آباء الاستغراب ونقاد الاستشراق
أحمد عبد الحليم عطية أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة وأمين اتحاد الفلاسفة العرب ورئيس جمعية الفكر العربي، يقول إن الحديث عن مصير علم الاستغراب يضعنا في قلب المشروع الخاص بحسن حنفي، وهو مشروع التراث والتجديد، والحديث عن الاستغراب فيه جزء من أجزائه المتعلق بالموقف من الغرب، هذا هو الاتجاه الأول للسؤال، أو الكلام بشكل عام عن الاستغراب، يعني الكلام عن الموقف من الغرب.
الحقيقة أن الدكتور حسن حنفي لم يكن هو أول من طرح مصطلح ومكونات علم الاستغراب، الاستغراب هو أحد الإجابات المتعلقة التي طرحت للعلاقة بيننا وبين الغرب، وهي علاقة حضارية نستطيع التعامل معها على مستويات متعددة.
الموقف من الغرب يتراوح بين 3 اتجاهات فكرية، الاتجاه الأول هو الذي يتبناه أصحاب علم الاستغراب، ومعظمهم من التيارات الدينية، والثاني هو اتجاه نقد الاستشراق، ونجد في هذا الاتجاه أول نقد للاستشراق كتبه المفكر المصري أنور عبد الملك سنة 1969 في دراسته الشهيرة "الاستشراق في أزمة"، وتوالت الكتابات في نقد علم الاستشراق في كتابات الدكتور فؤاد زكريا، ثم كتابات الدكتور إدوارد سعيد بكتابه "الاستشراق" وكيفية التعامل مع الاستشراق.
ثم يأتي الاتجاه الثالث لينقلنا من الحديث عن الاستشراق إلى ما بعد الكولونيالية، أو ما بعد الاستعمارية، حيث العديد من الثقافات المختلفة العربية والأفريقية والغربية وثقافات أميركا اللاتينية انطلاقا من كتابات إدوارد سعيد، وهنا نشير إلى توجهات حميد دباشي الأستاذ في جامعة كولومبيا الذي ترجمت أعماله إلى العربية والذي يعد من أهم المعبرين عن هذا الاتجاه.
وإذا عدنا إلى الاتجاه الأول الذي قال بعلم الاستشراق، وهو في الحقيقة نشأ في سبعينيات القرن الماضي حين عاد حسن حنفي من بعثته في فرنسا، وبدأ يصيغ ما أطلق عليه "التراث والتجديد".
والتراث والتجديد هو محاولة لإيجاد صيغة للتعامل بين الإنجاز الحضاري العربي الإسلامي وهو التراث، وبين الإنجاز الغربي في الفكر والثقافة والمعرفة وهو ما أطلق عليه "التحديث".
والتراث والتحديث هو صيغة نظرية للتعامل مع الغرب، وقد شاهدناه وتعايشنا معه وشهدنا بدايات هذا المشروع ومراحل تطوره واكتماله.
ازدواجية الإعجاب والرفض
ويكمل الدكتور عبد الحليم عطية: أصحاب هذا المشروع يكنون إعجابا شديدا تجاه الغرب، وفي الوقت نفسه ينعتونه بالنقد القاسي، بما يعني وصفهم بالازدواجية، وهذا النقد تم توجيهه لصاحب مشروع التراث والتجديد، الحائر بين الإعجاب بالغرب باعتباره نتاجا للوعي والثقافة وهو مؤمن ومتأثر جدا بتيارات الوعي الغربي المختلفة، وكان عمله الأساسي في الحالة الراهنة لعلم الظاهريات، وهو العمل الذي حصل به على الدكتوراه من فرنسا عام 1966، وهو في الوقت نفسه أساس لما أطلق عليه مشروع التراث والتجديد الذي يتصدى للموقف من الغرب، وعلم الاستغراب في هذا السياق يبحث العلاقة مع الغرب، وهو محاولة توفيقية وليس محاولة نقدية جذرية كما لدى أنور عبد الملك وفؤاد زكريا وإدوارد سعيد.
