حوار البيروني وابن سينا
يتناول أجوبة الشيخ الرئيس عن مسائل أبي الريحان، مع ملامح وجيزة عن سيرة أبي الريحان، وما أحصاه بقلمه من تآليفه، وملامح من سيرة ابن سينا يرويها بقلمه.
يتناول أجوبة الشيخ الرئيس عن مسائل أبي الريحان، مع ملامح وجيزة عن سيرة أبي الريحان، وما أحصاه بقلمه من تآليفه، وملامح من سيرة ابن سينا يرويها بقلمه.
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين القائل: {ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة 2/269] والصلاة والسلام على سيد الأوّلين والآخرين المرسل: {شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى اللهِ بإذنهِ وسراجاً منيراً} [الأحزاب 33/46] وعلى آله وصحبه الطيَّبين، والعلماء العاملين، كواكب الدنيا والدين.
أما بعد، فإن السؤال والجواب في قضايا العلم والفلسفة والفكر من مزايا الحضارة الإنسانية الخيّرة النيّرة الفاضلة. ذلك أنه في الحوار تثار أمور فكرية، وتنار مشكلات علمية، وتتّسق المعارف، وتتقدم تقدماً وطيداً، وتتجلّى مواهب المحققين وتتألّق أنوار المبرّزين.
وقد سألتني - أيها الأخ الكريم - أن أعرض ما جرى من حوار بين عالمين فيلسوفين من أشهر علماء الإنسانية ومفكريها الأعلام، ومن أكثرهم مناقب وأعمالاً تركت آثاراً بالغة في تاريخ العلم والفلسفة. ألا وهما أبو الريحان البيروني والشيخ الرئيس ابن سينا، وكيف طرح أبو الريحان سؤالات علمية وفكرية على الشيخ الرئيس وهما في مقتبل العمر وريعان الشباب، وما أجاب به ابن سينا عنها، وأن أعرض مع ذلك ملامح عن سيرة كل من ذينك الكوكبين المنيرين في سماء الفكر الإنساني تذكرةً للناشئة بهما وتوكيداً لمزايا تلك الحضارة الإسلامية القائمة علىالتعارف والتآلف والتكانف في مختلف المجالات والميادين.
وفي هذا الكتاب ثلاثة فصول:
الأول- أجوبة الشيخ الرئيس عن مسائل أبي الريحان.
الثاني- ملامح وجيزة عن سيرة أبي الريحان وما أحصاه هو بقلمه من تآليفه في حين مناسب من حياته الواسعة.
الثالث- ملامح من سيرة حياة ابن سينا يرويها بقلمه.
ولعلّ عرض هذه الفصول يكشف بعض المدى الذي تقدمت فيه العلوم لدى الشبيبة الإسلامية، إبّان العصر الخامس الهجري، وآثار ذلك الحوار في الفلسفة والعلوم الحديثة.
الفصل الأول
أجوبة الشيخ الرئيس
عن مسائِل أبي الرّيحان البيروني
توطئة
جرت في تاريخ الفكر العربي الإسلامي الزاخر مراسلات كثيرة بين العلماء والفلاسفة، ومذاكرات أعربوا فيها عن آرائهم، وسجلوا نقاشهم وتجادلهم، وذلك على أعلى المستويات الفكرية، وتشفّ تلك المذاكرات والمراسلات عن غنى ذلك التراث، كما تشفّ عن بروز بعض المشكلات الحادة في الفلسفة والميتافيزياء والعلوم الطبيعية واللغوية وأمثالها. نذكر هنا عرضاً رسائل أبي العلاء المعري ولا سيما (رسالة الغفران) إلى ابن القارح، ورسالة عمر الخيام إلى القاضي أبي نصر عبد الرحيم النسوي تلميذ ابن سينا، وقد سأله هذا عن حكمة الخالق في خلق العالم، ورسالة ابن عربي إلى فخر الدين الرازي، ورسائل نصير الدين الطوسي، وصدر الدين القونوي تلميذ ابن عربي، وغيرها الكثير.. وذلك إلى جانب المعارضات والمساجلات الفكرية في التأليف والفلسفة، وفي أغراض الشعر المختلفة. من أهم الرسائل المتبادلة بين الفلاسفة والعلماء سلسلة السؤالات والجوابات التي جرت بين أبي الريحان البيروني والشيخ الرئيس ابن سينا، وشارك فيها تلميذ ابن سينا أبو سعيد أحمد بن علي المعصومي. ولا شك أن هذه الرسائل من قمم الفكر العربي الإسلامي العلمي، وهي أيضاً سبيل لتفهم بعض الجوانب من أفكار ذينك العالمين الفيلسوفين، ووسيلة لإيضاح المشكلات الفكرية التي تخالجهما. ومن المعروف أن ابن سينا والبيروني ألّف كلاهما جملة من الأسئلة والأجوبة، ولكنّ أهمها جميعاً ما ننشره هنا، ونقدم بين يديه بهذه التوطئة.
