أجرى اللقاء: وحيد تاجا..الشاعرة هناء العمر من الأصوات الشعرية الجميلة والمتميزة في الساحة الثقافية السورية وإحدى الشاعرات القلائل اللواتي استطعن القبض على ناصية قصيدة النثر.. في قصائدها بعد روحي صوفي.. فيها دفء وأمل وحب.. كما فيها الكثير من الحزن والألم والعذاب.. قصيدتها أقرب للوحة تشكيلية جميلة بما تزخر به من صور، وبرصيد الشاعرة أربع مجموعات تمثلت في (سدرة الشوق)،(أيوب صبراً)،(نبي للحب)،(جنى).
وحول مسيرتها الشعرية والشعر أبحرنا معها في عوالم متعددة وطرحنا عليها مجموعة من الأسئلة التي ينتظر إجابتها الجمهور العاشق للشعر والمفردة.
* من يقرأ شعر هناء العمر، يشعر بأنه يدخل في (حالة إنسانية) أو (طقس صوفي) خاص، وهو ما يدفعني لسؤالك عن ماهية الشعر بالنسبة إليك، وكيف يمكن لنا (أن نعيش الشعر قبل أن نكتبه) حسب تعبيرك؟
وكيف يمكنك أن تكتب دون أن يسكنك الحزن والفرح والقلق والتمرد أو أية انفعالات متأثرة بحدث ما، أن تكون صوتا لصمت الغائبين وتشعل بارقة أمل في دهاليز اليأس، هو خلاصة لحياة تراكمية معجونة بكل ما سبق، لن يكون شعرًا إن لم يكن انتماء لقضية إنسانية أو جمالية وإلا كان كلامًا غوغائيًّا، الشعر هو الإحساس العالي والخيال المحلق، هو أن تتخبط وسط بحر هائج من الأفكار ولا تهدأ إلى أن ترسو بك الأمواج إلى شاطئ القصيدة ومرة تلو الأخرى يعاودك القلق والتخبط عند كل ولادة.
* جوابك هنا يحيلنا إلى قولك: أن تكون شاعرًا يعني أنك لن تستجيب لنداءات الأحياء الموتى وتستبدلها بصوت غنائك.. كيف؟ وبالتالي ما مهمة الشاعر؟
أن تكون شاعرًا عليك أن تعزل نفسك عن الموتى من الأحياء وتصغي لنداء روحك تطلقها غناءً كعصفور جريح وأرى أن مهمة الشاعر أن يتحرر من كل الموروث ويكتب ذاته منتميًا إلى الإنسانية بكل فضائلها، أن ينسج الجمال كما ينزف الألم، أن ينتصر للحياة رغم المكابدة.
كأننا ........
في أحشاءِ الترابِ بذرةٌ
بإصرارِ عشقٍ
تطلُّ برأسِها من شقوقِ صخرةٍ
شهقةَ حياة .. !!
*(ترانيم النزوح)،(إيقاعات عاشقة)،(صليب الروح)،(رقصة الضوء)،(موعد للحنين)، (فلسفة الحواس).. أسماء قصائدك ملفتة جدا ففيها بعد إنساني عميق وجنوح نحو الصوفية، كيف تختارين اسم القصيدة؟
في زمن الحرب كنت أكتب عن الحب، أختلقه ولو كان وهمًا أدخل مملكة الخيال وأحلق كما شاءت مراكب الحروف ليس هروبا من واقع الموت هذا وإنما لتتوازن روحي المكبلة والمنهكة وربما ذلك ما يفسر جنوحي نحو الصوفية التي هي أصلًا جزء مهم من ثقافتنا وتراثنا الديني الذي يساعدنا على الرفعة والسمو، أسماء القصائد قد تكون زبدة النص لأنها تولد من رحم القصيدة لذلك تأتي المسمّيات بعد كتابة النصوص.
