الأستاذ: سيد محمد صادق الحسيني
الاختلاف سنة كونية والتنوع أمر محمود
أجمعت العرب على أن الاختلاف والمخالفة في اللغة تعني أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله. والخلاف أعم من الضّدّ، لأن كل ضدَّين مختلفان وليس كلُّ مختلفين ضدَّين. وتتسع مقولة الاختلاف والخلاف لتشمل أحياناً المنازعة والجدل والجدال والمجادلة وما إلى ذلك. لكن الاختلاف يبقى سنة كونية لا مناص منها. وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم (وهو مرجع إجماع العرب قاطبة من حيث البلاغة والبديع والبيان أياً كانت معتقداتهم وانتماءاتهم) في مناسبات عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر عدداً من الآيات الكريمة للتأسيس لمقولة أن الاختلاف سنة كونية لا مفرّ منها وهي:
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات 51/8].
{فَاخْتَلَفَ الأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } [مريم 19/37].
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس 10/93].
{وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود 11/118].
وعلى هذا يمكن القول: إن الخلاف والاختلاف يراد به مطلق المغايرة في القول، أو الرأي، أو الفعل، أو الحالة، أو الهيئة، أو الموقف.
من جهة أخرى فإن كلاًّ منا يعرف تماماً بأن الله سبحانه وتعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف ألسنتهم وألوانهم وتصوراتهم وأفكارهم، وكل ذلك عادة ما يفضي إلى تعدد في الآراء والأحكام والمواقف، كما ورد في قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ} [الروم 30/22] الأمر الذي يؤكد بدوره أيضاً على دلالة لا لبس فيها، وهي أن إعمار الكون ومنه الأرض وما عليها من رطب ويابس وحيّ وجامد، لم يكن ليتم كما هو حاصل لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، ذلك أن نتائج أفعالهم وممارساتهم وصنعتهم ومحصولهم لم يكن بالإمكان أن يأتي بمثل هذا التنوع المشهود والتمايز المعروف، ولخلت الأرض وما عليها من كل أشكال التزاحم والتنافس والتعارض الذي نعيشه بكل جوارحنا على امتداد طول حياتنا وعرضها.
قال تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود 11/118 - 119].
وهكذا نجد أن الاختلاف سنة طبيعية. وإذا ما التزم الناس بآدابه وأقروا بقوانينه، كان ظاهرة اجتماعية إيجابية، لأنه سيكون في سياق التكوين والخلقة والنشأة الأولى. نعم المشكلة تبدأ فقط عندما يتحول هذا الاختلاف إلى نزاع وجدل وشقاق؛ فتذهب ريح الأفراد والجماعات والأقوام، وتفشل جهودهم ومساعيهم من أجل إعمار الأرض ومن عليها وما عليها، وتشيع الحروب والخرائب في ديارهم مما يمكن اعتباره تضادّاً مع السيرة الطبيعية للنشأة الأولى، وتهديماً متعمداً لقانون الخلقة، أو محاولة يائسة لفرض إرادة ضعاف الكائنات على سيد الكائنات الذي لا نظير له ولا قادر مثله على فعل ما يريد.
* * *
القبول بالآخر شرط لاحترام الذات
قال تعالى في كتابه الكريم: {يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} [الحجرات 49/13].
فالإسلام هنا عملياً يعترف بالآخر، ويقر له بشروط متساوية في الخلق ومنذ النشأة، دون أن يحدد هوية الآخر أو نمط تفكيره أو انتماءه. بل إنه لا يحدد معياراً للتقويم والخطأ والصواب، وحتى الحساب والكتاب والثواب والعقاب، إلا بمدى التزام الفرد والجماعة بمنهج قياسي واحد يمكن أن ينطبق على الجميع بشكل متساو، ألا وهو التقوى. بمعنى آخر بنتائج سلوكيات الإنسان وحصيلة أعماله وآثار فعله وتداعياته وانفعالاته، ومدى مواءمتها لمجموعة السنن الكونية العامة أياً كانت أصول ذلك الإنسان وجذوره أو انتماءاته ومعتقداته التي تربى عليها.
