وأخطر هذه الهدايا ما يؤخذ على الأحكام، سواء أخذها على الحكم بالباطل، أو بالحق، وما كان على باطل أشنع وأبشع، لما في الأحاديث من الوعيد الشديد، واللعنة للراشي والمرتشي وللسفير بينهما، ولكون القضاء مظنة ضمان الحقوق وردها، والحكم بالعدل، فإذا تلاعبت الرشوة في رؤوس القضاة، ألقت بها في دروب الباطل، وضياع الحقوق، ونصرة الظالم على المظلوم. وفسادُ القضاء تدمير لآمال أصحاب الحقوق، وإغلاظ للباطل في الأرض.
ومن الرشوة ما يهدى للشفيع في حاجة ما، قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه : قال رسول الله (ص): «من شفع لرجل شفاعة، فأهدى له عليها هدية، فقد أتى باباً كبيراً من أبواب الربا»[(147)].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «السحت أن تطلب لأخيك الحاجة، فيهدي إليك هدية، فتقبلها منه»، وعن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة، فردها، فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفاً[(148)]، فردها، ولم يقبلها، وقال: سمعت ابن مسعود يقول: «من رد عن مسلم مظلمة، فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً، فهو سحت، فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نظن أن السحت إلا الرشوة في الحكم، فقال: ذلك كفر»[(149)].
تقديم
خالد عبد العليم متولي
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، وبتوفيقه يبلغ الصالحون أعلى الدرجات، وبمعرفته ينجو المتقون من المهالك والزلات، ويصِلون بسلامٍ آمنين إلى نعيم الجنات.
والصلاة والسلام على إمامِ المتقين، ورحمة الله للعالمين؛ سيِّدِنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين، الذي هدانا الله به سبل السلام، وعلمنا بهديه وسنته وسيرته الحلالَ من الحرام، وترك أمته غرة على جبين البشرية، شامة بين الأمم، بما شرع لها من الآداب والأحكام.
اللهم أحيِنا على سنته، وتوفَّنا على ملته، واحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، واسقنا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
أما بعد..
فما كان لمثلي -مع عجزي وضعفي وقلة عملي- أن يكتب مقدمة تصدر لأي كتاب، أو كاتب، ولا سيما لما يفيضه الله سبحانه وتعالى على من نحسبهم من العلماء الأتقياء الأخفياء كفضيلة الشيخ مصنفِ هذه الرسالة، وما دفعني إلى أن أخطَّ هذه الكلمات القليلة إلا أمران: أحدهما تكليف، بل تشريفُ، الشيخ لي أن أنال شرف كتابة هذه المقدمة، والثاني رغبة مني في الأجر والمثوبة لكل من يقرأ هذه الرسالة المختصرة الجامعة النافعة.
إن المؤمن ببصيرة قلبه، ونور إيمانه الذي ينقدح في صدره، يدرك اليقين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وذلك بما وضعه الله فيه من فُرقان يميز به بين ما يرضي الله وبين ما يسخطه، ولو تُرك الإنسان لفطرته السوية بلا رسالة أو رسول لاهتدى إلى أن الفضائل كلها هي سر سعادته وسبب طمأنينته، وأن الرذائل كلها هي سبب نكد الحياة وتكدير عيشها، ولكن الله برحمته أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعصم الإنسان من هواه، ويدله على ما فيه رضى سيده ومولاه، وبذلك تقوم الحجة على العباد، ليحيا من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وما ربك بظلاَّم للعبيد.
و الله تعالى ما أمر بشيء إلا وأعان عليه، وما نهى عن شيء إلا وأغنى عنه، والحلال سبب علو الهمة في الطاعات، والسر في قوة العزيمة للإقبال على الله ، وأما الحرام فهو المخدر الذي يصيب الجوارح بالشلل، فترضى بالحياة الدنيا عن الآخرة، ظناً منها أن السعادة في الحرام القريب المنال، وفاتها أنه السم في العسل، وما قيمة طعام شهي مسموم يبدأ بلقمة وينتهي بموتة وهلكة؟؟!!
الرشوة التي تعالج موضوعَها هذه الرسالةُ القيِّمة، قد لا يخلو منها عصر أو زمان، فهي آفة قديمة، قد وقع فيها كثير ممن لا خلاق لهم، ولكنها تتلون في كل عصر بلون جديد، وتلبس في كل بيئة ثوباً براقاً، ظاهره البراءة وباطنه قمة الإجرام في أسوأ صورة.