* لماذا اخترت قصيدة النثر وكيف ترين واقعها.. وهل لا تزال تثير حتى الآن إشكالية؟
لم أختر شكل القصيدة، في الصغر كنت أخربش الشعر وبعدها انقطعت تماما إلى أن فتحت أمامنا الآفاق عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي فبدأت أنشر نصوصًا نثرية فيها روح الشعر، وحقيقة لا أهتم بالمسمّيات وقصيدة النثر الأقرب إلى نفسي مع الاعتزاز بكل أشكال الشعر قديمه وحديثه، ما يهمني مضمون القصيدة من حيث المعنى واللغة الجمالية التي تكتسيها، حتى الآن قصيدة النثر بين مد وجزر ولا توجد معايير محددة لها حتى أنها تجاوزت الشروط أو السّمات التي وضعتها الناقدة (سوزان برنار) لأنها حقل لا تحده أسوار، طبعا الإشكالية مازالت قائمة حيث يرفض البعض تصنيفها شعرا لكنني أرى فيها انتشارًا واسعًا وفضاءً يمتد ويمتد ولا ندري بعد سنوات ما هو الجديد من التيارات الشعرية الذي تفرضه المتغيرات الزمانية.
* شاهدنا العديد من الفنانين التشكيليين يرسمون من وحي القصيدة ولكن في قصيدتك وبسبب ما تذخر به من صور شعرية للطبيعة ملفتة بجماليتها ودلالتها وتكثيفها، نجدنا أقرب إلى قصيدة مستوحاة من لوحة تشكيلية؟
أليس الكون أعظم لوحة تشكيلية فطرها الخالق عز وجل وهي المحرض الأكبر لكل فن لذلك مهما ابتدع الشعراء والأدباء والفنانون سيكون شحيحًا أمام بهاء الكون.
* رغم أن ديوان (جنى) يتحدث عن رحيل أبنة أخيك الطفلة ويحمل اسمها، إلا أنى قرأت في ثناياه حديث عن رحيل كل أطفال الوطن الذين سقطوا بالقذائف والقنابل والذين غيبتهم أمواج البحر وغيرهم؟
(جنى) تلك الدمعة الحارقة المستقرة في القلب هي الفقدان الخاص والألم العظيم على كل أطفال هذي البلاد المنكوبة، أما الألم الأكثر قهرًا للهاربين من موت إلى موت آخر، كم يعجز الكلام ونحن المصابون بالشلل.
ها نحن يا حشاشة الروح..
دونك الآن..
نقتسم خبز الفراق..
أشح العطر والنّور في السّماء..
حتى استعدت يا الله جنى..
من قال إنّها ماتت..
لا لم تمت.
* قال الشاعر خالد أبو خالد يوم رحيل سميح القاسم: هناك اثنان لا يموتان: الشهيد والشاعر، فكلاهما يتمظهران بالموت، أما نحن فنتمظهر بالبكاء أو الحزن.. كما يرى احد النقاد انك جعلت من الموت والألم حياة للقصيدة، وسؤالي ما هو مفهومك للموت، ولماذا يحظى بهذه المساحة الواسعة في قصائدك..؟
الموت هو عنوان أيامنا هذه فكيف لا ينزف الحبر قهرا ونحن نتجرع سمّه في أقل التفاصيل الحياتية وأكبرها، نحب الحياة لا شك وهذا ما يجعلنا نقاوم ولو بشق كلمة، أما عن حياة القصيدة أو أية أعمال أدبية أو فنية فهي تبقى خالدة بعد موت مبدعيها إن كانت تحمل معان قيمة وهادفة ومقامات نبيلة وسامية والدليل أننا مازلنا نتناقل إبداعات عظماء التاريخ جيلا بعد جيل رغما عن الموت الذي غيبهم.
وحينما أموتُ ........
ستنزفُ القصيدةُ دمي
و لاااا تموتْ !!
