يعدُّ القرآن الكريم من أهم المصادر التي أفادَ منها الشعراء العرب: قديماً وحديثاً في إغناء تجاربهم الشعرية؛ لأنهم يرون فيه الأنموذج الفريد المعجز للبلاغة والفصاحة. ومن هذه الرؤية نجد أنه قد تأثر كثير من الشعراء العرب بأساليب القرآن الكريم ومعانيه وقصصه، فانتهلوا من معينه الذي لا ينضب، محقِّقين غايات شعرهم، من إدهاش وإبهار وتأثير. ومن خلال اهتمامي بشعر أبي تمام؛ حبيب بن أوس الطائي (ت 231هـ)[(1)]؛ تبين لي أنه من أكثر الشعراء العرب تأثُّراً بأساليب القرآن الكريم ومعانيه؛ إذ بدا شعره متلبساً بالقرآن الكريم: أسلوباً وفكراً، وممتزجاً به في نماذج كثيرة. لقد جاء خطاب أبي تمام الشعري المنفتح على القرآن الكريم معبِّراً عن مكوِّنات شخصيته وثقافته المتنوعة؛ التي كان القرآن الكريم في مقدمة مصادرها. ومن المصادر الأخرى المتعدِّدة التي أسهمت في تشكيل تجربته الشعرية المتميزة: السُّنة النَّبوية، وتأريخ العرب، وتأريخ الأمم الأخرى، وكلام العرب: شعره ونثره، والفلسفة، وعلوم اللغة والعقائد، وغيرها من المصادر[(2)] التي لن يجد المتلقي كبير عناء في التعرف إليها. ويعدُّ أبو تمام في طليعة شعراء العربية، فهو شاعر موهوب يجمع بين الطبع والصنعة، ولا شك في ذلك، لكنه في الوقت ذاته شاعر صنعة، يبحث عن التجديد في الصور والمعاني. ومنهجه الشعري يتمثل في أنه "لا يرتجل القول ارتجالاً، ولا يرسله إرسالاً، وإنما يقوِّمه ويثقفه، ويتخير المستجاد منه؛ ليذيعه بعد ذلك على الناس"[(3)]. وكان في بحثه عن الجديد يوفق، فيأتي بما لم يستطعه الأوائل، ويخفق، فيأتي بالشعر الرديء، ومن هنا كان التفاوت سمة بارزة في شعره، إنه مثل الغواص الذي يبحث عن اللؤلؤ، فيحصل أحياناً على مبتغاه، وأحياناً أخرى لا يحصل على شيء ذي بال، فمن شعره ما يرقى به إلى قمة الشعر العربي، ومنه ما كان صيداً سهلاً لنقاده، ومن الأقوال التي تجسد هذا المعنى قول البحتري عندما سُئل: " أيما أشعر، أنت أم أبو تمام ؟ فقال: جيِّدُه خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه. قال أبو بكر: وقد صدق البحتري في هذا، جيدُ أبي تمام لا يتعلَّق به أحد في زمانه، وربما اختلّ لفظه قليلاً لا معناه، والبحتري لا يختلُّ"[(4)]. وعلى الرغم من كثرة الدراسات النقدية التي قُدمت: قديماً وحديثاً عن شعر أبي تمام، إلا أنني لم أقف على دراسة مستقلة درست هذا الجانب في شعره، مع الإقرار بوجود إشارات كثيرة جاءت ضمن بعض الدراسات النقدية والبلاغية التي اهتمت بشعره، وقد استعنت بكثير منها في هذه الدراسة، واستفدت منها فائدة واضحة، وذكرتها في ثبت المصادر والمراجع. والدراسة التي أُقدمها اتَّجهت إلى الوقوف عند ظاهرة حضور تراكيب القرآن الكريم ومعانيه في شعر أبي تمام؛ بهدف إبراز أثر ذلك الحضور في تشكيل تجربته الشعرية المتميزة، وقد رأيت أن يكون عنوان هذه الدراسة (أثر القرآن الكريم في شعر أبي تمام)؛ لأن هذا العنوان يحقِّق أهداف