كثيرة هي الكتب والنصوص التي حاولت في العقود والسنوات الأخيرة إعادة قراءة تاريخ الدولة المصرية الحديثة، وبالأخص بعيد الخمسينيات مع انطلاق المشروع الناصري. وتعدّدت المقاربات في هذا الشأن بين السياسي والاجتماعي. كما تميزت بعض هذه المقاربات باعتماد التاريخ المصغر، أو تاريخ الأشخاص بالأحرى، مدخلا لاعتبار النظر في زوايا ونقاط عديدة من تاريخ العلاقة بين الطبقة الوسطى والدولة والثقافة الشعبية في القاهرة وما حولها. مثل كتاب المؤرخة الأمريكية فرجينيا دانيلسون «صوت مصر: أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين» الذي استطعنا من خلاله تتبع مزاج الشارع والنخب المصرية، من خلال موسيقى وكلمات أغاني «الست».
ومن بين المحاولات الجديدة الغنية التي حاولت أيضا الاستفادة من التاريخ الشخصي لإعادة قراءة التاريخ الاجتماعي لمصر، نشير إلى الكتاب الصادر مؤخرا لأستاذ الدراسات العربية في جامعة يورك ـ كندا وليد الخشاب بعنوان «مهندس البهجة»/ المرايا للثقافة والفنون، الذي قدّم فيه قراءة لتاريخ الطبقة الوسطى المصرية وهمومها في الخمسينيات حتى التسعينيات تقريبا من خلال أعمال المسرحي والسينمائي المصري فؤاد المهندس. يرى الخشاب أننا كثيرا ما لا نأخذ الكوميديا على محمل الجد، بينما دراسة إنتاج الممثل المهندس على نحو جاد، تكشف لنا الكثير عن تطورات المجتمع العربي الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، وميلاد الدولة الوطنية، ففؤاد المهندس، كشخصية سينمائية ومسرحية، تجسيد للفئات الاجتماعية التي صعدت، بفضل سياسات التحديث المركزية التي انتهجتها الدولة في مصر.
ولد المهندس عام 1927، فكان يصغر جمال عبد الناصر بعشر سنوات وكان شابا عند قيام حركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952. وبالتالي فهو كشاب وكفنان سيبدأ حياته الفنية مع تفتّح البلاد على حركة إصلاحية تحديثية، أحدثت ثورة سياسية واجتماعية، من هنا فإنّ مسار حياته وأعماله لا تعكس مجرد حياة فنان فقط، بل هي تعبير عن عصر بأكمله. ينطلق الخشاب من فكرة اللاوعي البصري التي صاغها والتر بنيامين، لتحليل الأفلام في الخمسينيات. فالعلاقة بين السياسي والسينما، وفقا للخشاب، لم تكن تسير وفقا لاتجاه واحد، الذي يتمثّل في فرض السياسي أجنداته وأفكاره على هذا العالم، بحيث يصبح خادما له ولخطابه، وهو ما تذهب إليه في العادة غالبية التحليلات، أما مفهوم «اللاوعي السينمائي» فيشكّل مدخلا آخر يرى أنّ الفن لا ينتج بالضرورة عن توجيهات من مسؤولين، أو توجهات يستشفها الفن من خطابات الدولة، بقدر ما أنّ المجتمع في لحظة ما ينتج مواقف وخطابات تتشابه في بنيتها وروحها مع السياسي.
البهلوان:
عرف عن فؤاد المهندس توجهه في أعماله في الخمسينيات والستينيات للعب دور الفارس والمهرج. وهناك من ربط فكرة التهريج لديه ودعمها بمحاولة من النظام الناصري نشر السطحية والتفاهة، من خلال تقوية تيار التسلية الخفيفة البعيدة عن السياسة، وأقوى ملامحها الفارس والتهريج، لكن عوضا عن ذلك يرى المؤلف أنّ هذا التوجه الكوميدي كان متوافقا مع مزاج عام لدى الجمهور الجديد، الذي خلقته التحديثات الناصرية، فقد كان قطاع كبير من هذا الجمهور، من أصول ريفية أو صعيدية، ومن القادمين حديثا إلى المدينة، أو ولد لأهل قدموا حديثا للمدينة، من مئات الآلاف الذين نزحوا من الدلتا والصعيد، في موجات متتالية نحو القاهرة والإسكندرية، طلبا للعمل في المصانع والشركات والمصالح الحكومية التي أنشأتها الدولة الناصرية. وبحكم هذا الاستقرار الجديد احتفظ هذا الجمهور في ذاكرته القريبة بنماذج التسلية الشعبية الدارجة، التي كانت تعرض في القرى والمدن الصغيرة. ولما وجد نفسه في المدينة، استحب خلطة فكاهية تجمع بين الحداثة اللائقة بمدينة ناصر في دولة التحرر الوطني، بوسيط ترفيهي حديث، وهو السينما، وتقاليد الفرجة الشعبية والترفيه الذي ألفه في المجتمعات خارج المدن ومراكز التحديث، لكن من المفارقات أيضا في هذه المسرحيات، أنها بقدر ما كانت توائم احتياجات طبقة وسطى صاعدة (قسم منها من الريف) فإنّ اعمال المهندس الأولى (وبالأخص أعماله على صعيد الراديو مثل برنامج «ساعة لقلبك» 1954) لم تكن مجرد آلة ترفيه فعالة وغنية، بل كانت جزءا من تعزيز تصورات الطبقة الوسطى عن نفسها. وفي هذا المنتج في برنامج «ساعة لقلبك» عمل على شخصية الصعيدي بوصفها الشخصية المضادة لأبناء الطبقة الوسطى من المتعلمين، أو بوصفها نموذجا لهذا الآخر الجذري.