وصدق رسول الله محمد الأمين صلى الله عليه وسلم حامل كتاب الوحي، وناقل الرسالة الخاتمة إلى البشر أجمعين، عندما قال في هذا السياق أيضاً: ((الناس سواسية كأسنان المشط الواحد)).
وإنه: ((لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)).
حيث يظهر مرة أخرى كم هي مفتوحة معايير التقويم والتّصنيف للنشر على احتمالات الفعل والعمل الإنساني ونتائجه وتداعياته في كل مرحلة، وحسب الظروف، وإن القاعدة الوحيدة للتقويم تبقى هي مدى وحجم التقوى التي ترافق ذلك العمل، وإنه لا شرط مسبقاً يضع إنساناً بعينه متقدماً على إنسان آخر نتيجة لنسبه أو جذوره العرقية، ولا حتى انتماءاته أو معتقداته. وهلاَّ يُذكرنا هذا المعيار مرة أخرى بذلك التشريع الأزلي الذي يرفع الفروق والامتيازات بين الطبقات والجماعات ليس فقط من رعايا الدولة الواحدة بل ومن أبناء الإنسانية جمعاء، وإنهم يتمتعون بكافة المميزات الإنسانية بشكل واحد كما ورد في الحديث الشريف المأثور عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((كلكم لآدم وآدم من تراب)).
وكلنا يعرف كم هو مكرم ومعزز ومقدر آدم عند الله سبحانه وتعالى، وكم هو مفضل لديه حتى على الملائكة أجمعين. فإذا به يعيده إلى التراب وهو الوحدة البسيطة التي لا ميزة طبقاتية أو فئوية فيها، على الرغم من ميزته المركبة من حيث العناصر الفنية التي تحتويها من جهة ومن حيث تنوعها وعمقها من جهة أخرى.
وفي هذا السياق أيضاً لا بدَّ من الإشارة إلى تلك الرسالة القانونية الشهيرة التي أظهرت بشكل مبكر شفافية الرسالة الإسلامية المحمدية تجاه حقوق الإنسان بشكل عام ومدى احترام الدين الإسلامي للآخر بالمطلق، أيّاً كان ذلك الآخر، ألا وهي رسالة الخليفة الرابع للمسلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو ابن عم النبي والقرآن الناطق كما يطلق عليه بعض المسلمين، حيث يقول في رسالته الشهيرة إلى واليه على مصر الأمير مالك الأشتر: ((ثم اعلم يا مالك.. فإنهم (الناس) صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)).
أليس هذا من قبيل الإقرار بحقوق متساوية للجميع من ذكر وأنثى، وإلى أي دين أو مذهب انتمى. والذي هو بحكم معايير الفكر المعاصر الاعتراف بالرأي والرأي الآخر، سواء كان الآخر من الأقليات الفكرية أو العرقية، أو الدينية أمام الحاكم وأمام القانون؟! إنه احترام للذات وتكريمها وتقديرها قبل أن يكون احتراماً للآخر برأينا، فمن يكرم نفسه ويحترمها حق احترامها هو الذي يحترم الآخر ويكرمه. فلولا الاحترام والتقدير البالغ لآدم سيد البشر لما كان كل ذلك الاحترام لكل من هو من صلب آدم من بني البشر من يوم بدأت الخليقة حياتها الأولية على هذا الكوكب حتى قيام الساعة.
* * *
لقد تفاوتت المواقف من الغرب؛ فريق رأى فيه المخلّصَ، وآخر رأى فيه الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي، وفريق ثالث ذهب إلى أنه مستعمر ثقافي فحسب.
ما طبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب؟
هل هي علاقة ندّية عادلة متحضرة؛ أم هي علاقة هيمنة على الآخر واستعبادٍ له؟
إن الإسلام كان دائماً معترفاً بالآخر، مُقرّاً بالاختلاف والتعددية، لذلك تعامل مع كل الحضارات التي تفاعل معها بالتسامح والعدل.
وما تحوّل التعايش إلى إشكالية إلا بعدما حاولت بعض القوى فرض سيطرتها ونموذجها المعرفي والاقتصادي والسياسي على الآخر بالقوة والجبروت، وتحويل شعوبه إلى تابع مستلب.
هذا الكتاب يعالج قضايا عديدة تندرج ضمن محاولة تقديم فهم عميق لطبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب، والمفكران اللذان انبريا لهذا البحث من المختصين في هذه الدراسات.
