بعدَ ظُهرِ يومٍ منَ الأيامِ، وبينَما كانَ أولادُ الحيِّ يَلعبونَ في الخارِجِ، نادَتهُمُ الأُمُّ هاجرُ تُذكِّرُهُم بِحلولِ وقتِ صَلاةِ العَصْرِ، فاجتمَعوا سَريعاً في رُكنٍ جَميلٍ بَسيطٍ خَصَّصتْه العائِلةُ للصَّلاةِ.
أحسَّ الأولادُ أنَّ أجسادَهُم أصبحَتْ نَظيفةً طاهرةً بعدَ الوُضوءِ؛ فَقدْ غَسَلوا وجوهَهُم وأيديَهُم وأرجُلَهُم، وأنَّ قلوبَهُم أصبحَت صافيةً لبِدْئِهِمُ الوضوءَ بالنيَّة، فكأنَّها غَسلَتْ قُلوبَهم بماءِ الإخْلاصِ فَتوَجَّهَتْ إلى خالِقِ الأكْوانِ، تَستَحضِرُ أنَّ اللهَ شاهدٌ عليهِم، وحاضِرٌ معهُم، وناظرٌ إليهم، ولَطيفٌ بهم، ومُحبٌّ لهم.
ثمَّ ركَّزَ الأولادُ أفكارَهُم بَعيداً عن الألعابِ، لِتكونَ قُلوبُهم حاضرةً حين الوُقوفِ بينَ يَديِ اللهِ، وأحسّوا بصَفاء أفكارِهِم.
أدْرَكَ الأولادُ أنَّ الوضوءَ كانَ دَعوةً لَطيفةً للانْتِقالِ مِن عالَمٍ إلى عالَمٍ؛ مِن عالَمِ اللَّعبِ إلى عالَمِ الصَّلاةِ.
كانتِ الشَّمسُ مُشرِقةً ساطِعةً في هذا اليومِ، وكانتِ الطُّيورُ تُغرِّدُ بِسُرورٍ. اجتَمعَ الأولادُ بعدَ صَلاةِ العصرِ وجَلَسوا بِطُمأنينَةٍ وهُدوءٍ، حتّى أنَّهم لم يَقْفِزوا للعودَةِ إلى ألعابِهِم، فَقد سَرى فيهِم شُعورٌ بانشِراحٍ في صُدورِهِم، وقَبولٍ في قُلوبِهِم.
فجأةً.. أشارَ بلالٌ إلى رُكنِ الغُرفةِ. شَيءٌ عَجيبٌ يحدُثُ هناكَ؛ بَدا للأولادِ وكأنَّ باباً يَنفتِحُ بِبُطءٍ شَديدٍ، وعمَّ الغُرفةَ ضَوءٌ من عالَمٍ آخَرَ.
هتفَتْ مريمُ: "سُبحان اللّهِ".
وهَمسَ قاسِمٌ: "شَخصٌ قادِمٌ".
بعدَها رأى الأولادُ رجُلاً وَقُوراً بَشوشَ الوجْهِ يَدخُل الغرفةَ. وعندَما وَقفَ على السَّجّادةِ، أُغلِقَ ذلكَ البابُ بِبُطءٍ ثمَّ اخْتَفى تَماماً..
"السَّلامُ عَليكُم جَميعاً ورَحْمةُ اللهِ وبَركاتُهُ.. أنا الإمامُ أبو حامِدٍ الغَزاليُّ، أهلاً بكُم يا أبنائي.. أنتُم أولادٌ طيِّبونَ، ولا بدَّ أنَّ لديكُمُ العديدَ من الأسئلَةِ، ولذلكَ جِئْتُ لزيارتِكُم".
شَعرَ الأولادُ بالبَهجةِ، وصاحوا فَرِحينَ: "أهلاً بِكَ يا إمامَنا الجليلَ، لا نَكادُ نُصدِّقُ أعيُنَنا، هذا شيءٌ عَجيبٌ! كَيفَ أتَيتَ مِن عالَمٍ آخَرَ، ومِن زمنٍ بَعيدٍ يَقرُبُ مِن ألْفِ عامٍ؟ يا الله.. إنَّنا نكادُ لا نُصدِّقُ".
ثمَّ قالوا والسُّرورُ يَغْمُرهُم: "لقدْ قَرأْنا كِتابَكَ الأوَّلَ (كتابُ العِلمِ)؛ فهلْ ستُساعِدُنا على فَهْمِ أُمورٍ كثيرَةٍ لم نَفهَمْها؟".
ابتَسمَ الإمامُ وأجابَهُم: "نَعمْ يا أولادي، جِئْتُ إليكُم لأنكُم تَعيشونَ أوقاتاً فيها محبَّةٌ ولُطْفٌ، وفيها تحدِّياتٌ أيضاً، إنَّها أوقاتٌ أصعَبُ مِن تِلكَ الأوقاتِ الَّتي عِشْتُ فيها أنا. هناكَ الكثيرَ من الأحداثِ اليوميَّةِ والمُلْهِياتِ الَّتي تَشدُّكُم وتَشغَلُ أوقاتَكُم عن العلمِ الحقيقِيِّ. أمّا نحنُ فلَمْ يكُنْ لَدينا قبلَ تِسْعِ مِئةِ عامِ، في بَغدادَ، لا تِلفازٌ ولا حاسوبٌ ولا أفلامٌ. في ذلكَ الزَّمانُ كانَ لَدينا مُتَّسعٌ من الوقْتِ للتَّفكُّرِ والتَّدبُّرِ في ما أمَرَنا اللهُ سبحانه وتعالى أنْ نَقومَ بهِ في حَياتِنا القَصيرةِ على وَجهِ الأرضِ".
