مستخلص لقد أصبح العالم والعصر شيئاً واحداً، وإذا كان التاريخ سابقاً هو عبارة عن تواريخ وتآريخ تختلف باختلاف المناطق والأقاليم فإن التاريخ الآن هو التاريخ الذي يُسهم بصنعه الجميع وإن اختلفت حصصهم فازدادت لدى البعض وقلّت أو أو انعدمت لدى البعض الآخر فإن ذلك لا يلغي توحّد التاريخ. على هذا الأساس يتناول هذا الكتاب أكثر المفاهيم أهمية في الفكر الإسلامي المعاصر: ((التجديد)) بوصفه سؤال الجدل مع العصر، دارساً تاريخية تشكل الخطاب الجديد الذي نسج حوله منذ منتصف الخمسينيات، والمراحل التي قطعها لكي يكتسب المشروعية في إطار الثقافة الإسلامية، وليكشف عن المنطق الداخلي الذي يحكم البناء المفهومي ((للتجديد)) بوصفه ((نظرية مفتوحة)) لا تكتمل إلا في إطار الفعل التاريخي الواقعي. لقد صيغ خطاب التجديد للبحث عن نموذج معرفي مختلف عن النموذج الحداثي الغربي (واستطالاته فيما بعد الحداثة) وعن النموذج المعرفي السلفي التقليدي في إطار الحضارة الإسلامية، فمهمة إعادة بناء المنظمة تبدأ من القدرة على صياغة هذا النموذج. وتشير بحوث الكتاب إلى أجيال عدة حاولت القيام بهذا الدور، فقدمت إسهامات تستحق التقدير. إن وجود محاولات مؤسسة للفكر الإسلامي الجديد لا يعني أن هذه المحاولات حققت طموحاتها، بل على العكس، فقد منيت هذه المحاولات عموماً بالإخفاق النسبي -إذا صح التعبير- ذلك أن إعادة البناء على إرث هائل مثل إرث الحضارة الإسلامية أمر طبيعي جداً أن يمنى بإخفاقات أكبر من هذه بكثير، لقد دُرست هذه المحاولات أيضاً في مباحث الكتاب، كما درست أهم مسببات هذا الإخفاق، وهي تلك الثاوية في التعليم الديني، على اعتبار أن العرقلة تبدأ من هنا. وإذا كان خطاب التجديد يمارس سطوته انطلاقاً من علاقته بالعصر، فإن ذلك لا يعني أنه لا يعاني عدداً كبيراً من المشكلات، وإذا كان الإسهام في صياغته لا يقوم دون تفهم عميق لهذه المشكلات، فإنه يغدو من الطبيعي أن يقدم نقده وتحليله على نحو واضح من منظور أبستمولوجي (أصول معرفي) واستراتيجي، وذلك أيضاً مما عنيت به بحوث الكتاب، التي حاولت أن تقدم النقد من وجهتي نظر: مؤيدي الخطاب، ومعارضيه. إن إحدى السمات الأساسية للخطاب الجديد هو زوال سحر الغرب والتراث في لحظة واحدة، وانفتاح وعيه على الحداثة وما بعدها بكل تجلياته الفكرية والثقافية والمعرفية دون الذوبان فيها، خصوصاً وهو يتمتع برصيد تجربة امتدت أكثر من قرن، وانطلاقاً من ذلك يقدم الكتاب بعض البحوث المثيرة التي تعيد قراءة نقاط جزئية محددة في التراث قراءةً نقدية، بوصفها نموذجاً لإشكالات البنية الذهنية التقليدية وتناقضاتها، وهي قراءة تتم من داخل المنظومة التقليدية وفي إطار منطقها، الذي ينفي القداسة -نظرياً- عن التراث كلِّه، ليحصرها في إطار نصوص الوحي (القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة)، لكنها قراءة تتوسل بالعقل النقدي، الذي يحول التفكير في التراث إلى إمكانية عملية. وإذا كان الإصلاحيون غالباً ما يُتهمون بالبعد عن جوهر الدين -المفترض مخاطبته للروح وقيامه على الاتباع- بخروج كثير من الملحدين من تحت عباءاتهم (لوثر، كالفن، عبده)، فإن الملحدين والضالين الذين يخرجون بسبب من التقليديين ليسوا أقل عدداً على الإطلاق؛ بل هم كانوا الأكثر عدداً دوماً، فالسلبية والخرافة والانعزال عن روح العصر تخلق لدى الكثيرين شروخاً نفسية قد لا يخفف من وطأتها غير المواءمات والتلفيقات الإصلاحية التي تحاول التوفيق بين منطق ((الدين)) والحياة المعاصرة، وإن عجزت عن تقديم حلول أو أجوبة مقنعة بشكل كامل. والتاريخ يعلمنا أن مساوئ التقليد ليست أقل من مساوئ التجديد والإصلاح على الإطلاق، كما أن كثيراً من الحركات التي كانت تعد في زمانها إصلاحية وتجديدية فقدت ماهيتها وأصبحت بتراكم غبار التاريخ عليها حركة تقليدية كغيرها من الحركات السابقة عليها (ابن تيمية وتلاميذه مثلاً).