الدراسة، فأنا أرغب في دراسة أثر تراكيب القرآن الكريم ومعانيه في شعر أبي تمام، وفي التراث العربي: البلاغي والنقدي بعض المصطلحات التي تحقِّق هذا المفهوم؛ مثل: الاقتباس والعقد والتلميح، فهذه المصطلحات من المصطلحات التي تحدثت عن عملية تداخل النصوص، لكن الحديث عنها جاء ضمن الحديث عن مصطلح السرقات الأدبية[(5)]، وهذا الأمر - أعنى ارتباط تلك المصطلحات بمصطلح السرقات الأدبية - أدَّى إلى ضعف الاهتمام بها، يُضاف إلى ذلك أنني لم أجد إطاراً واحداً يجمع بينها. وقد اقتضت طبيعة الموضوع أن تكون الدراسة في: مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة، وثبت للمصادر والمراجع. تحدثت في المبحث الأول عن التلميح، من خلال صور ثلاث؛ هي: الإشارة إلى آيات القرآن الكريم، واستدعاء قصص القرآن الكريم، واستدعاء الشخصيات الواردة في القرآن الكريم. وفي المبحث الثاني تحدثت عن الاقتباس. وفي المبحث الثالث تحدثت عن العقد. وقد ختمت الدراسة بخاتمة أوجزت فيها أبرز النتائج التي توصَّلت إليها الدراسة. وذيَّلت الدراسة بثبت للمصادر والمراجع التي استعنت بها في دراستي. وقد استعان الباحث في دراسته بالمنهج الفني؛ لأنه الأنسب لطبيعة الموضوع، إذ قام الباحث بقراءة ديوان أبي تمام متتبعاً الشواهد التي تأثر فيها أبو تمام بمعاني القرآن الكريم وتراكيبه، ومن ثم قام بدراسة تلك النماذج وتحليليها، وإبراز السياقات التي وردت فيها. وأخيراً، فإن ما قدّمته في هذه الدراسة لا يعدو أن يكون مجرد محاولة لتسليط الضوء على ظاهرة استدعاء قصص القرآن الكريم: تعدُّ القصة القرآنية وسيلة من الوسائل المهمة التي اعتمدها القرآن الكريم في تحقيق غاياته العقدية والتربوية، وهي تمثل ركيزة قوية من ركائز الدعوة إلى الإسلام، والدعوة إلى التأمل والتبصر بما حلَّ بالأمم السابقة. والمتأمل في شعر أبي تمام سيلحظ تأثُّره بقصص القرآن الكريم، وذلك من خلال استدعائه قصص الأنبياء (عليهم السلام)، وقصص الأمم السابقة الواردة في القرآن الكريم؛ مما أسهم في منح شعره بُعداً قصصياً. ويمكن إرجاع ذلك إلى ما تحويه تلك القصص من معانٍ جليلة، وعبر ظاهرة، فاستثمرها في التعبير عن الواقع المعاصر، فكانت قصص القرآن الكريم بما تحويه من أخبار الأمم السابقة، وما حلّ بها من هلاك، عاملاً معيناً على فهم الحياة الواقعية. استدعاء قصص الأنبياء: نجد في شعر أبي تمام إشارات عدة إلى قصص الأنبياء (عليهم السلام)، فقد تكررت في شعره الإشارة إلى مشاهد متعددة من قصة موسى (عليه الصلاة والسلام)، ومن ذلك قوله: فكأنَّهم بالعِجْلِ ضَلُّوا حِقْبة وكأنَّ مُوسى إذ أتاهم مُوسى[(46)] في البيت السابق استحضر أبو تمام مشهداً من مشاهد قصة موسى (عليه الصلاة والسلام)، واستثمر كون اسم ممدوحه هو اسم نبي الله موسى، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ *} [الأعراف: 7/148] . وموسى الأول هو الممدوح، أما الآخر فهو نبي الله (عليه