وهذا ما نراه في اسكتشات البرنامج، التي ركزت على صورة الصعيدي بوصفه فقيرا وجاهلا وقابلا بأقل مما ينبغي أن يقبل به النموذج المصري، في دولة ما بعد الاستقلال. وهذا المصري النموذجي هو المنضم حديثا إلى شرائح بسيطة في الطبقة الوسطى بفعل التوظيف، وقد يكون هو نفسه من أصول صعيدية. وسيبدو الأمر أكثر وضوحا في مسرحية «أنا وهو وهي» من بطولة فؤاد المهندس. ففي المشهد الذي تدخل فيه المعلمة إلى مكتب المحامي فؤاد المهندس وتشكو زوجها وتشير إليه بكلمة «بعلي» نضحك من المفارقة بين فظاظة وقلة تعليم وقلة تهذيب تلك المعلمة، مقابل كياسة وأدب وتعليم المحامي فؤاد المهندس. هي ترتدي جلبابا وتلتحف ملاءة لف وهو يرتدي البذلة وربطة العنق. هي من عالم الطبقة الوسطى المدينية الناصرية، أي من خارج تلك الشرائح التي انضمت إلى الطبقة الوسطى بعد التحرر الوطني، وهو ينتمي إلى تلك الشرائح. ولعل هذا المنطق، وفق الخشاب، يعود إلى ما قبل المرحلة الناصرية، لكنه تكثف مع تسارع ونمو الطبقة الوسطى في العهد الناصري. ولعل أهم ما فيها أنها تركز على تفاصيل الممارسات والمتع الصغيرة الخاصة بالطبقة الوسطى، أو ما على الأخيرة فعله: استخدام معجون الحلاقة وليس الصابون، واستخدام معجون الأسنان وليس السواك، بل الذهاب للمصيف في حد ذاته. وكل هذه كانت ممارسات جديدة نسبيا، ينبغي على المواطن أن يلتحق بالطبقة الوسطى في المدينة ليستمتع بها استمتاعا كاملا في بداية ظهورها.
أيديولوجيا المرح:
يكمل المؤلف حفرياته في مسرح المهندس، فيري أنّ الأخير كان يمثّل تجسيدا لـ»أيديولوجية الفودفيل» التي تروج للقيم الشائعة في النوع المسرحي والسينمائي في أصوله الفرنسية المسمى الفودفيل: الخفة، المرح، والسعي وراء المتعة والتحرر في العلاقات العاطفية والجنسية بين الجنسين، مع مزيد من التحرر للنساء. وهي أيديولوجيا تدعم علمنة المجتمع بشكل غير مباشر. ففي «أنا وهو وهي» تتجرأ الممثلة شويكار وتدعو نفسها إلى قضاء الليلة في غرفة المهندس، وهو الأعزب الغريب عنها، ولا تتورع عن مغازلته، أي أنّ المسرحية تفتح أفق الاستمتاع بالحب والغراميات، ما يشكّل قطيعة مع القيم المحافظة، لأنها متع مطروحة دون أن تلتزم بإطار الزواج التقليدي.
سنلاحظ في فصول أخرى من الكتاب، كيف لعب فؤاد المهندس دورا سياسيا من خلال المسرحيات والبرامج الإذاعية التي قدمها في الستينيات، وهذا ما يتضح من خلال الاسكتشات الغنائية التي قدمها مع المطربة اللبنانية صباح، التي يلعب فيها دور موظف يعود إلى المنزل بعد عمل شاق، وهو صائم، وينتظر من زوجته أن تبطخ له عشرات الأصناف مكافأة له، بينما تلومه على تبذيره. والظاهر من الاسكتش دعوة لترشيد استهلاك الأكل، لكنه في الحقيقة يمثل تذكرة من النظام في الستينيات بأنّ أبناء الطبقة الوسطى غارقون في نعيم الاستهلاك.