فهل استطاعا أن يصلا إلى أرضية مشتركة في معرفة الذات والآخر.
تفاوتت المواقف من الغرب؛ فريق رأى فيه المخلّصَ، وآخر رأى فيه الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي، وفريق ثالث ذهب إلى أنه مستعمر ثقافي فحسب.
ما طبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب؟
أهي علاقة ندّية عادلة متحضرة؛ أم هي علاقة هيمنة على الآخر واستعباد له؟
الإسلام كان معترفاً بالآخر دائماً، مُقرّاً بالاختلاف والتعددية، لذلك تعامل مع كل الحضارات التي تفاعل معها بالتسامح والعدل.
وما تحوّل التعايش إلى إشكالية إلا بعدما حاولت بعض القوى فرض سيطرتها ونموذجها المعرفي والاقتصادي والسياسي على الآخر بالقوة والجبروت، وتحويل شعوبه إلى تابع مستلب.
الكتاب يعالج قضايا عديدة تندرج ضمن محاولة تقديم فهم عميق لطبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب، والمفكران اللذان انبريا لهذا البحث من المختصين في هذه الدراسات.
فهل استطاعا أن يصلا إلى أرضية مشتركة في معرفة الذات والآخر.
في عصر المعلوماتية أصبح من الصعب الحد من النشاط الفكري للإنسان.
فقد أصبحنا نجد الأعمال الأدبية والفكرية تتسلل إلى شبكة الإنترنيت، لتعلن عن نفسها بشكل صارخ، بعيداً عن الرقابة ومؤسساتها، إذ لا وطن للإنترنت.
لكن هل يعني ذلك أن العمل الإبداعي الفكري ليس له حدود ولا ضوابط؟
الكلمات ليست بريئة كل البراءة، وإنما تحمل دائماً فلسفة صاحبها.
فما المرجعيات التي يمكن أن تكون مصدراً للعمل الإبداعي الأدبي والفني والفكري بشكل عام؟
وكيف يمكن أن نفهم الحرية على أنها حركة ضمن مجال تتحاور فيه الذات مع الآخر؟
نحن والآخر - حوارية د. غريغوار منصور مرشو، أ. سيد محمد صادق الحسيني
يتناول هذا الكتاب حوارية بين مفكرين مختصين حول موضوع (نحن والآخر)، ويعالج قضايا عديدة تندرج ضمن محاولة تقديم فهم عميق لطبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب، ويكتب كل منهما بحثه وتعقيبه على بحث الآخر مستقلاً.
ويعرض أولاً إشكالية الآخر في أقنعته الداخلية والخارجية، ويوضح كيفية تصنيع الآخر لأسطورته من خلال البحث في أصول التمركز حول الذات، وفي خدمة العلوم الإنسانية لتصنيم التفوق العرقي، وفي إيديولوجية الاستعمار بتفكيك وإعادة هيكلة واستتباع، وفي تكريس الماركسية للمركزية الغربية، وفي تفضيل إنجلز الاستعمار للجزائر، وفي ظهور الآخر بقناع جديد بالمركزية الأممية الثالثة.
ويوضح تحكم الآخر عن بعد بوعي النخب المحلية وبدونه، من خلال البحث في المرأة، والعلمانية والحداثة وآثار التحولات الجديدة على النخب العربية.
ويعرض ثانياً للاختلاف سنة كونية وللتنوع أمراً محموداً، وللقبول بالآخر شرطاً لاحترام الذات، وثقافة الحوار والاعتراف بالآخر ليسا ترفاً فكرياً؛ فالله القادر حاور إبليس العاجز.
ويبحث في الإبداع والخصوصية والرأي الآخر وقبول ثقافته، والمصالحة بين المثقف والسياسي، ويبين أن التعددية والحركية لازمتا العقل البشري.
ويبين نقاط الوفاق والاختلاف مع الآخر الغربي، ونفي الآخر في الخطاب اللينيني، والبحث عن الحقيقة بين النسبية والكمال، وفضيلة الاستماع للآخر، ويعرض المنهج القرآني مع الآخر.
ويورد بعد تعقيب كل باحث على الآخر، تعاريف بمصطلحات الكتاب.