كتاب فيه ما فيه .. أحاديث مولانا جلال الدين الرومي
مجموعة من المحاضرات والمذكرات والتعليقات، يناقش فيها الرومي مسائل أخلاقيّة وعرفانية، ويفسّر آيات قرآنية، وأحاديث شريفة، مع أمثال وحكايات مصحوبة بتعليقاته عليها.
مجموعة من المحاضرات والمذكرات والتعليقات، يناقش فيها الرومي مسائل أخلاقيّة وعرفانية، ويفسّر آيات قرآنية، وأحاديث شريفة، مع أمثال وحكايات مصحوبة بتعليقاته عليها.
تقديم مترجم الكتاب
من غباري شاد كونًا آخرا
صيَّر الرُّوميُّ طيني جوهرا
محمد إقبال
الحمدُ للهِ الذي فجّر ينابيعَ الحكمة من قلوب الصّادقين فجَرَتْ، وفتح لها أسماعَ المحبّين والرّاغبين فسَرَت، ونوّر بها بصائر المتوجّهين والطالبين فأبصرت.
أحمدُه حمْدَ معترفٍ بِمنَّته في حمده، وأشكره شكْرَ عارفٍ بإحسانه ورِفْده، وأستغفره من كلّ ذنب في هَزْل العمل وجِدّه، وأستعينه استعانة من عَلِم أن كلّ شيء من عنده.
وأصلّي على سيّدنا محمّد نبيّه الكريم وعبْده، وعلى آله وأصحابه وذرّيته وكافّة أهل وُدّه، صلاةً أؤدّي بها ما وجب من تعظيم قدره ومجده، وأسلّم عليه وعليهم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله على ذلك.
وبعد:
فما ثمّ إلاّ الله، من عرفه فقد فاز الفوز العظيم، ومن نسيه فقد خسِر الخسران المبين. وقد تفاوتت منازلُ الخَلْق على طريق المعرفة هذا، فكان منهم السابقُ والمصلّي والمجلّي.. والسُّكَّيْت.
وقد هيّأ المولى سبحانه أن يكون بين الناس مَنْ ينادي للإيمان؛ {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} [آل عمران: 3/193]، أي اعرفوا ربّكم حقّ المعرفة، واجعلوه الغايةَ والقصد من كلّ ما تأخذون وما تدَعون. وينتمي إلى هذا الصنف الممتاز قافلةُ الرّسِل والأنبياء والصالحين والأولياء. هذا الصنفُ الذي لم يرَ إلاّ الله، فحقّق معنى: (لا إله إلاّ الله).
وإذا كان هذا النفرُ صنفًا خاصًّا من الخلق، فقد جعل الحقّ سبحانه كلامهم صنفًا خاصًّا من الكلام. ويقف المرءُ في أعلى هرم الحقيقة حين يقول: إنّ تقديم كلام هؤلاء لأبناء هذه الأمة العظيمة من فروض الكفاية؛ فإنّ الذي نحن في أشدّ الحاجة إليه: إصلاح القلوب.
نعم، نحن في حاجة إلى الإخلاص التامّ. إنّ صُوَر الأعمال وظواهرها لا تفيد، وإنما الذي يفيد هو (الإخلاص). وفي هذا يقول العارف الكبير ابن عطاء الله:
"الأعمالُ صورٌ قائمة، وأرواحُها وجودُ سِرِّ الإخلاص فيها".
وقد ذهب كثيرٌ من أهل التحقيق إلى أنّ جلال الدّين الرّوميّ واحدٌ من ذلك الصنف الخاصّ من الخلق الذي أومأنا إليه قبلُ، وأنَّ كلامه من ذلك الصنف الخاصّ من الكلام.
وقد غمرني المولى - سبحانه - بنَعْمائه، حين هيّأني منذ سنوات للإسهام في تقديم هذه الشخصية المدهشة وآثارها العظيمة إلى أبناء الأمة. فكان أن ترجمتُ قبل هذا الكتاب ثلاثة كتب عن الإنكليزية، مما له صلة بمولانا جلال الدّين.
ويستلزم التقديمُ لهذا الكتاب أن أتحدّث عن ثلاثة أشياء: مولانا جلال الدّين الرّوميّ، وكتاب فيه ما فيه، وحكايتي مع الترجمة.