أشار البيروني إلى هذه المراسلة في كتابه: (الآثار الباقية)، فكتب في صدد كلامه على حرارة الأشعة: ((وقد ذكرت ذلك في موضع آخر أليق به من هذا الكتاب وخاصة فيما جرى بيني وبين الفتى الفاضل أبي علي الحسين ابن عبد الله بن سينا من المذاكرات في هذا الباب..)).
وهذه الفقرة تدلّ على أن تلك المذاكرات حصلت حين كان المفكران البارزان شابين. كان البيروني (362 هـ / 973 م - 443 هـ / 1051 م) أسنّ من ابن سينا بنحو سبع سنين، ووفاة البيروني عند أكثر المؤرخين على أنها في سنة 440 هـ. وقد ناقشنا هذا التاريخ وآثرنا عليه 443 هـ (انظر بحثنا: البيروني العالم، في أعمال مهرجان البيروني الذي جرى خلال أسبوع العلم الرابع عشر 2 - 7 تشرين الثاني 1974 م في دمشق).
أول ما نشرت هذه الرسائل في مجموعة بعنوان (جامع البدائع)، مطبعة السعادة في مصر سنة 1330 هـ / 1917 م ثم نشرها الأستاذ التركي حلمي ضيا أولكن في استانبول 1953 م ضمن مجموعة بعنوان (رسائل ابن سينا) رقم 2. ثم قام بتحقيقها ونشرها مع مقدمتين، إحداهما باللغة الفارسية، والثانية بالإنكليزية العالمان الإيرانيان المعروفان سيد حسين نصر ومهدي محقق عام 1352 هـ / 1972 م.
ونحن نعتمد الطبعات الثلاث، ولا سيما الطبعة الإيرانية لأنها أكمل، وإن اعتورها جميعاً التصحيف الذي تلافيناه ما استطعنا. تتضمن هذه الرسائل عشرة سؤالات تتعلق بكتاب أرسطو (السماء والعالم) وثمانية سؤالات أخرى طرحها أبو الريحان، وأجاب عنها جميعاً ابن سينا واحداً فواحداً. ثم اعترض البيروني على جوابات ابن سينا مناقشاً من الجوابات العشرة الأولى ثمانية، ومن الثمانية الثانية سبعة. تمس المسائل الأولى كتاب أرسطو كما ذكرنا، ولكن الرسائل تشير إلى كتب أرسطو المتعلقة بالطبيعيات، وعرفها العرب وهي كتاب (السماع الطبيعي) أو (سمع الكيان) ويليه كتاب (في السماء) وسماه العرب كتاب (السماء والعالم) إذ أضيفت إليه فصول زائدة على الأصل ثم كتاب (الكون والفساد)، وكذلك كتاب (الآثار العلوية). وقد وردت الإشارة في الأجوبة إلى كتاب (النفس) وكتاب (الحس) وكتاب (ماطا فوسيقا) أي ما وراء الطبيعة، وهي لأرسطو ولكن علاقتها بالرسائل قليلة. كذلك وردت أسماء كتب قليلة يونانية وإسلامية معروفة يصادفها القارئ.
