*ـ بدايةً أريد أن أستفسر عن سرّ التأخّر عن الكتابة في هذا الموضوع بالرغم من أهميته، منذ النصف الثاني من هذا القرن، وما هي أهم العوامل التي دعتكم للكتابة في مثل هذا الوقت بالذات؟ وفي الناس من يقول: إن هذا الكتاب يختلف في لهجته عن خطكم العام، كيف ترون ذلك؟
عندما يتفاقم الخطأ، تتحول الحاجة إلى التصحيح، إلى ضرورة واجبة. ولقد تسرب الخطأ في فهم الجهاد الإسلامي إلى مجتمعاتنا الإسلامية منذ حين.. ولكنه لم يتفاقم، ولم ينذر بجرّ ذيول من الآثار المدمّرة للبنيان الإسلامي إلا في السنوات الأخيرة.. أما عن لهجتي في كتاب (الجهاد) هذا، فلا أعتقد أنها تختلف عن لهجتي في كتبي الأخرى، على أن المهم هو المعنى والمضمون وليس اللهجة.
*ـ ترون في مقدمة كتابكم أن حلّ مشكلة الصراع بين الأفكار الإسلامية المتناقضة هو أن تصمت الأفكار وتستنطق الأحكام الفقهية.؟
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: أليس التدبر في النص الإسلامي؛ قرآناً أو سنةً؛ والبحث فيه هو فكرٌ ومن ثم حكم! وهذا هو الاجتهاد بعينه، وإن العقائد والأحكام هي بحث في نصّ من قبل مجتهد، وإن الذين أنتجوا المعرفة الإسلامية ليسوا رجالاً اجتهدوا في نصٍّ؟ وهل استنفدت جميع فهوم النص؟ أرجو الإجابة من فضيلتكم بعيداً عن المصطلحات، والتعامل مع المعاني.
ليس المراد بالفكر هنا الأداة الذهنية لفهم النصوص والأحكام. وإنما المراد به معنى اصطلاحي يعرفه أكثر المثقفين، ويمارسه كثير ممن يجعلون لأفكارهم سلطاناً على الإسلام وحقائقه وأحكامه.. من منا لا يعلم أن في عصرنا هذا تياراً يقوده خليط من العلمانيين وأولي الرغبة في العبث بعقائد الإسلام وأحكامه، عن طريق التظاهر بتجديده وعصرنته؟.. وهل فينا من لا يعلم أن سبيلهم إلى ذلك هو تأليف إسلام تبتدعه أفكارهم، بدلاً من الإسلام الحق الذي يجب أن يقود الأفكار ويجنّدها لنصرته ولتكون حارسة لأحكامه أمينة على حقائقه؟.. وهذا طبعاً بعد فهمه والإذعان له عن طريق العقل والفكر، كأداة سليمة للفهم.
*ـ ذكرتم أن من الأخطاء الموجودة في أذهان المسلمين تصور معنى الجهاد على أنه الجهاد القتالي فقط، وغياب قاعدة الجهاد وهو الجهاد الدعوي، ما سبب هذا التصور وانعكاساته على فهم معنى الفتوحات؟ ثم ألا ترون أن المسلمين فهموا معنى الفتوحات على أنها فتح البلاد وتدويخ العباد، ولم يفهموها على أنها رحمة هدفها رفع الظلم؟
عندما تستأثر المشاعر النفسية بسلوك الإنسان، تغيب عنه الحقائق وتلوح أمامه أطياف نـزعاته وأهوائه، فينساق وراءها موهماً نفسه أنه ينضبط منها بقواعد العلم وأحكامه. وغياب جهاد الدعوة إلى الله وتبليغ رسالات الله وأحكامه، عن مسرح الحركات الإسلامية اليوم، نتيجة طبيعية لهذا الواقع، الذي قلّ من تنبه إليه هذا اليوم.
أما الفتوحات الإسلامية التي سجلها تاريخنا الإسلاميّ، فلم يقل أحد إنها كانت - كما تقول - قهراً أو تدويخاً للعباد، اللهم إلا أن يكون القائل عدواً موتوراً، فكلامه لا يعلو عن تراب الأرض وقذاها. لقد قال هذا العدو الموتور الكلام ذاته عن رسول الله وفتوحاته. فهل يخضع مثل هذا اللغو للبحث والنقاش.
