انطلقت العلمانية مع البدايات الأولى لنقد الديانة المسيحية، وإعادة تفسير النصوص الدينية فيها، والتغيير الذي حصل في مفهوم الألوهية مع مفكري عصر الأنوار حيث أصبح الله خارج العالم، وإسقاط سلطة الكنيسة المركزية في حياة المسيحيين، والدعوة إلى التعددية الدينية، التي كانت الخطوة الأولى في اتجاه إقرار حرية المعتقد، ثم عملية الفصل بين الدين والعقل الإنساني بعد اكتشاف العقل، قبل أن تصل في الأخير إلى الفصل بين الدين والدولة، كنتيجة طبيعية لهذه الصيرورة.
في مقابل هذه الصيرورة التي خضعت لها اليهودية والمسيحية، اللتان صارتا يشار إليهما بعبارة القيم اليهودية - المسيحية المشتركة، نجد أن الإسلام ينفرد بتقديم رؤية شاملة أدمجت تلك الصيرورة في قلبها، من دون الحاجة إلى الخضوع لأي عملية تحويل تاريخي للمفاهيم المؤسسة لفكرة الكرامة الإنسانية وحرية المعتقد في الديانة المسيحية.
ولإظهار هذا الإدماج نتوقف عند أهم معالم التفكيك الفلسفي الذي تم على العقيدتين اليهودية والمسيحية في عصر التنوير، وقاد إلى الاعتراف بالشخصية الإنسانية وحرية المعتقد.
إننا لا نجد في الإسلام مبدأ عقدياً يسمى الخطيئة الأصلية، التي كبلت الديانتين اليهودية والمسيحية وجعلت الفكر الليبرالي الحديث يصطدم معها. صحيح أن الإسلام يتفق مع اليهودية في موضوع الخطيئة الأصلية، أي خطيئة آدم وحوار عليهما السلام، حيث ورد في سورة البقرة: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين *فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 2/ 35-36]، بيد أن القرآن الكريم يؤكد على أن تلك الخطيئة قد تمت بإرادة من آدم وحواء، بمعنى أن الله منذ خلق الإنسان خلق معه الإرادة؛ ذلك أن السورة تذكر أن الله سبحانه تاب بعد ذلك على آدم بعد أن تاب: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه}، والتوبة لا تكون إلا بعد ذنب، كما أن الذنب لا يكون إلا عن إرادة. فالتوبة هنا تلغي أي حديث عن المخلص، لأن معناها كامن فيها، وهو أن آدم عليه السلام أدرك زلته وعندما تاب مسح ذنبه، فكان مخلص نفسه من دون الحاجة إلى مخلص آخر. وهذا يناقض التفسير الذي منحه فلاسفة الأنوار لفكرة الخطيئة، عندما ذكروا بأن عنصر الإرادة الإنسانية لم يظهر إلا بعد أن نزل آدم وحواء من الجنة إلى الأرض.
وفي خضم الجدل الدائر اليوم في العالم العربي - الإسلامي حول حزمة من الإشكاليات المستجدة، والتساؤلات المتراكمة حول النص الديني ومدى إمكانيته لتقديم إجابات معاصرة، تأتي هذه الدراسة لتسلط الضوء على المسار الذي قطعه الفكر الغربي الحديث لبناء منظومته الفكرية الجديدة نهوضاً على إعادة تأويل النصوص الدينية، ومعرفة أصول الجدل الذي حصل، خصوصاً في المسيحية الحديثة، والمخاض الذي أسهم في التأسيس لأطروحة حرية العقيدة، التي صارت اليوم مكسباً من مكاسب الحداثة الغربية.