أمّا مؤلّف (كتاب فيه ما فيه) فرجلٌ اسمه محمّد، ولقبُه جلال الدّين. ويذكره أحبّاؤه وأصدقاؤه بلفظ (مولانا) التي تعني، مثل لقب (خواجه)، ضربًا من التقدير المعنويّ - والاجتماعيّ. وهذا اللفظ (مولانا) ترجمة للكلمة الفارسيّة (خداوندكار)، ويقال: إنّ والده هو الذي خاطبه أولاً بهذا اللّقب. وفي المصادر الفارسية الحديثة اشتهر مولانا بـ(مَوْلَوِي).
ويُذكر أحياناً باسم (الرّوميّ) و(مولانا الرّوميّ)؛ لأنه عاش في بلاد الرّوم؛ آسية الصغرى قديمًا، وتركية اليوم. ومرقدُه هو ومرقد أبيه وأسرته في مدينة قُونِيَة التركيّة. وفي بلدان الغرب يعرفه الجميع باسم (الرّوميّ).
في السادس من ربيع الأول سنة (604هـ/ 30أيلول 1207م) وُلد مولانا في مدينة بَلْخ؛ إحدى مدن خراسان. وفي المصادر التي أُلّفت بعد مولانا يطالعنا بهاءُ الدّين محمّد المعروف بـ(بهاء ولَد)، والد مولانا، فقيهًا كبيرًا، وصاحب فتوى، ومن شيوخ الطريقة الكُبْرَوية (أتباع الشيخ نجم الدّين كبرى)، وصاحبَ لقب (سلطان العلماء). ويقال: إنّ النبيّ محمّدًا، عليه الصلاة والسلام، هو الذي خلع عليه هذا اللقب في المنام.
وتذهب بعضُ الرّوايات إلى انتساب بهاء ولَد من جهة الأب إلى الخليفة الأوّل لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، (أبي بكر الصدّيق)؛ ومن جهة الأمّ إلى أسرة ملوك خوارزم.
ويُفهم من الرّوايات أنّه كان لهذا الوالد في بَلْخ نقاشٌ وحِجاج مع ملوك خوارزم ومع الإمام الفخر الرّازي؛ إذ كان يقول لهم: إنّكم أُسارى ظواهر لا قيمة لها، وإنّكم محرومون من هبة إدراك الحقائق.
ويبدو أنّ هذه العلاقة غير الودّية وتوقّعَ هجوم المغول، مما دفع إلى أن يضيق بهاء ولَد بالإقامة في خُراسان، ومن ثم يهاجر مع أسرته إلى آسية الصغرى، التي كانت موئلاً لكثير من العلماء والمفكّرين والعارفين.
ويبدو أنّ بَهاء وَلَد حتى قبل الهجرة ببضع سنين لم يكن يعيش في بَلْخ، بل أقام مُددًا قصيرة أو متناوبة في مدن خراسان الأخرى، مثل وخش وتِرْمِذْ وسمرقند.
أمّا الرحلة الطويلة التي انتهت ببهاء ولد وأسرته إلى قونية فيبدو أنها بدأت سنة (616 أو 617هـ)، في الوقت الذي اتسع فيه نطاق هجمات المغول على مدن خراسان. كانت الرّحلة بنيّة أداء فريضة الحجّ إلى مكّة المكرّمة، ثمّ يكون ما يكون من أمر الإقامة. وهكذا وصلت الأسرة إلى نيسابور، عروس مدن خراسان، حيث استقبلهم الشيخ فريدُ الدّين العطّار العارف والشاعر الكبير، الذي كان في سوق العطّارين في هذه المدينة في زاوية ممّا يمكن تسميتُه اليومَ صيدلية، يعالج المرضى بعقاقيره، وينظم الشعر العِرْفانيّ، ويؤلّف الكُتبَ القيّمة.
وتذهب بعض الرّوايات إلى أنّ شيخ سوق العطّارين هذا كان مندهشًا بإدراك مولانا، الشابّ الصغير، وذكائه وألمعيّته، وأنه أهداه كتابه (أسرارنامه)، وقال لوالده: إنّ ابنه سيضرم النّارَ سريعًا في هشيم العالَم.
ثمّ من نيسابور إلى بغداد، وهناك أحاديث عن إقامتهم فيها ثلاثة أيام، وعن أنّ بهاء ولَد تحدّث عن احتمال نهاية الخلافة العباسية، وعن حضور الخليفة مجلسَه، وعن ذهاب شهاب الدّين أبي حفص السُّهرورديّ، العارف والعالِم الشهير وصاحب الكتاب النفيس (عوارف المعارف)، للقائه. ومن بغداد إلى الحجاز، ومن هناك إلى الشام، حيث أقاما مدّة.