*ـ في حديثكم عن الجهاد القتالي تقولون إنه لحماية المكاسب التي دخلت في حوزة الدولة، وتذكرون أحد الأسباب التي تتخذ لحماية هذه الدولة هو مقاتلة من أصرَّ من سكان الجزيرة العربية على عبادة الأوثان بعد تبليغ المسلمين الدعوة، السؤال: أليس هذا يتعارض مع مبدأ قرآني واضح: <لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ >، وأن الدليل الذي تستدلون به هو: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله...))، تقولون في شرحه فيما بعد هذا مع من يبدأ القتال، فكيف يصلح أن يكون دليلاً هنا؟
ليس فيما ذهب إليه جمهور الفقهاء، أن مشركي الجزيرة العربية يلزمون بالإسلام، ولكن الذي قالوه وقرروه تبعاً لوصية رسول الله (ص): هو أن المشركين إذا أصروا على بقائهم على شركهم ووثنيتهم، فيجب إخراجهم من الجزيرة العربية، ولهم بعد ذلك أن يمارسوا وثنيتهم كما يشاؤون. فهل في هذا أي تناقض مع قول الله تعالى: <لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ>
*ـ يمكن أن نفهم من الخط العام للجهاد الذي خططتموه أن الجهاد يبقى دعوياً حتى بناء الدولة. وهذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى المدينة وبنى دولته. هنا لابد من طرح تساؤلين مهمين:
أ- أليس هناك فارق بين المجتمع الجاهلي وبين حالة العالم الإسلامي اليوم؛ من حيث التكوين العقائدي والهيكلية العامة للمجتمع؟!
ب- ماذا يصنع المسلمون لو أنّ دعوتهم اغتيلت أو منعت، في أي بقاع من العالم الإسلامي، ما هي الحلول في رأيكم؟
الجهاد القتالي الذي قاده رسول الله (ص) كان دفاعاً عن دار الإسلام، وعن النظام السلطوي الذي ساد وهيمن على تلك الدار. ولم يكن العدوان المتجه إلى رسول الله وأصحابه من الجهات المختلفة، يهدف إلى أكثر من استلاب دار الإسلام، والقضاء على ذلك النظام السلطوي.
إذن فشريعة الجهاد أولاً وبالذات لحماية هذين الحقين، ثم لصدّ كل من أراد أن يقف في وجه تبليغ الإسلام والدعوة الإسلامية.. وبناء على هذا فحيثما اتجه الخطر إلى دار الإسلام للانتقاص منها، أو إلى النظام السلطوي للإسلام للقضاء عليه، أو النيل منه، أو إلى سير الدعوة الإسلامية لكتم أنفاسها، وجب الجهاد وتحقق سبب قيام الدولة الإسلامية به.
ولكن يعود الأمر إلى مثل ما كان عليه رسول الله (ص) وأصحابه قبل الهجرة، بالنسبة لمسلمين ليس لهم دار إسلام ولا نظام سلطوي، كالذين يعيشون في بقاع من أوربة وأمريكا؛ فهؤلاء ليس عليهم إلا أن يخلصوا في الدعوة إلى دين الله، وليس لهم إلا أن يصمدوا ويصبروا على كل أذى يلقونه في سبيل الله، إلى أن تتحقق لهم دار إسلام يقيمون عليها نظامهم الإسلامي.
*ـ تثيرون مشكلة التحزب وترفضونها لدعاة المسلمين وتقولون: إذا كنت كهؤلاء أجالسهم مجالسة الندِّ للندِّ يكون حواري بعيداً كل البعد عن هدايتهم، السؤال: الحزب في معناه مجموعة من النظم التي تدعو لبناء الإنسان وتنظيم نشاطه، ما هو المانع أن يتمّ التحزب إذا كان من هذا النوع؟ ثم ألا ترون أن هذا التعميم الذي اتخذتموه فيه نظر؟
هذا الكلام إنما قلته بصدد اعتذاري، عن أن أمثل حزباً إسلامياً في الجبهة الوطنية؛ التي تتألف من عدد من الأحزاب مختلفة النـزعات والاتجاهات؛ لا شك أن هذا القبول يُتَرْجَمُ على أن قطرنا السوري هذا يتقاسمه عدد من أحزاب هذه الجبهة، فإذا كان عدد الأحزاب ستة فنصيب الإسلام منه إنما هو السدس. فهل الواقع الذي يعتزّ به قطرنا الإسلامي كذلك؟ وهل ثمة مسلم يقبل أن يكون صوت الإسلام فيه، واحداً من ستة أصوات معارضة؟!..
*ـ عندما تتحدثون عن أحكام الجهاد، وأنه من أحكام الإمامة تستثنون من ذلك ما يسمى ((بردِّ الصائل))؛ الذي هو هجوم إنسان أو فئة ما على حياة إنسان أو على ماله أو عرضه، وتذكرون أن أحكام الصائل داخلة في أحكام التبليغ، ألا ترون أن ردّ الصائل هذا قد أحدث شرخاً عريضاً في قاعدة الجهاد التي رسمتموها، وإذا تركنا التسمية ونفذنا إلى عمق المعنى يمكن أن يُبرر المخالفون أعمالهم وممارساتهم بردّ الصائل مستدلين أنه اعتدى عليهم؟.
للصيال باب مستقل في كتب الشريعة الإسلامية، وله مواصفاته وأحكامه، ومن الخطأ الجسيم الخلط بينه وبين الجهاد في سبيل الله. وليس المجال متسعاً لتفصيل الأحكام الفقهية للصيال، ولكن يؤسفني جداً أن هذا السؤال يكشف عن مدى جهل أكثر من يتحركون في نطاق العمل الإسلامي بأحكام الإسلام وبعدهم عن التفقه في دين الله.