تتناول تلك المسائل العشر الأولى القضايا الآتية:
1- نقد البيروني الأسباب التي تقدمها فلسفة أرسطو في إنكار أن يكون للفلك أو الأجرام السماوية ثقل أو خفة. ذلك أنه يمكن تصور الخفة أو الثقل لتلك الأجرام في رأي البيروني.
ثم إن أرسطو ذهب إلى أن الحركة المستديرة (الدائرية) للفلك طبيعية له، على حين أن مثل هذه الحركة في رأي البيروني قد يكون بالقسر أو الإرادة. ولكن الحركة الطبيعية للأجسام بالذات تكون مستقيمة.
وقد أجاب ابن سينا عن هذا النقد بإيراد الأدلة التي تقدمها الفلسفة الطبيعية المشائية، والتي التزمها هو تماماً في كتابه (الشفاء).
هذا ونحن نعلم اليوم أن الأجرام السماوية ذات ثقل، وأنها في مداراتها تخضع لقوى التجاذب.
وكذلك يفيد مبدأ العطالة أن الأجسام الساكنة تبقى ساكنة، ما لم تؤثر فيها قوة خارجية، وأن الأجسام المتحركة تبقى متحركة حركة مستقيمة منتظمة ما لم تؤثر فيها قوة ما، وأن الحركات المستديرة لا بدّ أن تكون حاصلة من تأثير قوة فيها أي بالإكراه ولها تسارع محسوب.
وقد جاء الفيلسوف أبو البركات هبة الله بن علي البغدادي المتوفى سنة 547 هـ بعد ابن سينا والبيروني، فأثبت أيضاً خلافاً لأرسطو أن ((الحركة المستديرة المتصلة لا تكون طبيعية. وكيف تكون وليس شيء من الأوضاع والأيون (جمع أين) التي يتحرك المستدير عنه إلا ويتحرك إليه ولا يكون ما عنه وما إليه بالطبع واحداً، إذ الأول متروك، والثاني مطلوب. فلا يهرب المتحرك بالطبع عن أمر يطلبه بالطبع. والحركات المستديرة إنما تكون إما من أسباب من خارج وإما عن قوة غير الطبع ولا محرك غير الطبع من تلقاء الشيء سوى الإرادة. والحركة المستديرة إذا لم تكن من أسباب من خارج فهي حركة إرادية)).
كتب الميكانيك مشحونة بدراسة الحركات، ومنها الحركة المستديرة فلا حاجة للشرح هنا. ولكنا نسجل سبق البيروني إلى اعتبارها حاصلة بالإكراه، أي بقوة تؤثر فيها. والحركة المستديرة ذات تسارع، ولما كان لكل ظاهرة طبيعية وحدة قياسية، فإننا نقترح أن تسمى وحدة التسارع أو التعجيل في الفيزياء باسم البيروني.
2- انتقد البيروني تعويل أرسطو المفرط على أقاويل الأقدمين والأحقاب السالفة في الفلك دون الاعتماد على ملاحظاته الخاصة. وضرب البيروني مثلاً على ذلك أن وصف الهنود وأمثالهم في الزمن الخالي لا يمكن الاعتماد عليه في القضايا الطبيعية لأن التغير أمر واقع. إن أشكال الجبال قد تغيرت والحدوث ظاهر في بعضها.
وأجاب ابن سينا بالتفاوت بين الجبال التي تتغير كوناً وفساداً والأجسام السماوية التي لا يقع ذلك فيها، واتهم البيروني أنه أخذ هذا الاعتراض إما من يحيى النحوي الذي خالف أرسطو بعد أن تنصَّر، وإما من محمد بن زكريا الرازي الذي كان ينبغي له أن يبقى طبيباً، ولا يعالج القضايا الميتافيزيائية التي ليس ضليعاً فيها. وواضح أن ابن سينا حريص على الانتصار للمعلِّم الأوّل.
