حضارية جامعة للأمة، وأن يتخلّوْا عن الاستظهار بالقوى الأجنبية؛ كما أن واجب الإسلاميين أن يعترفوا بأن الاختلاف واقع يُثري ثقافة الأمة وأن إقصاء المخالف يضر بنسيجها.
وفيما يتعلق بالحوار بين المسلمين والمسيحيين، عرباً وغرباً، فهناك من يقرر أن الهدف منه ليس التوصل إلى توافقات دينية عقدية، وإنما الاهتداء إلى توافقات سياسية واجتماعية تساهم في قطع أسباب العزلة والتوتر بين المؤمنين، ورفع حالات اللبس وسوء الفهم بينهم، ونزع الصبغة الدينية عن صراعاتهم السياسية، وتسوية بعض الخلافات الجزئية، فضلاً عن وجود الرغبة عند كليهما في تجميل صورته لدى الآخر؛ فالطرف المسيحي الكنسي يسعى إلى أن يدفع عن نفسه صفة المعتدي الذي يستهدف المسلمين في عقيدتهم وثقافتهم وأراضيهم وثرواتهم، بل في وجودهم، أمّا الطرف الإسلامي بدوره فيسعى إلى أن يبرِّئ نفسه من تهمة التطرف والإرهاب الذي يستهدف المدنيين الأبرياء؛ ويعارض هذا الرأي من يقول إنَّ الحوار الإسلامي المسيحي يجب أن لا يقتصر على بحث القضايا السياسية والاجتماعية والإنسانية، بل ينبغي أن يتعداها إلى بحث أصول الإيمان وقضايا العقيدة، وذلك لأسباب مختلفة، أحدها، أن للمسلم أسئلة عن العقديات المسيحية يريد أن يعرف الأجوبة عنها؛ كما أن للمسيحي أسئلة عن العقديات الإسلامية يتطلع إلى أن يُحصّل الجواب عنها؛ والثاني، أن المسيحي قد يتعاطى التبشير في وسط إسلامي، والمسلمَ قد يتعاطى الدعوة في وسط مسيحي؛ ومِثل هذا التعاطي قد يفضي إلى المصادمة، والحوار كفيل بأن يعرّف الواحد بالمعتقدات الجوهرية للآخر، فضلاً عن إعطائه الفرصة لاختبار صحة معتقداته؛ والثالث، أن الإيمان ذو طبيعة حوارية؛ ولما كان الأمر كذلك، وجب أن يتوسط العقل في اعتقاد الإنسان؛ ولئن جاز أن هذا الحوار يدور مع الذات عينها، فأنْ يدورَ مع الآخر المختلف أَوْلى؛ والرابع، أنه لما كانت الأديان السماوية متكاملة فيما بينها، لزم أن تكون هناك مقاصد عامة مشتركة؛ ولا تنفع في كشفها وبلورتها لدى أصحابها سوى الممارسة الحوارية.
أمَّا الحوار بين المسلمين واليهود، فيظن نفر من الباحثين أنه ممكن ومقبول ولو مع وجود الاحتلال الصهيوني لفلسطين متى توافرت شروط مخصوصة لا يمتنع تحققها، منها أن يدخل المسلمون هذا الحوار وقد نبذوا منطق القوة ولغة العنف وتزوَّدوا بمنطق العقل ولغة الإقناع؛ ومنها أيضاً أن يوجد علماء يهود وحاخامات ينكرون الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، ولا يسعون إلى تمرير مشاريع ظالمة تكرس الاحتلال؛ ومنها كذلك أن يرتفع الشك في أهداف المتحاورين ويحصل الاطمئنان إلى حسن نواياهم؛ ويخالف هذا الظنَّ ما يذهب إليه آخرون من أن الحوار الإسلاميَّ اليهوديَّ في ظل الاحتلال الصهيوني لفلسطين غير ممكن ولا مقبول مطلقاً، وذلك لأسباب عدة، أولها أن الجانب الإسلامي يطالب بتفكيك الدولة العبرية المحتلة والجانبَ اليهودي يرفض إدانة الاحتلال، فضلاً عن التسليم بالتفكيك؛ والثاني أن هذا الحوار يخرج عن وصفه الديني ويصبح قومياً وعرقياً من جانب واحد، إذ إن هناك تداخلاً صريحاً بين الدين اليهودي والعرق اليهودي، حتى كأنهما شيء واحد، فيكون الكلام في هذا الدين كلاماً عن الأصول الغابرة والوعود الواهمة، مفضياً إلى الاحتجاح لشرعية الاحتلال؛ والثالث أن هذا الكيان الغاصب لا تتوافق طبيعته مع مبدأ السلام، بل لا يخشى شيئاً خشيته من تحقق هذا المبدأ، لأن هذا الكيان الغريب والمليء بالتناقضات العصية يحتاج إلى عدو دائم يعلن عليه الحرب كل حين لكي يضمن استمرار وجوده، ثم لأن السلام يعني إقامة نظام عادل يتمتع فيه المواطنون بالحقوق ذاتها، لا فضل فيه لليهودي على غير اليهودي، وهو أمر غير مسلّم به في مجتمع صهيوني.
