*للشّعر ملائكة كما أنَّ له شياطين حسب تُقى الشاعر ودرجة صلاحه ومضامين أناشيده وقصائده
* الملاحم الشعرية تهَب السامعَ متعة لا توجد في القصيدة
* أسماء الله الحسنى ومعانيها العظيمة هي أساس التوحيد والتوكّل على الله
* التذوّقَ الأدبي في تاريخنا الحالي أصابه التقزّم!
* لا أرى شيئاً يفوق القصيدة الخليلية
______________________________
بينما تقول العرب: أَعذبُ الشّعر أكْذَبه. ما أرى الطبيب والشاعر مروان عرنوس إلّا قائلا: أعذب الشعر أصدقه، وأبقاه ما كان للروح مخاطِبًا وللإيمان داعِما. أو هذا على الأقلّ ما أوحت به إليّ عناوينُ دواوينه الناطقة بتوجُّه شِعره الرقيق والكاشفة عن فحوى أدبه الراقي، ومنها: مصاحف تمشي، ولكنّ الله رمى، وللسماء صهيل، رواح الأرواح. وُلد في مدينة حمص بوسط سورية عام 1955م، وتخرّج في كلية الطب جامعة حلب، ثم حصل على شهادة الماجستير في تخصص الأمراض الباطنية، وظل وفيا للمعطف الأبيض لا يغادره، دون أن يَحول ذلك بينه وبين الشِّعر الذي عشقه واجْترحه منذ الصغر، فركب موْجَه وسبح بمهارة في بحوره، بل اختار الصعب حين نظم المسرحية الشِّعرية وكاد يتخصّص في الملاحم الشعرية التي تتطلّب حِسّا قصصيا ونفَسا طويلا وثقافة لغوية وتاريخية واسعة. هذا إلى جانب المقامة الأدبية والرواية اللتيْن خاض غمارهما وترك فيهما بصمة غائرة. وكالعادة، تعرّفْت عليه عبر الكوكب الأزرق، وبدماثة خلُق وهدوء طبع ورصانة قول كان على موعد لم يخلفه وهذا الحوار:
=ما قولكم في أن (عرنوس ) ليس مجرّد لقب لعائلة ولا عنوانا لحارة، ولكنه تاريخ عابر للقرون؟
في أحداث دواويني(قيودٌ أزهرتْ حُبّا)، إجابة على سؤالك.. وهو أن ابنة أمير طرابلس الصليبي وقعت أسيرة في أيدي رجال إسماعيل أبي السباع، وذلك في عهد نجم الدين الأيوبي بعد معركة حطين، فأحسن معاملتها. وبعد ذلك بشهور، وأثناء جولة على الأسرى، طلبَتْ منه فكَّ أسرها، فوافق، ثم أعلنتْ إسلامها، وأبت أن ترجع إلى أهلها، بعدما أحبّت العرب المسلمين. وما كان منه إلّا أن تزوّجها وأهداها أيقونة ذهبية ليلةَ عرسهما وأنشد:
قيودٌ أزهرَتْ حُبّا تسرّ القلبَ واللبَّا
لقد كانت أسيرتَنا فصارتْ من ذوي القُربَى
ومرّت الأسابيع وحملَت، ثم أبدت رغبتَها بزيارة أهلها، فسمح لها، وهناك غضب أبوها وأُمّها منها لأنّها تزوجّت من عربي مسلمٍ ، ونفوها إلى روما حيث جدّها وجدّتها، وانقطعَت أخبار زوجها عنها، وأنجبت ابناً سمته عرنوس، وبثّتْه ذكريات أبيه، لكن جدّه كان ينشئه على الحقدِ والانتقام من العرب، ثم شبَّ وأُرسل في حملة صليبية، وعند وداعها ابنها الزاحف إلى قتال أهلها وضعت الأيقونة في عنقه، وقالت له :هذه من والدك إسماعيل أبي السباع أهداني إياها، وأَعلمتْه أنه سيقاتل أهلَه وأعمامَه العرب، وهذا ذنب عظيم، لكن الابن ظنَّ كما قال له جدّه أنَّ بها مسّاً من الجنون.
