تغصّ جميع المجتمعات في العالم بعدد لا يحصى من الشرائح الفكريّة والعقائديّة والسلوكيّة، ولعلّ المتديّنين في العالم هم الشريحة العظمى التي لا يستهان بها لما لها من قوة تأثير في المجتمع بشكل سلبيّ أو إيجابيّ.
وعلى الرّغم من أنّ الانفتاح الالكترونيّ العالميّ الكبير قد أفضى إلى ذوبان الكثير من خصوصيّة المجتمعات وضياع معالمها في ظلّ ثقافة تعدّت الحدود الزمانيّة والمكانيّة، لكنّ شريحة المتديّنين كانت إحدى العوامل التي حمت بثباتها الكثير من المجتمعات من الانصهار في حمأة العولمة الطاغية.
ويوماً إثر يوم نرى أنفسنا نسير مع السائرين في الرّكب، ونضمّ المتديّن إلى شريحة مظهريّة أو سلوكيّة معينة، ذلك أن الأمر ارتبط ذهنيّاً في عقولنا ارتباطاً مغلوطاً -في الأغلب- مع أولئك الذين يعنون بطقوس خاصّة في تعبّدهم أو مظهرهم، وكأنّ كلمة المتديّن لا تعنينا نحن شريحة المؤمنين بالله تعالى.
نحن هنا لنحدّد حقيقة المتديّن، ونحلّل الأسباب التي عزلت عدداً منهم عن الفئات الأخرى من المجتمع، ونبحث في الطّروحات والحلول للخروج من هذه العزلة وتعميم النّفع ما أمكن.
.
.
.
تعالوا لنخلع معاً أيّاً من العباءات التي دفعتنا الأيام لاكتسائها، ونقف جنباً إلى جنب بفطرة سليمة وعقل سليم ونحلّل معاً الأسباب التي جعلت المتديّن –بمفهوم المجتمع- ينزوي بعيداً عنا وعن همومنا.
إنه هناك .. في برجه العاجيّ ينظر إلينا من علٍ ويتأسّف على حالنا وما وصلنا إليه من بعدٍ وشطح عن الدّين، نراه يتكلّم .. يقف على منبره الخطابيّ .. لعلّه يعظنا ..! كأنّه ينصحنا ..!! لكننا لا نفهمه!! .. صوته بعيد رغم جهوريته، وكلماته مبهمة رغم رنّات صوته التي تعلو وتنخفض، والأهم من كلّ هذا بعده الروحي عن أرواحنا مع أنه يستعين بأحب الكلام إلى قلوبنا جميعاً ..كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
أو لعلّه هنا .. بقربنا ..لكنّه ضعيف هزيل ولا يكاد يبين!! لم يتخذ قراراً يوماً، ولم يسعفنا في حلّ مشكلة مرّة!! لطالما وددنا الاتّكاء عليه لكنه أضعف من عود أراك!! ينأى بنفسه عن الصدامات، ويستتر بظلّ الجدار من لفح نقد لاذع لا يرحم!!
ترى ما السبب؟؟ بل لنقل ماهي الأسباب؟؟
1- التنشئة الاجتماعيّة:
إنَّ التَّربية في المجتمعات المحافظة تقوم في غالبيِّتها على تعديل السلوك لا بناء الفكر، فهي تقوِّم سلوك الأطفال بأساليب من الترغيب والترهيب دون أن تعنى بإيضاح الأسباب التي دفعتهم إلى تعديل هذا السلوك، في الوقت الذي يجب فيه توضيح سبب الأمر أو النهي وإن كان بطريقة مقاربة لعقولهم، ومن ثمَّ تعزيز هذا التعديل في السلوك عبر التنمية المستدامة، وذلك بالاستمراريّة في هذا التوضيح تباعاً بما ينمو تدريجياً مع عقولهم وأفكارهم.
ازدواجية مرفوضة
ما زلنا ونحن نقارب بين المتدين ومجتمعه ننقب عن خللٍ كامن في الطرفين معاً، فكيف لنا أن ندرس عادات الشعوب وتقاليدهم ببالغ الاحترام والتقدير، مهما خالفت معهوداتنا الاجتماعية والتراثية والدّينية، فقط لأنها تراث يستحق الاحترام، حتى إذا جئنا على سنن ونوافل يقوم بها المتدين رحنا نمتعض من تلك السلوكات ونستهجنها وكأننا على غير دينه؟!!