وتتحدّث روايات غير محقّقة عن سفرهما إلى أَرْزَنْجان في بلاد أرمينية، وكانت لهما وقفات طويلة نسبيًّا في آقْ شَهْر، ومَلَطْية، ولارندة.
وقد توفّيت والدةُ مولانا، مؤمنة خاتون، في لارندة. ثم اقترن مولانا في هذه المدينة بـ(جوهر خاتون) التي كانت والدة سلطان وَلَد، ابن مولانا.
وقد حطّ بهاءُ ولَد ومولانا والأسرة رحالَهم في قونِيَة سنة (626هـ/ 1229م) حيث أكرم سلطانُ سلاجقة الرّوم في قونية، علاء الدّين كَيْقُباذ، وِفادتهم.
وفي اليوم الثامن عشر من ربيع الثاني سنة (628هـ/ 1231م) ودّع بهاءُ ولَد الدنيا، فخلفه ابنُه مولانا جلال الدّين في الفقه والإفتاء والتدريس.
وبعد عام من وفاة بهاء ولَد وصل من خراسان إلى قونية برهانُ الدّين محقِّق الترمذيّ، تلميذ بهاء ولَد.كان يؤمّل لقاء شيخه الذي اشتاق إليه كثيرًا، وأمضّه فِراقُه. وقد تولّى برهان الدّين تعليم مولانا، فعرض عليه أولاً ما كان قد تعلّمه من والده بهاء ولَد، ثم اقترح عليه السفر إلى الشام؛ لزيادة محصوله العلميّ. وهكذا أوفده إلى حلب، وخرج معه مشيّعًا حتى قيصَريّة. ومنذ ذلك الوقت حتى انصرام تسع سنوات ظلّ برهان الدّين حبيبًا ومرشدًا لمولانا، في قُرْبه وفي بُعْده. ويقال: إنّ مولانا بقي مدّة في حلب، ثم يمّم شطر دمشق. ويرى بعضُ المحقّقين أنّ المعارف الواسعة التي حصّلها مولانا في مجال العلوم الإسلامية ثم بدت جليّة في (المثنوي) إنما ظفر بها وهو في حلب ودمشق؛ لأنه في تلك السنين كانت كبرياتُ المدارس الإسلامية في هاتين المدينتين، وقد اعتلى كرسيّ التدريس فيهما أبرزُ الفقهاء الأحناف. وكان قريبًا من تلك المدارس الشيخ محيي الدّين بن عربيّ، العارف والمعلّم الكبير للعِرْفان، في دمشق. وكان طلاّبُ عِلْم القال وعلم الحال ييمّمون شطر دمشق من كلّ فجّ في العالم الإسلاميّ.
ثم عاد مولانا إلى قونية في إهاب عالِم بارز في العلوم الإسلامية، وتقدّم الفقهاء وعلماءُ الشرع لاستقباله، كما احتفى بعودته أتباعُ التصوّف، الذين عدّوه واحدًا منهم. ويبدو أنّ برهان الدّين محقّق كلّفه ببعض الخلوات وأعَدّه ليكون مرشدّا كبيًرا وأستاذًا من أساتذة العرفان الكبار. وقد توفّي برهان الدين سنة (638هـ/ 1241م) في قيصرية. أمّا مولانا فقد ظلّ يتولّى التدريس والإرشاد، ويلتفّ حوله عددٌ من المريدين.