بعد أن عرضنا مجمل قضايا الحوارية غير المباشرة المتضمَّنة في المجموعة الثالثة من الأجوبة، نمضي إلى بيان بعض الأسباب التي يظهر أنها أدت إلى اختلاف الدعاوى التي وردت فيها.
لا خلاف أن في هذه المجموعة كذلك حقائق يتفق عليها المشاركون، على رأسها: «أن أسباب الصراع بين الحضارة الغربية والعالم والإسلامي قائمة»، و«أن أحد الطرفين مسؤول عن هذا الصراع»، و«أن الحوار جارٍ بين المسلمين وغير المسلمين»؛ لكن بقي ما عداها من الحقائق موضع خلاف كبير؛ ومردُّ ذلك إلى بقاء مفهوم «صراع الحضارات» مجملاً غير مفصل، بل مشوَّشاً غير مبيّن؛ إذ لو حصل تفصيله بما يكفي، لأمكن تحديد المسؤوليات وتحديد الأطراف التي تقع عليها؛ وكذا بيان دور الحوار في تقويم الحضارة، قطعاً لأسباب الصراع الكامنة فيها.
لا يخفى أنه لا بد لكل حضارة أن تقوم بشرطين أساسيين متمثليْن في حضوريْن اثنين: «حضور في المكان» و«حضور في الزمان»؛ وحضورُها في المكان هو نهوضُها بالفعل العمراني على أوسع نطاق، وحضورها في الزمان هو نهوضُها بالفعل التاريخي على أرسخ وجه؛ ومتى أخذنا بهذا الشرط المزدوج، فلا مفر من الإقرار بأن الحضارة التي تنهض في عالمنا اليوم بهذين الفعلين: «الفعل العمراني» و«الفعل التاريخي» هي الحضارة الغربية وحدها لاسواها؛ أما ما سُمّي ب-«الحضارات الأخرى» بما فيها «الحضارة الإسلامية»، فلا حضور مشهود لها؛ فلا هي تزيد في العمران وفق قدراتها الخاصة، ولا هي تصنع التاريخ وفق قيمها الحية؛ يلزم من هذا أن «صراع الحضارات» مفهوم مغلوط أو مدلَّس؛ والواجب أن يُستبدل به مفهوم غيره، فيقال: «صراع الحضارة الغربية مع الثقافات الأخرى» ، ذلك لأن الثقافة لا يُشترط فيها الحضور العمراني ولا الحضور التاريخي، بل يكفي فيها وجود الذاكرة وما تختزنه من قِيَم عابرة للزمن.
وإذا تقرَّر أن الحضارة هي الفعل الحاضر المؤثر في المكان تشييداً، وفي الزمان توجيهاً، لزم أن تقع المسؤولية المباشرة عن الصراع على العالم الغربي وحده، لأن الحضارة حضارتُه، والفعلَ فعلُه، وإرادةَ القوة إرادتُه؛ لا أن تقع على العالم الإسلامي الذي لا طاقة له على واسع الامتداد المكاني، ولا على راسخ التخطيط الزماني، حتى يجوزَ القول بأن إرادة المسلمين تنازع إرادة الغرب، بل تصارعها.