الصلاة والسلام)، وقد شبه أبو تمام ضلال قوم الممدوح بضلال قوم موسى باتخاذهم العجل، فأنقذهم الممدوح مما هم فيه من ضلال، كما كان نبي الله موسى (عليه الصلاة السلام) سبباً في إنقاذ قومه من الضلال. وفي موضع آخر استثمر أبو تمام - أيضاً - كون اسم ممدوحه موسى، فاستحضر مشهداً آخر من مشاهد قصة نبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام)، وذلك في قوله: عُذنا بموسى من زمان أنشرتْ سطواتُه فرعونَ ذا الأوتاد[(47)] أشار أبو تمام في بيته السابق إلى قصة موسى (عليه الصلاة والسلام) مع فرعون الذي لم يقوَ على مواجهة ما أحل به من مصائب،كان الغرق آخرها[(48)]. وأبو تمام في بيته السابق يشير إلى أنه "لجأ إلى ممدوحه هرباً من مصائب الدهر التي لم يقوَ عليها فرعون مصر"[(49)]. استثمر أبو تمام في النموذَجَين السابقَين كون اسم ممدوحه هو اسم نبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام) نفسه، فاستحضر مشهدين من مشاهد قصته؛ لإسقاط الماضي على الحاضر المعاش، وذلك من خلال تقديم دروس إلى العصاة والطغاة، فعاقبتهم ستكون مثل عاقبة سابقيهم، ومن هنا كان حضور تلك القصص عاملاً مساعداً في تعميق الفكرة، ومنحها بُعداً دينياً. وفي موضع آخر من ديوانه يستدعي أبو تمام مشهداً آخر من قصة موسى (عليه الصلاة والسلام)، وذلك في قوله: كـأنـني قـد رأيتُ زُلـفَـتَه عند إمـامٍ بـقربـه أَنِسِ تُـبْنـى الـمـعالي في ظـلِّه وله حظٌّ من المُلْكِ غيرُ مـُخْتَلسِ فإنَّ موسى وصلَّى على روحه الرَّبُّ م صلاةً كثيرةَ الـقُـدُسِ صار نـبـيّـاً وعـُظْمُ بُـغـيَـتِهِ في جذوةٍ للصلاة أو قبسِ[(50)] فممدوح أبي تمام في الأبيات السابقة كان يريد الوفادة لأمر هين، فتأول له أبو تمام بأن يُحظى بأكثر مما جاء من أجله، فاستدعى أبو تمام قصة موسى (عليه الصلاة والسلام) الذي طلب جذوة من النار، فأتاه الله تعالى النبوة[(51)]، قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى *} [طه: 20/9-13] . كان موسى (عليه الصلاة والسلام) في تلك الليلة يأمل الحصول على جذوة من النار، أو يجد من يهديه إلى الطريق، لكنه ظفر، في تلك الليلة، بالرسالة؛ إذ ناداه الله تعالى، وأخبره بأنه اصطفاه بالرسالة[(52)]. وفي موضع آخر يشير أبو تمام إلى مشهد آخر من قصة موسى (عليه الصلاة والسلام)، تمثل في قوله: لو لم يَكِد للسامريِّ قبيلُهُ ما خارَ عجلهم بغيرِ خُوارِ[(53)] في البيت السابق استحضر أبو تمام مشهداً آخر من قصة موسى (عليه الصلاة والسلام)، يتمثل في قيام السامري باتخاذ عجل من ذهب في أثناء غياب موسى (عليه الصلاة والسلام)، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ *} [الأعراف: 7/148] . وجاء استحضار أبي تمام ذلك المشهد من قصة موسى (عليه الصلاة والسلام) في سياق تحريض المعتصم على قتل من بقي من أعدائه بعد أن قتل رئيسهم الأفشين؛ لأنهم هم الذين أعانوه على فعله، وكذلك كان الأمر مع السامري، فلولا