تخطي إلى المحتوى
الجزائر: في صحراء الكتاب الورقي الجزائر: في صحراء الكتاب الورقي > الجزائر: في صحراء الكتاب الورقي

الجزائر: في صحراء الكتاب الورقي

لا يزال الناشر، في الجزائر، يشتكي من تراجع سوق المبيعات، ويتأفف من أن الناس أخذتهم مشاغلهم اليومية بعيداً عن المطالعة، وأن الكتب مكدسة. وهو كلام يتناقض مع الواقع، وتُثبت مواقع التواصل الاجتماعي عكسه. فكل يوم نصادف منشورات عن كتب، حيث نبت جيل جديد من القراء، لا يفوّت يوماً من غير أن ينشر اقتباساً أو قراءة في كتاب جديد. جيل يقرأ وساهم في تضاعف أعداد نوادي القراءة، في مدن البلاد وقراها. بالتالي يبدو أن هناك خللا بين كلام الناشرين والواقع، وهذا الخلل يتكرس في غياب إحصاءات رسمية، في بلد لا يحوز معاهد إحصاء أو سبر للآراء. لكن الجزئية التي من الممكن أن نتفق فيها مع الناشرين أن مبيعات الكتاب الورقي قد تضاءلت، وهو أمر لن نجادل فيه، لأن المطالعة تحولت، منذ سنين، إلى وسائط أخرى، إلى الكتاب الإلكتروني، وللغرابة أن الجزائر ـ ولحد الساعة ـ لم يصدر فيها كتاب رقمي واحد، في ظل تعثر سوق المبادلات الرقمية، تبعاً للبيروقراطية التي تنعم فيها البنوك، حيث يعجز المواطن عن إجراء أي معاملة شرائية على الإنترنت، ما يعزز ساحة القرصنة، وإن قلنا إن الشباب يقرؤون فإنهم يقرؤون كتباً مقرصنة ـ بالدرجة الأولى ـ بحكم أن البديل غير متاح، ولن يجرؤ على دخول السوق الرقمية، فيبحثون عن أحدث الإصدارات في مواقع التحميل، والذنب ليس ذنبهم، لأننا أغفلنا النظر إلى تحولات شكل القراءة، ولا نزال ننتظر أن يتقدم الناس من مكتبة قصد اقتناء كتاب، بينما في دول أخرى حيث تنتعش سوق الكتاب، فإن القارئ يقتني كتبه وهو جالس على أريكة في البيت، وفي ذلك المكان يطالعه ويعلق عليه. فماذا ننتظر كي ندخل سوق الكتاب الرقمي؟

تحديث سوق النشر

ليس من المنطقي أن نعلق تعثر الكتاب الرقمي على شماعة النظام البنكي، الذي يرفض أن يُساير عصره، لأنها حجة جاهزة ولن نخرج منها على الأقل في المدى القريب، كما أنها تفصيل من المحتمل تفاديه وابتكار فجوة إزاء تعنت الواقع. لكن الحقيقة الأخرى التي نغض الطرف عنها تفيد بأن سوق النشر ـ في مجمله ـ لا يزال، في الجزائر، سوقاً تقليدية، تصر على عدم الانخراط في تحولات الراهن. إلى زمن قريب ظلت دور النشر حكراً على أسماء ناشرين يحسبون على أجيال قديمة، ثم حصلت طفرة في العشرية الأخيرة، مع ظهور دور نشر جديدة، أسسها شبان، لكن الغالب عن هؤلاء الشباب أنهم يعيدون تكرار أخطاء من سبقهم، يبررون ـ بشكل غير مُقنع ـ أن عزوفهم عن الكتاب الرقمي يتأتى من دفاعهم عن الكتاب الورقي. مع أن الملاحظ في بلدان تقدمت في هذا المجال أن الكتاب الورقي لم يفقد مكانته، بل إن نظيره الرقمي زاد من أرقام الإقبال عليه. إذن صار ابتكار الحجج بديلاً عن ابتكار الحلول من أجل الترويج للكتاب، وبينما صار كل شيء مرقمناً، وكل السلع الثقافية متاحة على منصات البيع، من أفلام ومسرحيات وأغانٍ وبرامج تعليم، يظل الكتاب الغائب الأكبر، وتتكرر كل مرة تلك الأسطوانة، عن ندرة القارئ، كما لو أننا نود قارئاً تحت الطلب، يستيقظ صباحاً فيمضي إلى مكتبة، متناسين أن الكتاب كغيره من السلع، لا بد من أن يخضع إلى شروط السوق التي يحيا فيها، وهي سوق تفرض عليه تحولاً إلى الرقمي، وبما أن ذلك ليس متوافراً، فليس من حقنا أن نلوم القارئ الذي يقبل على تحميل كتب مقرصنة، نظراً لأننا لم نوفر له تلك السلعة، ونزوعه إلى مطالعة ما هو مقرصن ليس من باب تشجيعه على ذلك الفعل المخل بالقانون، بل لأنه يشق في الوصول إلى الكتاب في طبعته الأصلية، في بلاد حيث المكتبات صارت أمكنة نادرة كذلك.