مصير المشاريع الفكرية الكبرى
وفيما يتعلق بمصير التراث والتجديد ومصير الموقف من الغرب ومصير علم الاستغراب يقول عبد الحليم عطية: دعني أتحدث عن مشروع حسن حنفي ككل أولا، ثم عن علم الاستغراب ثانيا، علينا أن نتوقف عند ما أطلق عليه المشاريع الفلسفية العربية، هذه التسمية الحقيقة عليها ملاحظتان، الملاحظة الأولى أن أيا من أصحاب المشاريع المختلفة، سواء محمد عابد الجابري، أو محمد أركون أو حسن حنفي أو حسين مروة، لم يطلق على ما قدمه أي منهم لفظ مشروع، باستثناء الطيب تيزيني المفكر السوري الذي تعلم في الاتحاد السوفياتي والذي قدم لأحد كتبه بعنوان "مشروع رؤية جديدة للتراث الإسلامي في العصر الوسيط".
ثانيا: هذه التسمية جاءت في سياق كتابات الأستاذ محمود أمين العالم في فترة وجوده في باريس، وهي فترة أقرب إلى الوجود الإجباري الاختياري، كما كان الحال مع الدكتور فؤاد زكريا الذي ترك مصر وانتقل للكويت مؤسسا لمشروعه الثقافي الرائع هناك.
إن مشروع حسن حنفي وغيره من المشاريع الفلسفية العربية أطلقت عليها لفظة مشاريع، حتى لا نطلق على كتابات فلسفة حسن حنفي، أو فلسفة عابد الجابري، أو الطيب تيزيني أو غيرهم لفظ فلسفة، والفلسفة هي نسق فكري، وكلمة مشروع هي البديل العربي لكلمة النسق الفكري أو فلسفة فلان، لأننا حتى الآن ليس لدينا الجرأة لكي نطلق على اجتهاداتنا الفكرية لفظ فلسفة، وقد آن الأوان لكي نطلق على هذ الجهود الفلسفية العربية المعاصرة.
علينا أن ننتقل ونتحول من الفكر العربي المعاصر إلى الحديث عن الفلسفة العربية المعاصرة، والمقصود بها هي النتاج الفكري الذي يقدمه المتفلسفون والفلاسفة العرب في الفلسفة، سواء كان يوازي ما يقدم في الفلسفة الغربية، أم كان يختلف عنها.
إشكاليات تجاهلت قضايانا الحياتية
- مشكلة الفلسفة في عالمنا العربي وغياب المشروع الفكري الفلسفي، كانت من الأسئلة التي يطرحها دائما المفكر الكبير حسن حنفي، هل استطاع أن يصل إلى حل للمشكلة؟
يرى الدكتور عبد الحليم عطية مشكلة الفلسفة لدى الدكتور حسن حنفي في الحقيقة تنقسم قسمين:
الأول: أنها تعرض في إطار إشكالية التراث والمعاصرة، التراث والتجديد، الهوية والغرب، هذه الإشكالية تجاهلت تماما القضايا والمشكلات الفكرية التي نحياها، والحقيقة أن التفكير في هذه القضية هو تفكير ثلاثي، ينصب على ما أنتجه القدماء، وما أنجزه الغربيون، والحقيقة ما نحياه من قضايا ومشكلات هو الذي يحدد لنا كيفية التناول والجوانب المهمة للحياة العقلية والنقدية والتحررية للتراث، أو الجوانب الأساسية في الغرب لأننا في الحقيقة نصنع صورة عربية للغرب على غير حقيقة الفكر الغربي.
والحقيقة أن شعورنا بخيبة الأمل في التراث الغربي، بالإضافة لخيبة الآمال التي استشعرها عدد كبير من المفكرين العرب في الفكر الغربي، وفي مقدمتهم حسن حنفي، وهذا هو العيب الأول.
أما العيب الثاني فإننا ظننا أن الفكر العربي والفلسفة العربية هي الاجتهادات الذاتية، وليس مشروعا عربيا يشارك فيه الجميع، ليس بأسمائهم، ولكن بما يمكن أن يضيفوه للمشروع العربي.
والحقيقة أن هذا يعود لأسباب كثيرة، فقد كان حسن حنفي يأمل في وجود مدرسة فلسفية مصرية، يقوم هو على رأسها، ويكون هو مؤسسها، وهذا من حقه، وهذا ما سعى إليه، وهذا كان من الممكن أن يتحقق.