بالله عليك عزيزي القارئ أخبرني ما الذي يضيرك إن شرب المتدين ماءه قائماً أو قاعداً؟ أو دخل مسجده مستاكاً؟ أو حرص على دخول الخلاء برجله اليسرى وخروجه باليمنى؟
ما الذي يضيرك من هذه السلوكات لتمتعض من فعلها وتستهجن صاحبها، ثم تقبل على ذاك الرجل الصيني الذي ما زال رغم تعدد وتطور أشكال الملاعق يهوى تناول طعامه بأعواد الخشب وتصرّح مبتهجاً بتراثه التقليدي وإن خالف ما اعتدته من آداب للطعام؟ هذا إن لم نتوغل في كثير من السلوكات اليومية غريبة الأطوار التي يقوم بها أشخاص كثر حول العالم تبعاً لعاداتهم وتقاليدهم المحترمة.
وكأنني بك تجعل للعادات والأعراف قدسيّة تفوق قدسيّة التشريع السماوي؟؟!!
لك أن تتقبل شخص الآخرين وهم يعبدون الوثن والبقر والفئران ويأكلون الخبائث، وتستهجن أخاك المسلم لحرصه على سلوكات يومية سمّاها العلماء بالآداب، وهي إن دلّت على شيء فهي تدل بادئ ذي بدء على حبّ عميق أصيل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بكلّ ما فيه من نبوّة وبشرية، من وحي وحياة، بعيداً كل البعد عن الفوائد الروحية بل وحتى العلمية التي قد يختلقها الكثيرون لإقناعنا بفعلها، مع أن الصّحابة عندما قاموا بالاقتداء به لم ينتظروا شيئاً من هذه الاكتشافات العلمية التي تثبت بطريق علمي - صحيح أو مختلق - لفوائد جمّة في كلّ ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم من سلوكات يومية، كانوا رضي الله عنهم يقتفون أثره بغاية الاتباع لهديه، وعشقاً له وكفى لهم ذاك من دافع.
تقبّل الآخر
عزيزي المتديّن:
من حق الآخرين أن يختلفوا معك في الرأي فلا تصادر آراءهم، هم يناقشون بعقولهم هم وعلى طريقة تفكيرهم، ناقشهم بعقلك أيضاً، ولكن حاول أن تقارب طريقة تفكيرهم إن كنت فعلاً تريدهم أن يصلوا إليك، لأنّ الثوابت التي في عقلك تختلف أحياناً عن الثوابت التي لديهم، وبالتالي ما بات لديك بديهيّ هو بالنسبة لهم جديد قد يطرح لأول مرة، أو يحتاج إلى عدّة تفاسير مقنعة ليتم استيعابها، فهم لن يستجيبوا بسهولة للثوابت التي لديك مالم تكن مدعّمة بإقناع عقلي يناسب عقولهم، لعلّك أنت لم تكن بحاجة لهذا الإقناع بطريقة تفصيليّة ومنهجيّة كحاجتهم، كونك وضعت ثقتك في شخوص وأساسيّات لم يمرّوا بها، سأحاول أن أقرّب لك الفكرة أكثر:
.
باتت الحياة مع هذه الكوارث البشرية تافهة واهية مفرّغة من مضمونها مثقلة بالمظاهر والتخم الخارجي الأنانيّ المقيت على حساب فقر مدقع في القيم، وظنّهم فيما يجري أن الحياة مضت بغير قيم ولم تتوقف.
ما خطر ببال أولئك أنّ نخر الحياة قد بدأ منذ غادرتنا تلك القيم، وأن هشاشة هذه الحياة قد استهلكت أرواحنا وأخذت بألقها الحقيقي إلى غير رجعة، وأن العدّ التنازلي للسّاعة قد تسارع مع تسارع هبوط القيم وارتفاع الدولار ..!!
وهنا التركيز على فكرة أنّ الالتزام بالقيم والأخلاق هو جزء أساسيّ من الدّين كما أسلفنا الذكر، وبالتالي هو ليس حكراً على المتدينين بظاهرهم، أو المتدينين في جانب تعبدهم، إنه أمر يعني جميع البشر الذين يشتركون في الإنسانية بادئ ذي بدء، وبصورة أولى فهو يعني جميع المؤمنين بالله تعالى الذي أمر في كل الديانات السماوية باحترام القيم الإنسانية، وبصورة أشدّ حصراً للدّين الإسلامي الذي كان شاملاً ووافياً لكل تفاصيل الحياة وسلوكاتها العامة والخاصة.
.
.
.
إنّ المجتمع بصورة عامة لا يستوعب اندماج الطيبة والقوّة معاً في المتديّن، ولا يتقبّل أيضاً اندماج الصدق مع الوعي، والنجاح مع العفّة، كأنّهم يرون المتديّن إنساناً معدوم الشخصيّة يهزّ الرأس موافقاً على كل أفكارهم الظاهريّة، متعامياً عن بواطنهم ونواياهم الخفيّة، يصدّق كل ما يقال له، ويسعد بكل ما يشاهده، ليس هذا فحسب .. بل عليه أن يجد إسقاطاً وإفتاءً شرعيّاً مبيحاً لكلّ تصرفاتهم، فما أخدمه حين يكون لهم البوق الشرعيّ، والمتفيقه المتحذلق المتبجّح المتنطّع ..!!