أسطورة الورق

في كل مرة يأتي الحديث عن الثقافة، تطرأ على ذهن المستمع صورة كتاب، ذلك الكتاب الورقي الذي نشهره في كل حين مثل من يشهر سيفاً، بوصفه دليلاً على الثقافة وبيان حضورها. تلك الصورة تحولت إلى أسطورة. ويصعب على أي أحد أن يتخيل غياب ذلك الغرض ـ الكتاب، من منظور أن غيابه يعني غياب الثقافة بأكملها، وهي فرضية كان بالإمكان تخيلها في أزمنة سابقة، لأن الكتاب في الوقت الحالي يضمر، ويتراجع عن الحضور في عادات الناس بحكم تغير ممارساتهم اليومية، من هنا تتكرس أهمية نظيره الرقمي، كي يساهم في الرفع من أرقام المطالعة، وبالتالي مصالحة الكتاب الورقي. فبينما نلاحظ أن الحكومة تتجه، بخطوات متسارعة، صوب رقمنة المدرسة، وإتاحة الألواح الرقمية للتلاميذ والطلبة، فمن المنطقي أن نتساءل: ماذا سيقرؤون؟ مع العلم أن كل المناهج المدرسية تقوم على كتب. الإجابة بسيطة: إنهم يطالعون كتبهم المدرسية في صيغها الرقمية. فماذا إذن يمنع الكتاب الأدبي من التحول أيضاً؟ من الضروري أن نخرج من التعريفات الكلاسيكية لمهنة النشر، مع العلم أن هذا الخروج لن يكون سهلاً، فصناعة الكتاب الرقمي تستوجب جيلاً جديداً من الناشرين، تستوجب أدوات وخبرات، وهي عوامل ليس مهيأة في الأرضية الحالية التي يحيا فيها الكتاب، في الجزائر، ثم لا بد من الفصل بين الناشر والمكتبي. لأن بعض الناشرين تحولوا إلى مكتبيين، فإنهم يراهنون على حسابات شخصية، على منطق الربح إذا زارهم قراء واقتنوا كتباً، مع العلم أن هؤلاء الناشرين المكتبيين يتمركزون في الغالب في عاصمة البلاد، وإذا خرجنا من حيز العاصمة فسوف نشقى في العثور على مكتبة. إن هذا المنهج الذي يدعي أصحابه أن الكتاب الرقمي سوف يقضي على المكتبة يصلح أن يكون من مخاوف بلدان أخرى، حيث المكتبات تنبت مثل المخابز، أما في الجزائر، فالأولوية هي إنقاذ فعل المطالعة في حد ذاته، ومواكبة تجارب مماثلة في بلدان نجحت فيها العملية، بالانتقال إلى الكتاب الرقمي بدل معاداته.

المصدر: 
القدس العربي