وجرت معركة بين جيش عرنوس والجيش العربي المسلم عند مشارف حلب، وقَتل فيها عرنوس عدداً من أبطال الخصم بشجاعة أثارت الانتباه وبثّت الخوف في قلوب العرب، ثمَّ تصدّى له قائدٌ كبير العمر يريد أسْر هذا الفتى الشجاع، وبعدما انهزم عرنوس، وهمَّ البطل المسلمُ أن يشدَّ وثاقه، فوجئ بالأيقونة في صدره، ودار بينهما حوار ذو شجون ، تعرّفا من خلاله على بعضهما، قبل أن يتعانقا ويتبادلا القبلات، ويعلم الابن أنّ جده زوّر الحقائق، وينضم إلى جيش أبيه ويعلن إسلامه، لينشد والده:
قيودٌ أزهرتْ حُبّا تسرُّ القلبَ واللبا
أتى خصماً يبارزني فكان ابني وكنتُ أبا
ثمّ دارت الأيام دورتها، وقُتل والدُه في إحدى المعارك، بنما كبر هو وسكن دمشق ومات بها ودفن في ساحة سُميت باسمه وهي ساحة عرنوس الشهيرة الآن في دمشق.
=باعتقادكم؛ لماذا يَكثُر الشعراءُ في الشام مقارَنة بغيره من البلاد العربية؟
يجيبك على سؤالك العلّامة الدكتور الأستاذ عبد الكريم اليافي رحمه الله في تقديمه ديواني ( مصاحف تمشي) الطبعة الثانية. حيث قال: ربوع الشام من أجمل بلاد العالم وأعرقها وأعرفها قاطبة. وذلك بماضيها الحافل بالمجد والسؤدد والبطولات والمآثر الإنسانية. أرضها متنوّعة بين السهل والجبل والروابي والأنهار والجداول والإشراف على البحر وعلى الصحراء. وكثيرة هي خيراتها و خضراواتها وأشجارها وفواكهها العسلية المذاق وأعنابها الفائقة الطعوم. آرامها وغزلانها كانت وحشية تسرح في المروج والسهول وعلى الروابي وأصبحت إنسية تقطن البيوت الأنيقة وتسحر بألحاظها القلوب والألباب. فراشاتها الطائرة كأوراق الورد تحوم دائما فوق شجيرات الورد وبراعم النَّور وأكمام الأزهار. سماؤها بديعة تزدان بأنصع النجوم وأشهر الكواكب وأهم المجرّات. وأخيراً ، شعبها ملتئم مُجدٌّ دؤوب محبّ للسلام والتعارف والتعاون مُتيَّمٌ أبداً بالقيم الإنسانية الرفيعة.. كلُّ هذه الملامح تُفتِّحُ الفِكْر والمواهب والقلوب للعلوم والفنون، ولاسيما فن الشعر الذي امتاز العرب فيه وتفوَّقوا في قريضه باعتماد الإيقاع المناسب البارع واختيار الكلمة الطيّبة واصطفاء الصور الرائعة واصطياد الخاطر المُلهَم، وكم من شاعر عاش وأنشد وغنّى تلك المحاسن الطبيعية والمفاتن الإنسانية.
وربوع الشام نريد بها المعنى الجغرافي التراثي الواسع على الرغم من تقاسيمها المصطَنعة في العصر الحاضر. وكل شامي شاعر بالفطرة وبالقوّة أو بالفعل حسب تعابير أرسطو الفلسفية. لذلك كثر الشعراء عندنا قديماً وحديثاً. منهم من اشتُهر بالشِّعر وغدا مُخلَّداً به. ومنهم من يغازل الشِّعر ويغازله ملَكُ الشِّعر أو شيطانه، ذلك أن للشّعر ملائكة كما أنَّ له شياطين حسب تُقى الشاعر ودرجة صلاحه ومضامين أناشيده وقصائده.
=إلام تُعزَى ندرة المسرح الشِّعري؟ وما الذي أغراك بخوض غمار الملاحم الشعرية؟
المسرح الشِّعري يحتاج إلى موهبة قوية، وفيضٍ في العطاء ، ولا أقلّل من قيمة الشعراء الآخَرين بذلك ، لكنها الحقيقة، وفي الشعراء العرب عدد كبير من الفطاحل، لكنهم ربما رأوا ذلك الطريق وعرا.