* كتبت كثيراً عن الغربة والغياب في ديوانك (نبي للحب). وسؤالي: متى يكون الشاعر منفياً وغريباً في وطنه؟ ..وكيف تكون علاقته مع هذا الوطن عندها ؟
** الغياب الخاص تبقى معاناته فردية أما غياب الوطن عن أبنائه وغربتهم حتى وهم فيه فهذا موضوع شائك وخطير ومرعب ومدمر، أن تكون مواطنا بلا كرامة مسلوبًا من أبسط حقوق العيش، من الأساسات البديهية وحتى من أنفاسك وفي كل يوم تكبر المعاناة والخيبات ويذوي الأمل وتهرب الأحلام وتصير أنت مثل حبة قمح ينخرها السّوس وتطحنها رحى الحروب بلا هوادة ، أقول الحروب وليست حربًا واحدة لأننا تحت وطأة المعاناة فما عساه الشاعر سوى أن يذرف دمعة حارقة يزيّل بها قصيدته وربما في حنايا تلك الدمعة قطرة أمل (ربما)، لكن أضعف الإيمان ألا يتملق الشاعر ويُرائي ويسوق مع القطيع فيفقد صوته الحرّ وآدميته.
أفتحُ دفترَ قلبي
أدوّنُ روحيَ جُرحاً جديداً
تكومَ فوقَ رُكامِ الحزنِ
على رصيفٍ منسيٍّ ..
أرتبُ هزائمي
خيمةً .. خيمةً
في براري الاغتراب
بينما .....
ترفرفُ على أسطحِ المدائنِ المنهوبةِ
راياتُ نصرٍ
تفضحُ عارَنا
وشيطانَ حالنا الأخرسَ
ثم نعودُ نمجدُ
تاريخاً تليداً لوجعٍ
بداياتُهُ أشباهُ أوطانٍ
صارتْ منافي !
* غالبًا ما تأخذ قصائدك منحى سرديًّا عميقًا. وكأننا نقف أمام حكايات شعرية تروي حكايات الجدة والقرية والغربة..؟
نعم مخزون الذاكرة الذي نفتح بواباته كلّما ضاق بنا الحال وفاح عطر الشوق، هناك في البيت الكبير نبتت أفكاري ونمت مشاعري وأحلامي وفي كل ركن وزاوية لنا ماض وتراث نحب ونحرص على تدوينه بمسمّياته المحلية ولو في قصيدة حتى لا يضيع في مهب هذا الخراب، لا حاضر لنا ولا مستقبل دونه.
لم ترحلْ أمي
باكراً تفيق
من نهرِها يتوضأُ حبقُ الأصائص
يتفتحُ بُرعمُ قلبِها ... صلاة
تخونُ الغيابَ
وتحجُّ بيتَها العتيق
تلقي سلاماً على أطيافِنا والظّلال
وخفقةً ... تنهيدةً
أبي أيضاً لم يمتْ
هناك من رأهُ يصعدُ أعلى الأحراشِ
محصناً بآياتِ القمحِ
ورفُّ الحمامِ يتوسّدُ عمامتَه
وبياضَ راحتيه
قبل ... أن يمضي في بطنِ الوادي
وتلفُّ روحَهُ أجنحةُ الغمام !
لم يمتْ كناريُّ قلبِه ... قالتِ العنادلُ
كانَ يرتّلُ الكونَ أغنيةً
سرمديةَ الحبور !!
*(أنا ما أحببتك كنت أمتحن صبري على الموت)، هذا ما تقولينه في ديوانك جنى.. فماذا تقولين عن القصيدة الومضة أو القطرات كما أسميتها؟
فكرة خاطفة سريعة كما البرق تلمع في الذهن فتمطر المعنى، في الومضة تقول الكثير في كلام قليل.
* ديوانك (نبي للحب) يدفعني لسؤال هل الحب بحاجة الى نبي خاص، أم أن للحب مفهومًا خاصًّا عند الشاعرة هناء العمر؟
في الوقت الذي كتبت فيه (نبي للحبّ) كنت أراهن على أن للكلمة مفعولها السحري هي السرّ والحكمة في إنقاذنا من طواغيت هذا العصر، اعتقدت أنها الحبة الشافية مثلما كان الأنبياء يأتون برسالات المحبة والهداية كلما عم الخراب، خاب رجاؤنا لكن علينا ألّا نفقد الإيمان بيوم تكون فيه الكلمة (نبية).