مشروع أصولي بالأساس
- لكن لماذا لم يتحقق وجود هذه المدرسة الفلسفية التي طمح إليها حسن حنفي؟
ويقول الدكتور عطية: لكي نجيب عن هذا السؤال سوف نقارن بين ما قدمه حسن حنفي في السبعينيات، وبين ما قدمه الشيخ مصطفى عبد الرازق في الثلاثينيات من القرن العشرين.
كان مصطفى عبد الرازق يسعى لتأسيس مشروعا مصريا نهضويا تشارك فيه القوى المختلفة التي تنادي بمصر للمصريين، وكانت هناك مساحة ضخمة من الحرية الفكرية والليبرالية التي أتاحت وجود الأحرار الدستوريين، وآل عبد الرازق، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين من جانب، وأتاحت وجود مصر الفتاة التي أفسحت مجالا لعبد الرحمن بدوي ليطرح من الأفكار والآراء والقضايا التي أفسحت مجالا لعدد من المفكرين المصريين، وعدد من القضايا المصرية وفي مقدمتها تفجر ثورة 23 يوليو 1952.
الشيخ "مصطفى عبد الرازق" سعى لتأسيس مشروع مصري نهضوي تشارك فيه القوى المختلفة التي تنادي بمصر للمصريين (مواقع التواصل)
كان هناك مشروع فلسفي مصري يأتي في صدارته الشيخ محمد عبده الذي نشر أفكاره الشيخ مصطفى عبد الرازق، ووجد في فلسفته دعاية قوية لهذه الرؤية الفلسفية المنهجية التي قدمها علي سامي النشار.
لكن حسن حنفي أراد تكوين مدرسة فلسفية، وهذه المدرسة لم يكن همها سوى فكرة التوفيق مع الغرب، في المقابل كانت هناك نهضة مصرية، وهي كانت أساس فكرة وفلسفة أحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق.
لكن الموقف من الغرب من خلال التراث والتجديد، لا يمكن أن يكون سوى شكل من أشكال تطبيق الفلسفة على فكرة أصولية في الحقيقة، وكما وجدنا في الغرب قمة الفلسفة في الفيمونولوجيا التي وجهت نقدا للعلوم الأوروبية، أراد حسن حنفي أن يوجه نقدا للعلوم الإسلامية، وبالتالي اختار الفلسفة وعلم الكلام مجالا للعلوم ليعيد إحياءها من جديد لتقديم ما يسمى "الأصولية" التي كان حريصا عليها.
والأصولية في هذا العصر يجب أن تكون محددة المعالم، يجب أن تكون لها صياغات خاصة، لكن أن تكون هي البديل للفكر المعاصر، والنظريات التحررية ونظريات ما بعد الإمبريالية، فهذا أمر صعب للغاية.
الصلح بين الدين والثورة
- هل أخطأ الدكتور حسن الطريق من البداية، حتى أنه يعلن ندمه في كتابه مقدمة في علم الاستغراب عن الوقت والجهد الكبير الذي بذله في التراث العربي ولم يهتم بالتراث الغربي؟
يختم الدكتور عبد الحليم عطية: لا أقول أخطأ الدكتور حسن، بل بذل غاية جهده في سبيل مشروعه، ولكن أستطيع أن أقول إنني لمست تأسفه وحرجه وإحساسه في آخر أيامه باللاجدوى لعدم وجود فلسفة مصرية، وهذا يرجع إلى بدايات الطريق وخطوات لم تصب في المشروع الوطني، ولكنها كانت تصب في المشروع الديني بشكل غير محدد المعالم، وكان هدفه الأساسي هو التوفيق أو الصلح بين الدين والثورة، وكان هذا الشغل الشاغل لحسن حنفي فلا تحققت الثورة ولا تم تحديد معالم الدين، فهوجم من الإسلاميين، وهوجم من الفلاسفة، وقدمت إليه أشكال من النقد.
وأريد أن أؤكد أن ما يفيد من مشروع حسن حنفي، ويعلي مما قدمه حسن حنفي، أن نسعى بنقلة كبرى لمشروع التراث والتجديد حتى يكون مشروع الحاضر والمستقبل، وأن يتحول مشروع التراث والتجديد من مشروع الأصولية والتصالح بين الدين والثورة إلى أن يكون مشروعا للحاضر والمستقبل، وهو الانتقال من التراث والتجديد إلى التأسيس والتجاوز.