واستمرّت الحالُ على ذلك حتى سنة (462هـ/ 1242م)، إذ حدث انقلابٌ كبير في حياة مولانا. ففي يوم الإثنين، السادس والعشرين مِنْ جُمادى الثانية سنة 642هـ، طلع شمسُ تَبْريز في قونية؛ وهو رجل مديد القامة، موجّن الوجه، ملئت عيناه غضبًا وشفقًة، كثير الحزن، في سنّ الستّين تقريبًا. وكان شمس هذا قد رأى في بلاده أشياخ الطريقة، وتتلمذ على شيوخ مثل أبي بكر السلاّل التبريزيّ، وركن الدّين السّجاسيّ، ولكنهم لم يجيبوا عن التسآل الواسع لروحه. وهكذا سافر بحثًا عن شخص آخر، كما يقول: ((كنت أطلب شخصًا من جنسي، لكي أجعله قِبلةً وأتوجّه إليه، فقد مللتُ من نفسي)). وهكذا من تبريز إلى بغداد، ومن هناك إلى دمشق حيث ابن عربيّ، وله معه لقاءات ونقاشات، ومرّة أخرى من مدينة إلى أخرى حتى وصل إلى قونية. كان شمس هذا محاطًا بالإبهام، وهو نفسه في (مقالاته) يضع بين أيدينا تصويرًا لهذا الإبهام. وفي اليوم الذي وصل فيه إلى قونية لم يكن يعرف: هل سيجد في تلك المدينة الشخص الذي يبحث عنه؟ بقي مدّة صامتًا، ولم يكشف عن وجهه الحقيقيّ. وفي (خان باعة السّكّر) استأجر حجرة على غرار واحد من التجار. وهناك أكثر من رواية حول لقاء شمس مولانا. والخطوط المشتركة في هذه الرّوايات ترجِّح أن يكون شمس على علم بوجود مولانا في قونية، وكان في أثناء إقامته ينتظر سانحةً لكي يقابله، فإذا ما وجده مثل المدرّسين الآخرين جافًّا وسطحيًّا هاجمه. لكنه في اللقاء الأول نفسه سحَر مولانا شمساً بشخصيّته، وسحَر شمسٌ مولانا. وتذكر الأخبار أنّ شمسًا نزل مثل الصاعقة على وقار عالمَ مولانا، وكان مولانا يريد أن تخرّبه هذه الصّاعقة. يقول مولانا:
وما الذي يزعجني في أن يحلّ الخرابُ؟
إنّ تحت الخراب كنزاً سلطانيّاً.
وبعد هذا اللقاء اختلّ نمطُ تدريس مولانا وبحثُه ولقاؤه تلاميذَه. ومن ثم تخلّى عن كرسيّ التدريس، وعن إمامة الناس في الصلاة، لكي يرقص، ويضرب القدَمَيْن على الأرض، ويُنشد الغزليّات المثيرة المؤثّرة. وقد أثار ذلك حفيظة مدرّسي الفقه الآخرين على مولانا؛ فأخذوا يشغبون عليه، وانضمّ إليهم مريدو مولانا وتلاميذُه الذين فقدوه بعد هذا اللقاء. وهكذا عاشت قونية فتنةً كان من آثارها أن ترك شمس المدينة في الحادي والعشرين من شوّال سنة (643هـ/ 1245م)، من دون أن يبيّن الوجهة التي قصد إليها. وقد ترك ذلك ألماً كبيرًا في نفس مولانا، فجاشت نفسُه بغزليّات غاية في التأثير. وهكذا: "ظهر مجلس جديد يدعو فيه مفتي العشق الجميعَ إلى العزف والسّماع"، كما يقول الدكتور محمد استعلامي، محقّق (المثنويّ). وفي النهاية بُشّر مولانا بأنّ شمس تبريز في الشام فقال:
أيُّ صباحاتٍ تطلعُ، إذا كان في الشام؟!
وإذْ لم تُفلح الرسائل والكتب في إعادة شمس إلى قونية، أنفذ مولانا ابنه سلطان وَلَد إلى دمشق، فعاد بالشيخ إلى قونية في شهر ذي الحجة سنة (644هـ/ 1246م). ولكن مرّة أخرى، لم يمض وقتٌ طويل حتى عادت عداوة شمس إلى القلوب جذَعَةً؛ إذ لم يقبل ضعافُ العقول أن يكون رجلٌ ساحر، كما تناهى إلى أفهامهم القاصرة، سببًا في أن يصاب مولاهم بالجنون، ويرقص في الأحياء والأسواق. ومرّة أخرى ثار الفقهاءُ على مولانا وشيخه، ورأى عددٌ أكبر من الأصدقاء والأعداء سَفْكَ دم شمس أمرًا مقبولاً. ويقال: إنّه قُتِل. وثمة أكثر من رواية حول هذا القتل.
ومهما يكن، فإنّ شمسًا قد توارى عن الأنظار سنة (645هـ/ 1247م)، عقب الفتنة الثانية. وتظلّ رواية قَتْله غير مستيقَنة. فالأخبار تتحدّث عن أنّ مولانا سافر إلى دمشق للبحث عنه:
بسبب صُبْحِ السَّعادةِ الذي يشعُّ من تلك الناحية،
في كلّ مساء وسَحَرٍ، أكون ثملاً بضروب السّحر في دمشق.
وبعد مدّة عاد مولانا إلى قونية، وانصرف إلى إرشاد المريدين. وفي هذه المرّة صار إرشادُ مولانا وتوجيهُه (خانقاهيًّا)؛ أي صوفيّاً كاملاً، وامتزج بالرّقص والسّماع، وقد استمرّ على ذلك حتى آخر حياته.
