مصادر الحكم القضائي
في الشريعة والقانون
الـموازنة بين مفهوم الشريعة ومفهوم الفقه
إذا وازنّا بين مفهوم الشرع أو الشريعة، ومفهوم الفقه في اصطلاح الفقهاء، وجدنا أن بينهما العموم والخصوص الوجهي، يجتمعان في الأحكام التي وردت بالكتاب والسنة، وينفرد الشرع أو الشريعة في أحكام العقائد وما إليها مما ليس فقهاً، وينفرد الفقه في الأحكام الاجتهادية وما يلتحق بها.
ويذكر الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى الزرقا( )- رحمه الله - الفرق بين مصطلَحَي الشريعة الإسلامية والفقه في كتابه (المدخل الفقهي العام)، فيقول: ((فالشريعة هي نصوص القرآن الـموحى به من الله تعالى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسنة النبوية هي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي هي شرح وتفصيل لما أجمله القرآن، وتطبيق عملي لأوامره ونواهيه وإباحاته، باعتبار أن كل ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، متصلاً بتفسير الشريعة وتطبيقها ليس من عند نفسه ولا من رأيه الشخصي، وإنما هو بوحي من الله تعالى إليه. أما الفقه فهو ما يفهمه العلماء من نصوص الشريعة وما يستنبطونه من تلك النصوص ويقررونه ويؤصلونه، وما يعقدونه من القواعد الـمستمدة من دلالات النصوص))( ).
ثم يقول: ((ولا يجوز الخلط وعدم التمييز بين مفهوم الشريعة الإسلامية ومفهوم الفقه الإسلامي؛ لأن الشريعة معصومة، أما الفقه فهو من عمل الفقهاء في طريق فهم الشريعة وتطبيق نصوصها، وفقاً لغرض الشارع والقواعد الأصولية في استنباط الأحكام، وفي هذا يختلف فهم فقيه عن فهم فقيه آخر، وفهم كل واحد مهما علا قدره يحتمل الخطأ والصواب لأنه غير معصوم. وليس معنى ذلك أن لا قيمة له، بل له قيمة عظيمة وتقدير كبير، ولكن الـمقصود ليس له القدسية التي للشريعة نفسها الـمتمثلة بنصوصها من الكتاب والسنة الثابتة. فالفقه وهو فهم الفقيه ورأيه، ولو كان مبنياً على النص الشرعي، هو قابل للمناقشة والتصويب والتخطئة. وذلك إذا لم يكن مبنيّاً على أحكام قررتها نصوص قطعية الثبوت والدلالة وذلك مثل أصل وجوب الصلاة والزكاة مثلاً))( ).
وقد ظهر في عصرنا إطلاق اسم الشريعة الإسلامية على الفقه وما يتصل به، حتى إنه لا يفهم الآن من الشريعة الإسلامية عند الإطلاق إلا هذا الـمعنى، وفشا أخيراً في القضاء استعمال عبارة "المنصوص عليه شرعاً كذا"، وقد يكون ما ينقل ليس إلا رأياً لأحد الـمؤلفين في الفقه. على أن الأمر ليس ذا شأن كبير ما دامت الـمسألة مسألة اصطلاح، فقديماً قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح.
وأما الأفهام والآراء التي يتوصّل إليها من طريق النظر في الأحكام الشرعية فلا تسمى فقهاً، إلا إذا وقعت موقعها وصدرت عمن هو أهل لها، وإلا كانت مهدرة ليس لأحد أن يعول عليها، ولا أن يدخلها في باب اختلاف الفقهاء ويعتبرها فقهاً.
الحاكم والمشرع في الشريعة الإسلامية
إن الحكم الشرعي لا بدَّ له من حاكم، والحاكم عند جميع الـمسلمين بعد البعثة بلا خلاف، بمعنى منشئ الأحكام وواضعها هو الله تعالى وحده - وليس العقل -، سواء كان هذا الحكم بطريق النصّ الذي أوحى الله به إلى رسوله من كتاب وسنة، أم فيما يتوصل الفقهاء والمجتهدون إلى حكمه بواسطة الدلائل والأمارات التي أقامها الله - سبحانه وتعالى - لاستنباط أحكامه؛ لأن الـمجتهدَ أو القاضي مظهر وليس منشئاً له من عنده، كما أسلفنا سابقاً.
وهذا يعني أن أساس جميع الأحكام ومصدرها واحد هو الله سبحانه وتعالى، بمعنى أن الله وحده هو الـمشرع حقيقة، والسلطة التشريعية هي الله وحده. والشريعة، أو الشرعة، أو الشرع، فيما يختص بالعمليات، هو حكم الله تعالى، وهو أثر خطابه جلَّ شأنه الـمتعلّق بأفعال العباد اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً؛ أي الأصل في جميع الأحكام الشرعية هو نصوص الشارع( )، التي تتمثل في نصوص الوحي الإلهي بشقيه: القرآن الكريم، والسُّنة النبوية.
وعلى ذلك فإن الـمصدر التشريعي الوحيد في الشريعة الإسلامية إنما هو قول الله سبحانه وتعالى وحده، والعقل ليس بحاكم أو مشرّع، وإنما هو طريق للمعرفة.