* وماذا عن الحب والغزل وأنت الشاعرة (الملتزمة) بالإنسان وهمومه؟
الحب هو دليل وجود ونبض حياة لذلك نكتب عنه حتى ولو لم يكن حاضرا في ذات اللحظة، نحارب القبح بتلك الطاقة العجيبة وذاك الغامض المباغت الذي يحيلنا سحابا وطيورًا وبحارًا بأسماك ملونة … به ومعه نمتلك قداسة الحياة إليك مقتطفات من نصي (إيقاعات عاشقة)!
أنتَ..
من أدخلني كتابَ الحنين،
حين أقصَوكَ عن فصولي
رحت أدونُكَ
سطرًا..
لهفة..
من توهجِ النبضِ
إلى خاتمةِ
عصفِ الجنونْ!
أنتَ من علّمني سرَّ الدّمعِ
فأغرقتْني في بحرِها العيون
فكيف يتسعُ قلبُها لسواك
! إني أحبّكَ فاسترحِ الآن بين الهُدبِ ..
والهدب
على ورودٍ تنمو فوقَ جرحي
آتيكَ بسراجِ صبحٍ
وحقولِ كرزٍ تمتدُّ بين الثغرِ ..
والثغر
تتفتحُ على خطوطِ راحتيكَ
زنابقُ مستقاةٌ
من دمي!
إني أحبكَ …..
فاسترحِ الآن
فالغيابُ حضورٌ أكثرُ اشتعالًا
أكثرُ شغفًا أن تمشي إلى ما تريدُ
وتحلمُ أن الوصولَ ليسَ مُحالا
وأنها قطرةَ الماءِ
آن تشربُ من نهدِ الغيمِ
تصيرُ بحرًا
حينَ الالتحام!
أنا التي قصّوا ضفيرَتَها
كي لا تُعرِشَ عليها إيقاعاتُ
أناملِكَ
لم يعرفوا أنَّ
حلمَنا الورديَ يَبسطُ جناحيهِ
إذا مرَّ نسيمُ الشوقِ
وأنَّ
كل غروبٍ يتبعُهُ شروقُ الرؤى
وأننا هناك
في السّماءِ البعيدةِ
نمضي..
كطائرَين!.
* لايمكن لصحفي ان يجري حوارًا مع الشاعرة هناء العمر ولا يسأل عن موقع مدينة مصياف في نفسك وفي قصيدتك..؟
من أقدم مدن العالم (مصياف) مدينة الزيزفون وقلعتها الشامخة تاج ملكي شاهد على عراقتها في مصياف تفتحت لأول مرة وردة القلب وتعشقت كرومها السّاحرة وسواقيها، الطريق الجبلي للمشهد العالي الموشّى بالزعتر البري وحبّ الديس والزّعرور والبطم والرَّيحان والآس والتين وصولًا إلى حضرة إخوان الصفا وخلان الوفا ومراقد الصالحين، مصياف بيت جدي والحيّة المتدلية من سقفه الخشبي العتيق تشاطرنا حكايات الجدة، بيت أهلي وأصص الحبق والحاكورة والتنور وثرثرة البُنّ على مصاطب الديار ونقش الهديل على شرفات الصباح، لأجل هذا وأشياء كثيرة أفتح كل حين نافذة القلب لتطيرَ إليها عصافير الكلام.
مصيافُ القابضةُ على حلمِها
تصعدُ بحنطتها أسطحَ المنازلِ
تستدرجُ قبلاتِ الشّمس
ومناقيرَ الحساسين !
تلملمُ من كفِّ الغروبِ تينَها المجففَ
بأطباقِ القَشّ ... تلمُّ الزبيبَ
تحضّرُ كعكَ العيدِ
فتطوفُ روائحُه الشواهِدَ
والزواريب !!