واحتاج مولانا في هذه الأثناء إلى مَن يثق به ويعتمد عليه في تدبير شؤون المريدين، فكان صلاحُ الدّين زَرْكُوب ثم حسام الدّين جلبي خليفتين لمولانا يقومان بأعماله حين يغيب، ويساعدانه في معالجة قضايا المريدين والزّائرين.
كان الخليفةُ الأوّل لمولانا، صلاحُ الدّين زركوب، من إحدى قرى قونية، وهو حِرْفيّ بسيط يعمل في التذهيب أو الطّلاء بالذهب [زركوبي - بالفارسية] في دكّان له في وسط السّوق. ويبدو أنه كان محدود التحصيل والثقافة ولكنه كان يميل إلى عشّاق الحقّ. وقد أثار إيثارُ مولانا إيّاه بِأنْ يكون القائم بأعماله انتقادَ المريدين، خاصة من كبار السنّ. وفي هذه السنوات حدث بين مولانا وصلاح الدّين رباطٌ عائليّ؛ فقد صارت فاطمةُ أختُ صلاح الدّين زوجةَ سلطان ولَد، ابن مولانا.
ظلّ صلاح الدّين القائمَ بأعمال مولانا لمدّة عشر سنين، وفي الأوّل من محرّم سنة (657هـ/ 29 كانون الأول 1258م) توفّي إِثْرَ مرض مزمن.
وقد خَلَف صلاحَ الدّين في مهمته حسامُ الدّين جلبي، حسن بن محمد الأرمويّ، وهو رجل يسمّيه مولانا في مقدّمة الكتاب الأول من المثنويّ "أبا يزيد الوقت، وجنيد الزمان". وكان يعرف أيضًا بـ(ابن أخي ترك).
وتأثير حسام الدّين في شؤون مريدي مولانا وخانِقاهه يستحق الثناء، وما هو أسمى من ذلك هو التأثير الذي كان له في إيجاد المثنويّ. وثمّة روايات حول اقتراحه على مولانا فكرةَ نَظْم المثنوي وإلحاحه على هذا المطلب. والخطّ المشترك بين هذه الرّوايات يمضي هكذا: كان أصحاب مولانا من أجل فهم المعاني العالية في العِرفان، يقرؤون آثار سنائي والعطّار، وكان حسام الدّين يرى أنّ مولانا نفسه وصل إلى مرتبة أسمى من تلك الآثار، وأنّ توليد ذهنه وفيْضَه يمكن أن يبدع أثرًا أكثر نفاسةً من (حديقة الحقيقة) لسَنائي، ومثنويات فريد الدّين العطّار. ويقال: إنّ حسام الدّين في إحدى اللّيالي اقترح على مولانا أن ينظم عملاً شعريًّا من نوع (حديقة الحقيقة). ويذكر مولانا أنه في اللحظة نفسها أخرج مولانا من طرف عمامته ورقًا كانت قد كُتبت عليه الأبيات الثمانية عشر في مطلع الكتاب الأوّل من المثنويّ، وهي الأبيات التي موضوعُها (شكوى النَّاي). وهكذا بدأ نظمُ المثنوي.
والظاهر أنّ مولانا في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة من حياته خلد إلى خلوة صمْته، ولم ينشغل بالإرشاد والإنشاد على نحو منظّم، وكان لقاؤه الأحبّة يحدث في مجلس السّماع؛ أي حلقة الذّكر التي تجمع الشيخ ومريديه وما يصحب ذلك من عزف ودوران. وقد حافظ على هذا السّماع حتى آخر ساعات حياته.
وفي الليلة الأخيرة من حياته كان يواجه (الحمّى المحرقة)، ولكن لم تُر على وجهه أمارات الجزع من الموت. كان يُنشد الغزليات، والسُّرور بادٍ عليه، وكان يمنع أصحابه من الاغتمام على فراقه:
اللّيلةَ الماضية، في المنام، رأيتُ شيخًا في حيّ العِشْق،
أشار إليّ بيده: اعزمْ على الالتحاق بنا.
وقد قيل: إنّ هذا هو آخر ما نظم مولانا.
وفي يوم الأحد الخامس من جمادى الثانية سنة (672هـ/ السابع عشر من كانون الأول سنة 1273م)، وعندما آذن النهارُ بوداع، غربت في أفق قونية شمسانِ؛ كان إحداهما شمس مولانا جلال الدّين الرّوميّ.