أو أنّ المتديّن بالنسبة لهم متعنّت يرفض كلّ بادرة ويحرّم كل أفعالهم وكأنه قادم من كوكب آخر ولا يمكنه أن يفهم لغتهم وطريقة معيشتهم.
.لتكن غايتنا معاً إلغاء تطبيقات الدّين وشخوصه الخاطئة لا ثوابته وحدوده الراسخة.
.همسة في أذن (رجل الدّين)
ولرجل الدّين في المساجد كلمة:
نحن إزاء تسليط الضوء على تقييم شخوص الدّين الإسلامي ورموزه في المجتمع وتبعات خطابهم الدّيني على المنابر نقع في حيرة كبيرة وألم عميق،
ما الذي أوصل رجل الدّين إلى قيمة محصورة في خطاب منبري أسبوعي قد يكون جامداً مكرراً في كثير من الأحيان؟!
.موازنة
علينا أن نعترف بمفارقة حقيقية بين متدين اليوم ومتدين الأمس، وبين طالب العلم الشرعي اليوم وطالبه بالأمس، هذا ما دمنا قد وعينا الفرق بين المتدين وطالب العلم الشرعي، وأنّ طالب العلم هو جزء لا يتجزّأ من المتدين بصورته العامّة في المجتمع، بل إنّ طالب العلم الشرعيّ هو في مقدّمة المتدينين في المجتمع.
متدين الأمس يختلف عن متدين اليوم، فبالأمس كان للعلم الشرعي هيبته وروحانيته المفعمة، أما في أيامنا الحالية فنكاد لا نجد فرقاً بين المتدين وغيره في الأوساط المجتمعية الأخرى.
وكما أننا ابتدأنا حديثنا في الكتاب عن المظاهر التدينية التي تسلب الآخر وتصادر له المحاكمة فتجعل المتدين محصوراً في هذه الزاوية، نحن الآن في طرف مناقض تماماً يحاول أن يحسّن صورة المتدين في رأيه حينما يتنازل عن هذه الشكليات بالرمّة، ويعتبرها عائقاً أمام الوصول للمجتمع والانخراط فيه، حتى نكاد نحنّ إلى عزوف المتدين عن أوساط مجتمعية معينة ليقرّ في قلبنا درجة من الثبات في ديننا لا يجب التنازل عنها.
..حنان أسد
تحوّلت كثير من المظاهر التعبّدية إلى عادات متوارثة لا تمتّ للوعي الاجتماعي والمظهر الحضاريّ بصلة، وقد خلّف هذا التناقض المزري ضياعاً في الهويّة الإسلامية والعقيدة الفكرية الثابتة والصحيحة، وما زلنا إلى اليوم نعاني من تفلّت عرى الإيمان والعقيدة الصحيحة، ونسعى بكلّ جهودنا الفكريّة والعلميّة أن نبعد عن الأجيال القادمة موجة عنيفة من الإلحاد أو التنصّر، هذه الموجة التي دفعت عدداً غير قليل من المؤمنين عُرفاً أن يتيهوا عند أوّل مطبّ عقائديّ، وقد يتنازل أحدهم عن إيمانه ويغرق في سراديب الإلحاد أو التنصّر من أجل عَرَض من الدنيا قليل
نبذة عن الكتاب:
كتاب فكري من 81 صفحة قطع A4 ، يحتوي على حوالي 25 ألف كلمة
يبحث في التوصيف الحقيقي للمتدين لغة وشرعاً وعرفاً، والمشكلات التي يعاني منها في المجتمع، والأسباب التي أوصلته إلى العزلة الاجتماعية أو الانخراط السلبي الذي يميع الماهية الدينية.
كتاب موجّه لجميع فئات المجتمع، يخاطب فيه المتدين بوضع مرآة حقيقية أمامه تبصّره بنظرة المجتمع له عن قرب، كما يخاطب الفئات الأخرى لتعطي المتدين فرصته الحقيقية في إثبات أهمية دوره في النهضة وبناء المجتمع.
كثيرة هي المشاكل التي وقعت فيها مجتمعاتنا العربية بالعموم والمتدينة على وجه الخصوص، وبات لا بدّ لكل ذي عقل أن يبحث ويمحّص في الأسباب لعلّه يجد دواء ناجعاً يخلّص البشرية من أدران المخلّفات الفكريّة الضحلة التي علقت في أذهاننا لعقود طويلة مرّت.
هذا الكتاب هو محاولة بسيطة لردم الفجوة بين المتدين وبقية فئات المجتمع ومقاربة العقول ومصافحة القلوب.
الكاتبة حنان أسد