والملاحم الشعرية تروي وقائع تاريخية أو خيالية في أزمنة متباعدة وفي بلدان عديدة، وربما تهَب السامعَ متعة لا توجد في القصيدة، ناهيك عن كتابة التاريخ شعرا، وفي هذا متعة للشاعر والقارئ.
والحمد لله لديّ ملاحم شعرية ثمانية مطبوعة:
1- (مصاحف تمشي) تتحدث عن الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي مع ملك الروم عندما كان أسيرا عنده.
2-(حوارٌ...لا خناجر) تتحدث عن هجرة المسلمين إلى الحبشة، وحوار الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مع النجاشي.
3-(ولكنَّ الله رمى ) تتحدث عن معركة القادسية.
4-(وللسماء صهيل) تتحدث عن غزوة بدر الكبرى.
5-(وللرماح دموع) تتحدث عن الصحاب الثلاثة الذين تخلّفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك.
6-(قيودٌ أزهرت حُبّا) ذكرتُ عمّ تتحدث في جواب السؤال الأوّل آنفا.
7-(نزف الأقصى لهيبا) تتحدث عن معركة حطين المظفرة.
8-(وترنّحتِ الأسوار) تتحدث عن فتح القسطنطينية والسلطان محمد الفاتح.
وتبقى ملحمة مخطوطة أرجو الله أن ييسر طبعها وهي(كأنّها كوكبٌ دري).
=من وحي ديوانك (رواح الأرواح) الذي قبس من أسماء الله الحسنى، ما الخلفية الإيمانية التي أنجبت هكذا شعرا يبدو وكأنه في المحراب يسجد وبالمسبحة يسبّح؟
على كلّ إنسان أن يتقن فهمه الصحيح للدين، وأسماء الله الحسنى ومعانيها العظيمة هي أساس التوحيد والتوكّل على الله، فمَن لا يفقه معاني الأسماء الحسنى ولا يعمل بما توحي وتأمر ولا يعتبرها لبُّ الدين؛ فعليه مراجعة فهمه وحساباته. وهل هناك من تجليات للروح ، ومن داعٍ إلى سكب الدموع أكثر من الخضوع أمام عظمة معانيها، ومناجاة العظيم الذي قال في كتابه الكريم: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" .
=برأيكم، لماذا انقرض أدب المقامات الذي يفوح عطره من سنّ قلمكم بين حين وآخَر؟
أدبُ المقامات سهلٌ ممتنعٌ، وفنٌّ عظيم كجبلٍ مرتفع، يتقنه مَن أحبّه وكان مبدعا، وقد أصاب التذوّقَ الأدبي في تاريخنا الحالي تقزّمٌ ، وسيّر الاستمتاع باللغة وجمالها وسحرها قصورٌ ، لذلك نراه قليلا، لضعف الرصيد اللغوي ، ووقرٌ أصاب الآذان، ، فلا نرى إلّا عند القليل أذنا مرهفة الشعور.
وفي الحقيقة كانت مقاماتي في كتابي( نفوسٌ ملوّنة) فنّا فريدا، حيث أذكرُ القصة نثرا، ثم شعرا، وأظنَّ أنَّ هذا الفنَّ نادر، بل ربما لم يسبقني إليه أحد. وعندي مخطوطة كتبتُها ولمّا أطبعها (عقولٌ مجنّحة)، وهي مثل كتابي (نفوسٌ ملوّنة) تروي قصص طبيب حمصيٍّ مع مرضاه، وتغوص في تحليلات نفسية لهم، وتروم استخلاص العبر، طبعا دون ذكر أسماء المرضى- فسرُّ المرضى سرٌّ دفين- وربما تغلبُ عليها حيناً روحُ الفكاهة، والقصص حقيقية ، وليست من نسج الخيال.
وما كتبتُه يحدث مع الأطباء عادة، لكن الشاعر والأديب يرى لِما يحدث مغزى كبيرا، وهذا هو الفرق بين ما يراه الطبيب الشاعر وما يراه الطبيب الذي ليس بكاتب ولا شاعر.