هذا شيء من سيرة هذا الرّجل العظيم الذي ملأ دنيا الإسلام عِلْمًا أشبه ما يكون بالكيمياء التي تحوّل المعادن الخسيسة إلى ذهب، حسب اعتقاد القدامى، وشعرًا يصلح أن يكون سبيلاً لإصلاح ما فسد من النفوس. وإلاّ فكيف يقضي الأستاذ نيكولسون ثلاثين عامًا من عمره يدْرس جلالَ الدّين ويصفه بأنه أعظم شعراء الصّوفية على الإطلاق؟ ويرى أنّ هذا الوصف لا يفيه حقّه فيقول: "وإلاّ فأين لنا أن نرى صورة شاملة للوجود بأكمله منطلقةً أمامنا خلال الزمن، مستمرّة إلى الأبد؟ إن هذا الشِّعر [شعر مولانا] إلى جانب طابعه الصّوفيّ قد انطوى على ثروة من السُّخرية والتهكُّم، والمواقف التي تثير الرثاء، وصُوَرٍ رسمتْها يدٌ صَناع ما مسّت شيئًا إلاّ كشفت حقيقة جوهره".
وسأشير سريعًا الآن إلى مؤلّفات مولانا الرّوميّ ، ثمّ أخصّ هذا الكتاب الذي أقدّم الآنَ ترجمته إلى قرّاء العربية بشيء من التفصيل.
ترك مولانا نوعين من الآثار الأدبية؛ آثارًا منثورة، وأخرى منظومة. أمّا المنثورة فهي:
1- المجالس السبعة، وهو عبارة عن مواعظ وخُطب، ألقاها مولانا على المنابر. ويبدو أنّها من نتاج المرحلة التي تبعت تعرّفَ مولانا شيخَه شمس الدِّين التبريزي.
2- مجموعة من الرسائل، كان قد كتبها إلى أصدقائه وأقاربه.
3- كتابُ فيه ما فيه، وهو كتابنا هذا.
أمّا آثاره المنظومة فتتمثل أيضًا في ثلاثة أعمال شعرية هي:
1- ديوان شمس تبريز، وينطوي على غزليات صوفية يقرب عددُها من ثلاثة آلاف وخمسمائة غزلية، أو غَزَلاً، كما يقول الإيرانيون. وقد نظمه على أبحر مختلفة. ويصل عددُ أبياته إلى 43 ألف بيت. وقد نظمه تعبيراً عن تعلّقه بشيخه شمس الدّين التبريزي، إذ وصل الاندماج والتوحد بين المريد والشيخ حدّاً جعل مولانا ينظم الأغزال، وفي نهايتها يجري اسم شمس على لسانه، فكان أن اشتهر ديوانه هذا بـ(ديوان شمس).
2- الرّباعيّات، وينسب إلى مولانا منها 1659 رباعية، يصل عدد أبياتها إلى 3318 بيتاً.
3- المثنويّ، يعني المثنويّ صورة نظمية في الفارسية تقابل ما يُعرف في العربية بـ(المزدوج). ولكل بيت فيه قافية مستقلة عن قوافي الأبيات الأُخر، لكنّ شطري البيت الواحد يتّفقان في التقفية؛ أي إنّ عروض البيت وضربه متّفقان.
وتضمّ هذه المجموعة الشعريّة الكبيرة ستّة كُتب، تنطوي في مجموعها على ما يقرب من خمسة وعشرين ألف بيت. وتعالج موضوعات مختلفة تتناول كلّ ما له صلة بالإنسان في الدنيا والآخرة.
وهذا، كما وعدنا، مكانُ الحديث عن هذا الأثر الذي أقدّمه للقارئ العربيّ الكريم:
(كتابُ فيه ما فيه)
هذا الكتاب أحدُ آثار مولانا جلال الدّين الرّوميّ النثرية. وأكثرُ فصوله إجابات عن أسئلة مختلفة، أُلقيت في مناسبات مختلفة بوجود مولانا.
وبعض من مباحث هذا الكتاب أيضاً أحاديثُ توجّه فيها مولانا إلى معين الدّين سليمان بروانه. وكان بروانه هذا أحدَ الرّجال الكبار في بلاط سلاجقة الرّوم، وكان شديد العشق لأهل المعنى، وفي عداد من آمنوا بولاية مولانا.