لكن يبقى للعالم الإسلامي شيئان جوهريان، أحدهما، الثقافة، مع العلم بأن الثقافة هي ما تبقَّى من الحضارة بعد ما مضى حضورها المكاني والزماني؛ وهذا الذي تبقَّى إنما هو جملة من القيم والمُثل والمعاني التي تسعى إلى حفظ خصوصية الأمة في ظل وجودها في حضارة غير حضارتها؛ والثاني، الزمن الأخلاقي ، وتختص به من دون الثقافات الأخرى، حيث إن لكل دين سماوي زمنه الأخلاقي الذي يمتد من حين نزوله إلى حين ظهور دين آخر؛ وخاصية هذا الزمن أن يتولى أهله تصحيح كل ما يحدث فيه، متحملين تبعاته ولو أتى به غيرهم؛ ومعلوم أن الزمن الأخلاقي الذي نحياه اليوم هو زمان الدين الإسلامي بعدِّهِ الطور الأخير في التدين السماوي.
ويجعل هذان العنصران: «الثقافة الخاصة» و«الزمن الأخلاقي» العالَمَ الإسلامي في وضع يختلف فيه عن وضع الثقافات الأخرى، إذ يُوجبان عليه ما لا يجب على هذه، إذ تقومُ عليه مسؤولية إزاء الحضارة الغربية كما أن لصانعيها مسؤولية نحوها، إلا أنها مسؤولية غير مباشرة ؛ فليس مطلوباً منه أن يشاطرهم شمول الفعل العمراني ولا رسوخ الفعل التاريخي، وإنما أن يعمل على تقويم هذين الفعلين الحُضوريين بواسطة ما تحمله ثقافته من المبادئ والقيم؛ فبحُكم أن زمن الحضارة الغربية هو زمنه الأخلاقي، غدا مسؤولاً عما يقع فيه، سواء أقام به أهل الإسلام ابتداء أم قام به أهل الغرب ابتداء، لأنه يُعدّ بمنزلة ما قام به المسلمون بواسطة؛ فلولا تعاطيهم لأسباب التخلف، لما أصبح لواء الحضارة في أيدي غيرهم.
كما لا يخفى أن هذا التقويم للحضارة الغربية هو في أساسه تقويم أخلاقي صريح؛ وهاهنا تجب الإشارة إلى النظرة السائدة عن الأخلاقيات والتي تستصغر من شأنها، مقارنةً بالعقليات والماديات؛ فلا بد من تزييف هذه النظرة التي نجد لها صدى حتى عند بعض علماء المسلمين؛ والحق أنه ليس في الإنسان ما يجعله كذلك إلا الأخلاق؛ ودونها، يختل نظام الحياة وتفسد مقاصد الكون، بل الخاصية الأخلاقية والخاصية الإنسانية شيء واحد؛ وحينئذ، يكون هذا التقويم اجتهاداً في التشكيل الإنساني للفعل العمراني والفعل التاريخي، صارفاً عنهما ما يتهدد الأولَ من فرط التمتع المفضي إلى الانحلال، وما يتهدد الثانيَ من فرط التسلط المفضي إلى الاستبداد.
لكن هذا التقويم، على وجوب النهوض به، لا يمكن أن يتحقق بواسطة «اليد»، لأن هذه «اليد» التي تتمثل في قوة السلطان يمثلها الفعلان: العمراني والتاريخي، وهما مُلك للغرب، صانع الحضارة؛ فلا يبقى إلا أن يتحقق هذا النهوض بواسطة اللسان الذي يتوسل بقوة البرهان، متمثلاً في الممارسة الحوارية.