مساعدة قومه إياه لما تمكن من القيام بما قام به[(54)]. وحضرت في شعر أبي تمام قصص أخرى لأنبياء الله تعالى (عليهم السلام)، منها الإشارة إلى قصة يوسف (عليه الصلاة والسلام)، وذلك في قوله: هنَّ عوادي يُوسُفٍ وصَواحِبُهْ فعزماً فقِدْماً أدْرَك السُّؤْلَ طالِبُهْ[(55)] في البيت السابق يحثُّ أبو تمام ممدوحه على المضي على ما عزم عليه، ويطالبه بترك الاستماع إلى رأي النساء، فأبو تمام في بيته "ينسبهنّ إلى ضعف الرأي وقلة العقل، وأنهن لا يصلحن لقبول المشورة منهن، فقال: هُنَّ اللواتي أردن صرف يُوسُف النبي عليه السلام عن طريق الرشاد، وصواحبه بما كان منهن، فلا تلتفت إليهن ولا تُعوّل في الأخذ والترك عليهن وعلى رأيهن، واعزم على السير عزماً، فقديماً أدرك طالب الثأر وِتره؛ أي سافر فإن وتْرك عند الأيام، وثأرك لديها ستُدركُه، ويجوز أن يُضرب بهذا مثل، والمعنى قديماً من طلب شيئاً ناله"[(56)]. اتخذ أبو تمام من قصة نبي الله يوسف (عليه الصلاة والسلام) درساً في الحثِّ على البُعد عن الاستماع إلى نصائح النساء، والمضي قدماً في الأمور؛ فهنّ اللواتي كِدْنَ ليوسف (عليه الصلاة والسلام)؛ لذا فإنه حثَّ ممدوحه على الإقدام على ما عزم عليه. وأبو تمام شاعر يبحث عن المعاني الجديدة، فيعصر ذهنه، ويكدُّ خاطره، ويحفر في الصخر؛ ليظفر بمعنى غير مسبوق. وهو شاعر يجمع بين الفن والصنعة، وقد علق أحد النقّاد على كثافة المعاني في البيت السابق قائلاً: "كأني بالشاعر يحمل المعنى، ويحمل معه شيئاً من مشقة المعاناة، فكان فكره متبرمٌ به كتبرم الحامل أثناء مخاضها، فإذا أودع معانيه المتزاحمة في بيت شعره، فكأنما حطّ عن كاهله عناء ما كان يحمله. وقد تشعر بكثافة المعاني في البيت الواحد، وازدحام شطريه بها عندما تحاول أن تفسر هذا البيت أو تشرحه، فتجدك مضطراً إلى شرح البيت الواحد بعدة أسطر"[(57)].
يحاول المؤلف في كتابه هذا دراسة الأثر القرآني في شعر الرجل الذي اختلف النقاد فيه مدحاً وذماً، وإيجازاً وتفصيلاً. ليخلص الى ان حضور القرآن الكريم في شعر أبي تمام كان عاملاً مهمّاً من العوامل التي أسهمت في إغناء تجربته الشعرية، وتزويدها بطاقات فنية وموضوعية، ومنحها بعداً دينيا؛ وهي تجربة فريدة في تاريخ الشعر العربي: قديما وحديثا.
لا أحد ينكر ما لأبي تمام من موضع في الشعر العربي عموماً والعباسي خصوصاً، بما يمثله شعره من ضجة أثارها لعصره وبعد عصره، فقامت حوله دراسات شتى، بأقلام كبار النقاد، من قبل ومن بعد.. هذا الكتاب يتوفر فيه مؤلفه على دراسة الأثر القرآني في شعر الرجل الذي اختلفوا عليه مدحاً وذماً، وإيجازاً وتفصيلاً.. ولعل في هذا البحث جديداً، يضاف إلى قديم، يدرس جانباً من جوانب الشاعر الذي قيل فيه: إنه غواصة على المعاني يطلبها أنى وجدها، أو يبحث عنها في أناة وروية، ثم يسكبها في قوالب فريدة من عنده، تدهش ذواقي الأدب، وتطلع على نحو عبقري، لا يحسنه إلا شاعر مثله ومن طبقته.