فالكتابُ مجموعة من المحاضرات والمذاكرات والتعليقات يناقش فيها مولانا مسائل أخلاقية وعرفانية، ويفسِّر آيات قرآنية وأحاديث، وهي المباحث نفسها التي جاءت على نحو أوسع وأعمق في (المثنويّ). وفيها، على غرار المثنويّ، أمثالٌ وحكايات مصحوبة بتعليقات مولانا. ويساعد هذا الكتاب في فهم التفكير الصوفيّ عند مولانا، وفي إدراك مقاصده في كتبه الأخرى.
وفي هذا الكتاب يذكر مولانا أشخاصًا كثيرين ممن له صلةٌ بهم، كوالده بَهاء ولَد، وبرهان الدّين محقّق التّرمذي، مرشده بعد وفاة والده، وشيخه الكبير شمس الدّين التبريزيّ، وحبيبه ومساعده صلاح الدّين زركوب.
ويُبرز الكتابُ الثقافةَ الموسوعية لمولانا جلال الدين، وعمقَ تناوله للقضايا، وقدرتَه على استخلاص العِبَر والعظات من أشياء الحياة العادية. كما يبرز (روحَ الإسلام) ومُرادَ الحقّ سبحانه من الخلق في عرض شائق يخاطب الحسّ والوجدان والعقل والرّوح في وقت واحد.
ويتجلّى في الكتاب أمرٌ غاية في الأهمية، وهو التربية الرّوحية للإنسان لكي يكون كما أراده خالقهُ سبحانه.
وقد جاء الكتاب في واحد وسبعين فصلاً متفاوتة في الطول، ولم تُذكر لها عنوانات. وجاء ستّة من هذه الفصول بالعربية هي: (22،29،34،43،47،48). وقد أذِنّا لأنفسنا بوضع عنوانات لفصول الكتاب استمددناها من المباحث التي تناولتها الفصول. وليس في مقدورنا القول: إنّ العنوان الذي آثرناه للفصل يعبّر عن جملة مادّة الفصل؛ لكثرة ما يستطرد مولانا من مبحث إلى آخر داخل الفصل الواحد.
وفي شأن عنوان الكتاب يذكر العلاّمة بديعُ الزّمان فروزانفر محقّق الكتاب أنّه وجد اسم الكتاب هكذا: (كتابُ فيه ما فيه) على غلاف النسخة المخطوطة التي اتّخذها أصلاً لتحقيقه الكتابَ. ويرجِّح أن يكون الكتاب دوّن كاملاً بعد وفاة مولانا اعتمادًا على تدوينات سابقة في حياة مولانا لكلّ فصل على حدة. ولعلّ الفضل في تدوينه كاملاً يعود إلى ابن مولانا، سلطان ولَد، أو إلى واحدٍ من تلاميذه.
ويقول العلاّمة فروزانفر في مقدّمة تحقيقه الكتابَ: "لا يمكن تصوّر أن يكون مولانا نفسُه قد وضع اسمًا للكتاب، ويُظنّ أنّ هذا الاسم [أي: كتاب فيه ما فيه] مقتبسٌ من قطعة ذكرت في الفتوحات المكيّة للشيخ محيي الدّين بن عربيّ. وهذه القطعة هي:
بديعٌ في معانيهِ كتابٌ فيه ما فيهِ
رأيتَ الدرَّ يحويهِ إذا عاينتَ ما فيه
.. ويضيف فروزانفر، رحمه الله، أنّ تعبير: "فيه ما فيه" يرد كثيرًا في شعر ابن عربيّ.
وقد اعتمدنا في الترجمة إلى العربية الأصْلَ الفارسيّ لـ(كتاب فيه ما فيه) بتحقيق العلاّمة فروزانفر. واستعنّا في المواضع المشكلة بالترجمة الإنكليزية القيّمة للكتاب التي أعدّها المستشرق الإنكليزيّ الراحل آرثور ج. آربري، وصدرت بعنوان: (Discourses of Rumi).
ولا غنى عن الإشارة هنا إلى أنّ الفصول العربيّة في الكتاب مصوغةٌ بلغة ضعيفة ممّا اضطرّني أحياناً إلى التصرّف؛ ابتغاء أن تكون العبارة مفهومة. وبرغم ذلك بقيت هذه الفصول من الحلقات الضعيفة في سلسلة فصول الكتاب.
والحقيقة أنّ الترجمة عن الفارسيّة ليست من الأمور السهلة، خاصّةً حين يكون الكتاب من ميراث القرن السّابع الهجريّ، ولرجل مثل مولانا جلال الدّين الرّوميّ.