=الملاحَظ أن دواوينكم المطبوعة تكاد تحتكرها دار الفكر ؟
دارَ الفكر، دارٌ عريقة متقنة الإنتاج ، وتتميز بدقة المواعيد، والوجه البسّام، ولكن طبعْتُ في دار الإرشاد أيضا كتابيْن: ملحمة وترنّحت الأسوار، وكتاب نفوسٌ ملوّنة وهو كتا ب نثري شعري يتحدث عن مكابدة الطبيب وما يحدث بينه وبين المرضى من قصص نادرة.
=مَن الطبيب الشاعر الذي تستحضره في ذهنك حين تمزج بين الطبّ والشّعر؟
الشاعر الدكتور عبد المعطي الدالاتي الحمصي، والشاعر الدكتور وجيه البارودي الحمَوي.
=في مرآتك الداخلية، هل تراك طبيبا شاعرا أم شاعرا طبيبا؟
أعتبر كلَّ طبيب شاعرا؛ فالطبيب الذي يصغي بمِسماعه إلى تغيراتٍ في جسم الإنسان، ويجس بيده آلام المريض، عليه أن يكون ذا نفس مرهَفة تقاسي مع المريض آلامه، وتصغي إليه وإلى أنّاته بأذن المُواسِي والآسي، فهل يوجد فرق بين الطبيب الذي يسمع الأنين وبين الشاعر الذي يتلوّى من فرط الشوق والحنين؟ وهل هنالك فرق بين مريض فقد جزءاً من أعضائه وبين شاعر محِبّ يتلظّى لفقد حبيبه ولبعْده عنه؟..فأنا طبيبٌ حلَّ في عقله الطب وفي قلبه الحب فأنشدُ وأُعالج ، واعتبرني كما شئت ، فقد بيّنتُ لك حالي.
=هل صحيح أن القصيدة غير الخليلية لا توافق مَعِدتك الشِّعرية؟
المعاني الشعرية والتخيلات والإبداعات وإصابة الحقيقة وإظهار المراد أساس في الكلام، فإذا فقدنا ذلك فالكلام ليس إلى القلبِ بسالك، والموسيقا الشعرية الجميلة هي التي تضفي على الأقوال السحر، وأقول السحر لأن البيان سحرٌ لا يستطيعه أحدٌ إلّا مَن حباه اللهُ نعمة القريض. وأنا أحبُّ أيّ شعر دُمغ بهذه الصفات، ولا أرى شيئاً يفوق القصيدة الخليلية .
=كثير من الشعراء اتجهوا إلى كتابة الرواية التي طغت حديثا على سماء الأدب، أين أنتم من هذا الطوفان؟
الرواية فنّ يحتاج إلى خيالٍ واسع، وموهبة كبيرة، وربما لا يحتاج إلى رصيد لغوي كالشِّعر، لكنْ لابدَّ من بعض ذلك، وقد كتبتُ روايتين لمّا أطبعهما وهما: سيوفٌ تسلُّ ورودا، ومآذن العاشقين.
=ما الحكمة التي أسرّت إليك السنون بها وتودّ تمريرها إلى من يلتمسونها بصدق من شباب الأطباء والشعراء؟
الطبيب والشاعر والأديب عليهم أن يقولوا ما يفيد ولوكان طُرفة، فعلى الأطباء الشعراء الشباب أن يلتزموا بأهداف يسيّرون أدبهم إليها، فإذا نطقْتُ بكلمة فعليَّ أن أراعي أن كلامي يجب أن يكون كعلاجي للمرضى فعّالا. وأنْ أبني بكلامي أخلاقا كريمة عند الجيل الكبير والشاب، فليس المهم أنْ أنشر، لكن المهم أن أكتب وأنشر ما يفيد، والكلام جيّده يسيّر إلى الفلاح، وربما يقول أحدُنا كلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في جهنم كما ورد، والدنيا دار عمل، والآخرة دار الجزاء وهناك إما خلودٌ أبدي في النعيم، وإما جحيم وندم.. فلنقلْ خيراً أو لنصمتْ