ولا يفيد في هذا الحوار التقويمي أن ينهض الجانب الإسلامي بإثبات أن بعض قيمِه الثقافية، على الأقل، أفضل من قيم الآخَر المؤثرة في حضارته، ذلك لأن الجانب الغربي غير مستعد للانسلاخ من ثقافته من أجل الاعتراف بأفضلية غيرها، بحجة أن ثقافته هي الصانعة للحضارة؛ وإنما الذي يفيد في هذا الحوار هو أن يتم نقد قيم هذه الحضارة من داخلها، وذلك باستخدام آليات النقد نفسها ومناهج الفكر التي تُقرّها، حتى إذا ظهر للجانب الغربي فساد هذه القيمة أو تلك من قيمه الثقافية، وتمَّ استنزاله عن اعتقاده بها، حُقَّ للجانب الإسلامي أن يدعوه إلى الأخذ بالقيمة المضادة التي يستمدها من ثقافته الإسلامية، ولا يَسع الطرف الآخَر إلا أن يقبل بها، وإلا كشف عن سوء تحضُّره وتهافت منطقه؛ أما إذا لم يظهر وجه القدح في القيمة الغربية، بل ثبت صلاحها وتأكدت سلامة الاعتقاد بها، لزم الجانبَ الإسلامي أن يأخذ بها وأن يترك ما يعارضها من قيم ثقافته التي ذهبت حضارتها، فيكون مجدّدا لثقافته بقدر ما هو مقوّم لحضارة غيره؛ وهكذا، فلا تقويم يُلزم الغرب إلا على مقتضى قواعد حضارته، إلى حين أن يقتدر الجانب الإسلامي على التشكيك في هذه القواعد بموجب منطقها نفسه، فيتحقق له نصيب في إعادة تأسيس الحضارة بعد تحقق نصيبه في إعادة توجيهها.
ولا ريب أن مِثْل هذا الحوار يجعل الغرب غربين على الأقل، «غرب الحوار» الذي يؤمُّ الحق والعدل، فينبغي أن نوثّق الصلات به، و«غرب الاستعمار» الذي يؤمّ الباطل والظلم، فينبغي أن نتصدى له باشتراك مع غرب الحوار، حتى نعالجه من الداخل؛ وذلك أنجع وأسرع في تغييره مما لو عالجناه من خارج، أي بغير هذا الاشتراك.
إلا أن هذا الحوار التقويمي للحضارة يتطلب من المسلمين استعداداً لم يألفوه أو لم يألَفْهُ جُلّهم أو لا يطيقه بعضهم، ولكن لا بد منه إن هم أرادوا حفظ هويتهم وحماية ثقافتهم؛ وليس لهم من سبيل أقرب إلى تحصيل هذا الاستعداد من تكثيف الحوار مع العلمانيبن من مواطنيهم، على أساس أنهم حملة التنوير الغربي، ومع المسيحيين، على أساس أن العلمنة استحوذت على كثير من قيمهم الدينية وفصلتها عن أصولها الروحية، وحتى مع اليهود (ولِمَ لا؟)، على أساس أن قيمهم نفذت في ثقافة الغرب وساهمت في تشكيل حضارته وتوجيهها؛ كل ذلك من شأنه أن يُزوِّد المسلمين بالخلفية الفكرية الضرورية للدخول في هذا الحوار التقويمي، منتزعين الندية المطلوبة بفضل ما حصلوه من معرفة واسعة بالآخر؛ وليس لهم أن يكتفوا بحضور ما يُدعَون إليه من لقاءات قد يكون الغرض منها تذليل بعض العقبات لمزيد هيمنة، وليس لمزيد تقارب، بل عليهم أن يَسبقوا إلى تنظيم هذه اللقاءات والإكثار من عددها وتنويع أمكنتها وإطلاق مواضيعها حتى لا ممنوع فيها، بدءاً من القضايا السياسية الساخنة وانتهاء بالمسائل العقدية الحرجة؛ ومتى التزم المشاركون فيها طريق التدليل العقلي على مختلف دعاويهم، فلن يزداد الإسلام إلا ظهوراً على غيره، عقيدةً أو فكرانية، لقوة عقلانيته ورسوخ أخلاقيته واتساع نطاق حواريته.