العودة للأصول:
حاول المهندس بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 تقديم التسلية والتعزية للجماهير، لكن الفكاهة هنا ستكتسب معان جديدة. ففي فيلم الثنائي المهندس/شويكار «نحن الرجال طيبون» 1971 يلعب المهندس دور مصري أصيل من الشرائح الدنيا في الطبقة الوسطى، بينما تلعب شويكار في الفيلمين دور الفتاة المدللة، ابنة الطبقة العليا العائدة من أمريكا وتتحدث المصرية بلكنة أجنبية. ويبدو تصور نمط الحداثة متجسدا في شخصية شويكار نقيضا للنمط الذي يجسده المهندس. فشويكار تمثّل حداثة لا قوام ولا شرعية لها إلا بالانضواء تحت استاذية الغرب، وتحديدا رأسه الامبراطوري. وتبدو ازدواجية اللغة والحيرة بين مستوياتها عرضا لازدواجية التصورات عن الحداثة والتوترات، التي تقع فيها الذات العربية في قلقها بين تصور وآخر. وهنا تظهر شخصية المهندس لتقدم تصورا معقدا للعودة إلى العربية السليمة بعد هزيمة يونيو. وربما تتم هنا المصالحة أيضا مع صورة المصري البسيط تمييزا له عن «مصري الطبقة الوسطى» الناصري الذي هزم مشروعه. ولعل في هذا التوجه نحو العودة للأصول ما يذكرنا أيضا بالتوجهات التي سارت عليها أم كلثوم بعيد السبعينيات، من خلال التركيز على صورتها بوصفها لا تمثل مغنية النخب المصرية والطبقة الوسطى حسب، بل هي على العكس ابنة الفلاحين والمشايخ (الناس العاديين والجذور).
ستمر هذه المنظومة بعد ذلك بمرحلة جديدة، إذ تمت إزاحة الثنائي المهندس/شويكار في عام 1977 وألغيت مسلسلاتهما الإذاعية كتعبير عن نهاية منظومة الفكاهة، كما تبلورت وتطورت في العهد الناصري، وذلك بهدف إرضاء قوى اليمين وإظهار النظام بمظهر حامي الأخلاق وراعي القيم الإسلامية، إلا أن هذا لم يعن انسحاب المهندس من المشهد المسرحي، فبعد تحوله إلى نجم أكبر سنا، أصبح جد العائلة المصرية في الطبقة الوسطى من خلال مسلسل الفوازير في الثمانينيات والتسعينيات.
اقتباس الغرب وتحويله:
يلاحظ الخشاب أنه على الرغم من خطاب الاستقلال الوطني بعيد الخمسينيات، كان المسرح والسينما المصرية يسيران بالعكس في الاقتباس من الأفكار الغربية، لكن هذا الاقتباس لا يعني بالمقابل عدم حدوث تحول في المنتج الثقافي حين ينتزع من محيطه ليغذي محيطا مغايرا. وهذا ما نراه في مسرحية (بيجماليون/شخصية أسطورية يونانية) لبرنارد شو (1913) والتي تتحدث عن فكرة إمكانية وصول الطبقات الفقيرة غير المتعلمة إلى المساواة الثقافية مع الطبقات الحاكمة، لاسيما عشية قيام الحرب العالمية الأولى. لكن مع اقتباس المسرحية في نهاية الستينيات المصرية في «سيدتي الجميلة» نرى شويكار (شريكة وزوجة المهندس) كفتاة غير متعلمة، تبذل مجهودا وصبرا، وبفضل هذه العوامل تنجح في الانضمام إلى طبقة الارستقراطية. كل هذا يغذي حلم الوصول إلى الطبقات الحاكمة، لكن الترويج له بهذه الدرجة من لصة معدمة إلى نبيلة ارستقراطية، هو دعاية تحثّ الطبقات الفقيرة على تمثّل الارستقراطية، كهدف، والسعي إلى الانضمام إليها أو على الأقل إلى خدمتها، لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة على الطبقة الشعبية. على الرغم من بعض التأويلات والالتقاطات الذكية التي قدمها الخشاب في الفصول الأخيرة من كتابه، لكن تبدو أحيانا مفرطة في نواياها. وربما يعود ذلك لتوظيفه أحيانا المنهج ما بعد الاستعماري في قراءة بعض الأعمال. مع ذلك يمكن القول إنّ نص الخشاب من النصوص البارعة والجديدة، وليتنا نعثر على قراءات مشابهة في عالم الكوميديا والمجتمعات العربية في المئة سنة الأخيرة.