فالشيطان يبرر الدوافع لأكل الحرام بالرشوة؛ تحت ذريعة الفقر وشدة الحياة وقسوة القلوب وكثرة الحوائج، ومن هنا تُبيح النفس المريضة لصاحبها مصَّ دماء الآخرين، والنتيجة هي نزع البركة من الأرزاق، فتزداد المصائب، ولا تُقضى الحوائج، لأن الدين علَّمنا أن الحرام لا يبني أسرة، ولا يثمر ذرية صالحة، ولا يجلب لصاحبه سعادة البال أو صلاح الحال.
ومن هنا جاءت هذه الرسالة؛ صيحة تحذير للراشي والمرتشي خصوصاً، ولسائر الأمة عموماً، من طوفان الهلاك المدمر الذي يفجره تفشي الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل.
وإذا كانت الرشوة فرعاً من شجرة خبيثة لا تنبت إلا في قلب خراب، فإن آثارها الفاسدة لا تقتصر على مرتكبيها، وإنما تمتد لتدمر اقتصاد الأمة، وتجني على الكفاءات الموهوبة، وتقضي على النبوغ والإبداع، وتستأصل الثقة من النفوس، وتصيب الناس بالإحباط واليأس.
فما حقيقة الرشوة؟ وهل منها صور مباحة؟ وما الصور الجديدة للرشوة التي أفرزتها النفوس الجشعة؟ وما علاج هذا الداء السرطاني الذميم؟ هذا ما نجده تفصيلاً في هذه الرسالة النافعة، مشروحاً بأدلته من النصوص الشرعية، مصحوباً بأقوال العلماء الراسخين وأئمة الأمة.
جنبنا الله الحرام، وطهر حياتنا من الشبهات والآثام، وبارك الله لنا في الحلال، وأسبغ على هذه الأمة الطيبة الكريمة المرحومة سحائب فضله وجوده وكرمه، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب الدعوات.
وجزى الله المؤلف خيراً عن هذه الرسالة القيِّمة، التي جاءت تعالج مرضاً مستفحلاً من أمراض العصر، وما أحوجنا إلى النصيحة والعلم النافع من علمائنا الكرام، فهم مصابيح الهدى، تنجلي بهم عن الأمة كل فتنة دهماء وظلمة عمياء.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأصلي وأسلم وأبارك على حبيب الله ومصطفاه، سيدِنا محمد وعلى آله وصحبه.
دبي في: 14 ربيع الآخر 1426هـ
22 أيار/مايو 2005م
خالد عبد العليم متولي
الرشوة
كل الناس الأسوياء مجمعون على خطر الرشوة
وكل المؤمنين مجمعون على حرمتها
وكل العقلاء يخافون أن يقعوا فيها
فما حقيقة الرشوة؟
ولماذا حرمها الإسلام؟
وما ضررها؟ وكيف هو شؤمها؟
وما الفرق بينها وبين الهدية..؟ وبينها وبين الإكرام؟
وما تقسيمات العلماء للرشوة بناء على هذا؟
وما صورها بحسب مجالاتها؟
وما العقوبة التي ينـزلها الله بالراشي والمرتشي والرائش بينهما؟
هذه الأسئلة وأمثالها يجيب عنها الكتاب بأسلوب واضح وتقرير علمي قائم على النصوص الصحيحة والحجة.
يعالج هذا الكتاب آفة الرشوة القديمة في المجتمعات ويبين خطرها من وجهة نظر الإسلام..
تناول المؤلف موضوعه تحت عنوانات عديدة، أولها ((آفة الرشوة ولباس الرعب)) تحدث فيه عن أخطارها وآثارها الشنيعة وكيف استشرت في الناس. وجاء العنوان الثاني (( أحاديث في الرشوة)) ليضم عدداً من أقوال النبي ? بهذا الصدد. ثم أورد المؤلف بعد ذلك بحوثاً صغيرة تحذر من الرشوة، فأشار إلى آيات قرآنية خطيرة، وتحدث عن الصلة بين المال الحرام والطعام والعادات والسلوك، وأسلوب الرشوة عند اليهود، وشؤم الرشوة على الراشي والمرتشي والرائش بينهما..
كما توقف عند موضوع الرشوة التي تأخذ شكل الهدية والإكرام. ولم ينس ما قرره العلماء بشأن رشوة القاضي وإهدائه وتقسيماتها، وصور الرشوة حسب مجالاتها.. وختم المؤلف بحثه بالحديث عن عقوبة المرتشي ووجوب التوبة من الرشوة.