وبشأن القَصْد الذي دفعني إلى تحمّل وعثاء الترجمة آذن لنفسي في ختام هذا التقديم بأن أستعير عباراتٍ إخالها تعبِّر تمامًا عمّا أنشُدُ، وهي عبارات قالها الدكتور محمّد عبد السلام كفافي، رحمه الله، في مقدّمة ترجمته الجزءَ الثاني من مثنوي مولانا جلال الدّين:
"نحن في حاجة إلى شيء من التصوّف البنّاء، الذي يعيد الحياة إلى الرّوح العربيّ الأصيل، ويكشف عن جوهره ما غشيه من غبار السنين. حينذاك نبلغ القوّة المنشودة، ولا تعصف بنا مخاوفُ الحِرمان من ترّهات الترف الزائف. فمن التصوّف أن يتغلّب المرءُ على شهواته، ومن التصوّف أن يستهين المرءُ بالحياة في سبيل أسمى الأهداف، ومن التصوّف أن يكون المرءُ مثاليّاً في ما يعتقد وما يقول ويعمل".
نعم، نحن في غاية الحاجة إلى الأدب المؤدِّب، الأدب الذي يساعد في انتشال الأمّة من الوهدة التي تردّت فيها فغدت أضحوكةً لأمم الأرض، ومخبرًا لتجريب كلّ التفاهات. وليت شعري كيف ستكون الحالُ إذا ظلّ أدعياءُ الأدب ودُعاة السّفساف يمطرون ناشئة الأمّة بكلّ نشاز ومبتذل وتافه.
فإلى أبناء الأمّة العظيمة هذا القبَس من النار التي أجّجها الشاعرُ والمفكِّرُ والعاشقُ مولانا جلال الدّين الرّوميّ، الذي قال عنه عبدُ الرحمن جامي أعظمُ شاعر وعارف في القرن التاسع الهجريّ: "لم يكن نبيًّا، ولكنّه أوتي كتابًا".
واللهُ سبحانه هو المقصود في الأوّل والآخر.
حلب، يوم الجمعة، التاسع من ذي القعدة 1421هـ.
الثاني من شباط 2001م
عيسى علي العاكوب
نحن بحاجة إلى شيء من التصوف البنّاء الذي يعيد الحياة إلى الروح، ويكشف عن جوهره ماغشيه من غبار السنين، حينذاك نبلغ القوة المنشودة ولا تعصف بنا مخاوف الحرمان من ترهات الترف الزائف.
فمن التصوف أن يتغلب المرء على شهواته، ومن التصوف أن يستهين المرء بالحياة في سبيل أسس الأهداف، ومن التصوف أن يكون المرء مثالياً في مايعتقد وما يقول ويعمل.
د. محمد عبد السلام كفافي
كتاب في التصوف يشتمل على مجموعة من المحاضرات والمذاكرات والتعليقات ناقش فيها مسائل أخلاقية وعرفانية وفسَّر آيات وشرح أحاديث وأورد أمثالاً وحكايات علَّق عليها.
ينقسم الكتاب إلى واحد وسبعين فصلاً في كل فصل فكرة، تدور كل فكرة حول آية قرآنية أو حديث نبوي أو حكمة مشهورة أو قول مأثور أو عبارة متداولة يتحدث حول ذلك كله من منطلق التصور الصوفي الذي يستكنه الحقائق بفكر شفاف صافٍ وأخلاقي ويغوص بطريقة فريدة على المعاني الجديدة يستخرجها بفهم جديد. ومن العناوين البارزة ((كل شيء من أجل الحق))، ((موتوا قبل أن تموتوا))، ((لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً))، ((أرني الأشياء كما هي))، ((رجعنا من جهاد الصور إلى جهاد الفِكَر))، ((اجعلوا أنفسكم بعيدة عن مرادها))، ((نصف الإنسان ملاك ونصفه حيوان))، ((لا يكون طالب الخلاص طالباً للقيد))، ((لا يكون نقش من دون نقاش))، ((صلاة الروح وصلاة الصورة))، ((ترك الجواب جواب))، ((ضيوف العشق))، ((الشكر صيد النعم))، ((أنا جليس من ذكرني))، ((الكافر والمؤمن كلاهما مسبِّح))، ((الخير لا ينفصل عن الشر))، ((الأصل هو العناية الإلهية))، ((الشكاية من الخلق شكاية من الخالق)).
والكتاب يبرز الثقافة الموسوعية لمولانا جلال الدين الرومي وطريقه في فهم التصوف.