وزبدة القول في الإجابة عن سؤالك هي أن كل من كان آمناً في سربه، ورأى من أقبل إليه ليسطو على حياته أو ماله أو عرضه، فإن له أن يردّه بالأخف فالأشدّ.. ولو اقتضى هذا الترتيب قتل الصائل، فإن دمه يكون هدراً باتفاق علماء الشريعة الإسلامية.
هذا هو حكم الصائل، وهذا هو الحق الذي يملكه المصول عليه، لا فرق في ذلك بين حاكم ورعية، أو بين قائد ومقود.. فمن هو الصائل والمصول عليه في واقع هذه الجماعات؟ أعتقد أن الجواب معروف بالبداهة لكل متبصر.. أما تفويت الحق في الوصول إلى الحكم، فهو أبعد ما يكون عن أن يدخل في معنى الصيال؛ إذ هو ليس عدواناً على حياة ولا على عرض ولا على مال، وإنما حصر رسول الله حق المقاتلة في الصيال على هذه الحقوق الثلاثة دون غيرها.
*ـ لا تجيز في كتابك قمع المذهب المخالف في حديثك عن الديمقراطية، لكن هناك من يرى في كتابكم الاتهامية للذين يخالفونكم بالرأي، وخاصّةً تسميتكم الشيخ الألباني بالشيخ المشبوه! كيف ترون ذلك؟.
الكشف عن بطلان الآراء الباطلة، أو فضح دلائل العمالة فيها ليس قمعاً للرأي ولا لصاحبه. بل إن قواعد الإسلام بمقدار ما توصي بترك الناس أحراراً في التعبير عن آرائهم، تأمر بتحذير العامة من اللغو الذي قد يكون فيها، وليس بين هذا وذاك أي تناقض.
وكلمة ((المشبوه)) تعني الإنسان الذي حامت حول كلامه أو شخصه شبهة عمالة أو ترويج لخطة أجنبية، دون أن تتحقق. ولا شك أن هذه الفتوى العجيبة التي أطلقت في ميقاتها المرسوم، تثير هذه الشبهة في ذهن كل عاقل. فما علاقة القمع (أي الإسكات) بالتعبير عن الشبهة التي تحوم حول هذا الكلام وصاحبه؟.. إن لهذا الشيخ وأمثاله أن يرددوا مثل هذه الفتوى الباطلة، كما يشاؤون. وعلى حراس هذا الدين أن يبينوا بطلانها وأن يوضحوا مثار الشبهة الكامنة وراءها كلما دعت إلى ذلك الضرورة المناسبة.
*ـ ’يمكن أن نفهم من موقفكم مما حصل في الجزائر أنكم غير متفائلين بمستقبل الإسلاميين، لماذا ينظر لهؤلاء على أنهم معصومون؟ أليسوا بشراً يحق لهم أن يجربوا ويفشلوا مثلهم مثل غيرهم؟
ليس في سطر من كلامي الذي قلته في كتابي هذا ما يدّل على أنني متشائم، بل إنني كنت ولا أزال متفائلاً بمستقبل إسلامي مزدهر في الغرب؛ الذي يحارب قادته اليوم الإسلام، قبل المشرق الذي يتخبط اليوم بمشكلاته المصطنعة. ولكن من الذي قال إن الإسلاميين الذين يتحركون في الجزائر ينبغي أن لا يوجه إليهم أي نصح، وأن لا يحذَّروا من أي غلط، لأنهم بشر وغير معصومين؟!!..
*ـ أريد أن أنهي أسئلتي بتعقيب بسيط: إن الجهاد الذي حددتم معالمه يقوم على الثنائية؛ ألا وهي نفي العنف داخل المجتمعات الإسلامية، والبديل هو الدعوة إلى الله وقول الحق وتحمل مسؤولية ذلك، لكن الذي يحدث - وهو ما أخشاه - أن ينبذ العنف وتغيب الدعوة، وإن كتابكم كما يرى البعض ركز على الأول أكثر من التركيز على الثاني كيف ترون ذلك؟.
مع جزيل الشكر لجهودكم وسعيكم الحثيث لخدمة الإسلام والمسلمين فتفضلوا بقبول الاحترام والتقدير.
لقد أنفقت ثلث كتابي هذا في بيان أهمية الدعوة إلى الله، وبيان أنها القاعدة الجهادية العظمى التي نهض عليها المجتمع الإسلامي.
فإذا كان في الإسلاميين من لا يروق له القيام بهذا الواجب الجهادي، ولا تطيب نفسه إلا بحمل السلاح في وجه إخوانه المسلمين داخل دار الإسلام وتحت مظلة المجتمع الإسلامي، فما هي مسؤوليتي في جريرة حذرت منها ونهيت، وأطلت وفصلت في بيان خطورة ذلك كله، وبُعْدِه عما يأمر به كتاب الله، وتؤكده سنة رسول الله؟
وإذا كان هؤلاء الإخوة لن يقوموا بواجب الدعوة إلى الله والتعريف بدين الله، أفيسوغ لنا أن نتركهم يتسلَّون - كبديل عن ذلك - بهذا الهرج الذي نهى، ثم نهى، ثم نهى عنه رسول الله (ص)؟!..