والدليل على ذلك: نصوص الوحي الإلهي مثل قوله سبحانه وتعالى: ?إِنِ ?لْحُكْمُ إِلّا لِلَّهِ يَقُصُّ ?لْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ?لْفَ?صِلِينَ? [الأنعام: 6/57].
وقوله تعالى: ?وانِ ?حْكُم بَيْنَهُم بِما أَنزَلَ ?للَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ ما أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ فان تَوَلَّوْا فَ?عْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وانَّ كَثِيراً مِّنَ ?لنّاسِلَفَ?سِقُونَ? [المائدة: 5/49].
وأما الرسول صلى الله عليه وسلم – على علوّ مكانته - فليس بمشرّع من عند نفسه، وإنما هو الـمبلِّغ لكلام الله تعالى القرآن الكريم، وناقل لأوامره ونواهيه بوحي منه، كما أنه صلى الله عليه وسلم الشارح والمبـيِّن لكلام الله تعالى في نصوص السنة النبوية التي تعدُّ أَحد شقي الوحي الإلهي.
والدليل على ذلك قول الله تعالى: ?وانْ أَحَدٌ مِّنَ ?لْمُشْرِكِينَ?سْتَجارَكَ فاجِرْهُ حَتَّى? يَسْمَعَ كَلَ?مَ?للَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مامَنَهُ?ذَ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْلَمُونَ? [التوبة: 9/6]، وقوله تعالى: ?وَما يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى?، إِنْ هُوَ إِلّا وَحْىٌ يُوحَى?? [النجم: 53/4-5].
لذلك أجمع الـمسلمون على أن الأقوال والأعمال التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبِلَّة الإنسانية لا تعدُّ تشريعاً ملزماً بحال، كطريقته صلى الله عليه وسلم في أكله وشربه ونومه …
وكذلك الفقهاء والعلماء والمجتهدون، فإنه لا دخل لهم في التشريع أبداً، وكل ما لهم أن يفعلوه هو أن يعملوا عقولهم في فهم ما ورد عن الشارع من النصوص في حدود الضوابط التي وضعوها لهذا الفهم، دون الزيادة على هذه النصوص أو الإنقاص منهــا.
ولذلك فإن فهم الحكم الشرعي متوقفعلى فهم نصوص الكتاب والسنة إجمالاً وتفصيلاً؛ لأنهما أصل التشريع الإسلامي، ومصدر لجميع الأحكام الشرعية ولقواعد الاستدلال الأخرى التي يستعان بها على استنباط الأحكام الجزئية الفرعية، كالإجماع والقياس والمصلحة الـمرسلة والاستحسان وسدّ الذرائع والاستصحاب والعرف وغيرها من فروع الاجتهاد( )؛ لأن الـمجتهد لا يستنبط الأحكام الشرعية برأيه ولا يصدرها من هواه، بل إنه يلتزم في هذا الاستنباط بالرجوع إلى هذين الأصلين الرئيسين( ).
ماهو موقف القاضي عند تعارض الحكم الشرعي ونصّ القانون؟ وما هو موقفه إذا وجد نص القانون لا يأتلف مع الحقّ والعدالة في إحدى الوقائع؟ هل يمتنع القاضي عن تطبيق هذا النص لمخالفته الحكم الشرعي؟ أم عليه أن يتبع حرفية القانون، أو يمشي مع مقصد الشارع؟ هذه التساؤلات الإشكالية وغيرها يتطرق إليها هذا الكتاب طارحا الحلول والتطبيقات العملية بناء على الأحكام القضائية المعاصرة.
كتابٌ مرجعي وضروري لذوي الاختصاص، ولعامة القراء الذين يهتمون بهذا الموضوع.
مايزال المسلمون في حياتهم بحاجة إلى الرجوع لأهل العلم، يستفتونهم فيما يجد لديهم في أمور دينهم ودنياهم من نوازل، يريدون فيها معرفة الحلال والحرام والخروج إلى الحكم الصحيح.. ولم تنقطع الفتاوى منذ عهد النبي والصحابة رضي الله عنهم، ثم العلماء العاملين. حتى صنف في الفتاوى كبار العلماء المشهورين.
ومع تغير الحياة في مستجداتها تظهر مشكلات جديدة، بتصدى لبيان حكمها العلماء، ويجدد الوقوف عليها، مما لم يكن يحدث مثله من قبل وهذا الكتاب بعض أهم الفتاوى، التي تعرض لها الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، خلال دراسته وتدريسه في عدد من الجامعات وعلى مدى اكثر من أربعين عاماً، صنفها ورتبها بحسب موضوعاتها. وهذا أمر مفيد منه وجديد؛ ليرجع القارئ إلى الموضوع الذي يريد، وذلك فيما يتعلق بالعبادات، أو بالأحوال الشخصية، أو المعاملات المالية، أو الطب والمعالجات، أو العقيدة، أو الكفاءات، وسوى ذلك..
مما رأى ترتيبه مفيداً، لتسهيل المراجعة . قدم الفتاوى إلى ذلك بأسلوب علمي سهل وواضح.
الكتاب ضروري لكل طالب علم، ولكل امرئ مهتم بأمر دينه؛ إذ الاطلاع على الفتاوى معرفة بأحوال المجتمع الذي تصدر فيه فتاواه.