فَسألهُ بِلالٌ صاحِبُ الأسئلةِ الَّتي لا تنْتَهي: "ولكِنْ يا إمامَنا، هَل لي أنْ أسألَكَ سُؤالاً؟".
أجابَهُ الإمامُ الغزاليُّ: "طَبعاً يا بُنيَّ.. لهذا جِئْتُ".
"سُؤالي هو: إذا كانَ زَمانُكَ أبسَطَ مِن زَمانِنا، ولم يكُنْ مَليئاً بِالحوادثِ اليوميَّةِ والمُـلهياتِ، فَلماذا كَتبْتَ كُتبَكَ الكبيرةَ لتُساعِدَ النّاسَ؟".
لاحَظَ الإمامُ الصِّدْقَ في وُجوهِ الأولادِ، فابتسَمَ وقالَ: "هذا سؤالٌ جيِّدٌ وذَكيٌّ، وسأشْرحُ لكمُ الهدَفَ مِن ذلكَ.
إنَّ طبيعةَ البشَرِ لم تتغَيَّرْ على مَدى السِّنين والقُرون؛ فالبشَرُ كلُّهُم يَسألونَ الأسئلَةَ نفسَها: لماذا خُلِقْنا؟ وما هي واجِباتُنا وحُقوقُنا في هذهِ الدُّنيا؟
يا أحِبّائي.. لقدْ قرأتُم قصَّةَ حَياتي، الَّتي هِيَ هِبةٌ مِنَ اللّهِ سبحانه وتعالى، وتتذَكَّرونَ مَرَضي وحُزْني، وكيفَ أنَّني بعدَ أنْ كنتُ أُستاذاً مشْهوراً أتمتَّعُ بإعجابِ الطَّلبةِ والنّاسِ بي أدركْتُ أنَّ الشُّهرةَ لا تَدومُ أبداً".
أجابَتْ زَينبُ: "نعم، قَرأْنا قصَّةَ حياتِكَ وحزِنّا كثيراً لحُزنِكَ، عندَما أخفى اللّهُ صَوتَكَ ولم يَعُدْ بإمكانِكَ التَّدريس. وهذا الامتحانُ مِنَ اللّهِ هو الذي جَعلَكَ تُسافِرُ إلى أراضٍ بَعيدةٍ؛ فتغرَّبْتَ عن الأهلِ والأحبَّةِ والأصدقاءِ. وهناكَ اكتشفْتَ صفاءَ الفِطرةِ البشرِيَّة، وقُدرَةَ الخَلْقِ على أنْ تَعكِسَ نورَ الخالِق، على الرَّغمِ من جميعِ الصِّعابِ".
وأضافَ يوسُفُ: "شكراً لكَ يا إمام أبو حامدٍ الغزالي على إعطائِنا معلوماتٍ بطريقَةٍ مُنظَّمةٍ لمعرفَةِ الأشياءِ في حياتِنا اليوميَّةِ معرِفةً حقيقيَّةً. إنَّ الكبارَ، يا إمامُ، يَطلبونَ منّا أنْ نقومَ بأشياءَ كثيرةٍ؛ كأنْ نكونُ طَيِّبينَ، وأنْ نُصلِّيَ، لكِنْ كيفَ تُقرِّبُنا الأعمالُ الصّالحةُ والصَّلاةُ مِنَ اللهِ سبحانه وتعالى؟ وما المعاني الحقيقيَّةُ للعِباداتِ والأعمالِ الصّالحةِ الَّتي تُقرِّبُنا إِلى اللهِ عزَّ وجلَّ؟".
قالَ الإمامُ الغزاليُّ: "لِهذا السَّببُ جِئتُ اليومَ يا أحبّائي، وأتمنَّى أنْ أزوركُمْ كثيراً، وآملُ أنْ أُجيبَ عن جَميعِ أسئلتِكُم، قَدرَ المـُستَطاعِ. سَنبدأُ بالقواعِدِ الأساسيَّةِ ونَبْني عليها حتَّى نكونَ قادِرينَ على معرفَةِ كلِّ الطُّرقِ الَّتي تؤدِّي إلى حصولِنا على العِلمِ الحقيقِيِّ وحبِّها. وهذهِ الطُّرقُ منظَّمةٌ وسهلَةٌ".
صاحَ الأولادُ: "الحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ أنْ أرسلَكَ إلَينا.. نحنُ شاكِرون لكَ، فنحنُ بحاجَةٍ لمنْ يشْرَحُ لَنا الأُمورَ الَّتي تهمُّنا حَقّاً".
ثم سألوا الإمامَ، بصَوتٍ واحدٍ: "هلْ نَبدأُ اليومَ؟ نَرجو أنْ تُخبِرنا مِنَ البِدايةِ".