3- ينتقد البيروني رأي أرسطو بأن هنالك ست جهات للمكان بتمثيله على المكعب، لأن المرء يستطيع أن يتصور أكثر من ستة مكعبات مماسة له، حتى تصير جملة المكعبات كلها مع المكعب الأصلي سبعة وعشرين مكعباً. ويرى أن تلك الجهات الست معدومة في الكرة.
ويرد ابن سينا موضحاً ما عناه أرسطو بالجهات الست، وهي التي تحاذي نهايات الأبعاد الثلاثة للجسم، وهي الطول والعرض والعمق. فللمكعب ستة وجوه، وما يحاذي الوجوه الستة ست جهات. أما الجهات الأخرى التي يتصورها البيروني فهي تلامس الحروف لا الوجوه، ويطبق ذلك على الكرة أيضاً.
4- هاجم البيروني أرسطو في استشناعه القائلين بالجزء الذي لا يتجزأ، ودافع عن المتكلمين المسلمين الذين يثبتونه. وهو يعترف بوجود مصاعب في هذه النظرية، ولكنه يرى أن رأي المشائين الذين يوافقون أرسطو أشنع وأحق بالنقد.
ويجيب ابن سينا أن أرسطو إنما اعتبر المادة قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية بالقوة لا بالفعل. وبذلك يكون المثل الذي أورده البيروني عن عدم الاحتمال الظاهري لجسم متحرك أن يدرك جسماً آخر، بسبب وجود عدد لا متناه من النقاط، عليه أن يجتازها غير صالح في مشكلة كهذه.
إن هذه القضية هي اتصال المادة وانفصالها وهي ذات تاريخ فلسفي وعلمي طويل. والمثل الذي ضربه البيروني يذكِّر إغراب زينون الأيلي تلميذ بارمنيدس حين أبان الخلف المنطقي في فكرة الحركة والحركة متصلة. يمثل زينون آخيل ذا القدمين الخفيفتين يلحق بسلحفاة. فلو كان الطريق متصلاً لوجب أن يشتمل على ما لا نهاية له من النقاط. ولنفرض أن آخيل يقطع دائماً نصف المسافة الفاصلة بينه وبين السلحفاة، وعندئذ كلما وصل إلى النقطة التي كانت بها السلحفاة لزم أن تكون السلحفاة قد قطعت مسافة ما. وهكذا لا يمكن له منطقياً أن يلحق بها، مع أن الواقع بلوغه مكانها. فيا لواقع لا ينسجم مع المنطق.
والذين يريدون أن يطالعوا فكرة الجزء الذي لا يتجزأ في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يسعهم أن يرجعوا خاصة إلى كتاب (مذهب الذرة عند المسلمين) لمؤلفه بينيس نقله إلى العربية محمد عبد الهادي أبو ريدة.
وقد بقيت مشكلة انفصال المادة أو اتصالها تشغل أفكار كثير من المفكرين في العصور الحديثة. يقص مثلاً الفيلسوف الإنكليزي رسل في كتابه (العقل والمادة) عند لقائه الفيلسوف اليوغسلافي برانسلاف بترونيفك كيف كان متشوقاً أن يعرف منه قصة انسحاب الصرب أمام الغزاة الألمان، ولم يرد برانسلاف إلا أن يبسط رأيه في أن عدد النقاط في المكان محدود.
هذا وقد لخص أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي هذه المشكلة في كتابه (مفاتيح العلوم) تلخيصاً جيداً أتى منه على رأي المتكلمين وعلى رأي الفلاسفة، فقال: ((عند المعتزلة المتكلمين أن الأجسام مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ، أو هي الجواهر عندهم، والخط عندهم المجتمع من الجواهر طولاً فقط، والسطح ما اجتمع من الجواهر طولاً وعرضاً فقط، والجسم عندهم المجتمع من الجواهر طولاً وعرضاً وعمقاً)).
أما التجزؤ عند الفلاسفة فهو ((ضربان: ضرب تعليمي أي وهمي ولا نهاية له، لأنه يمكن أن يتوهم أصغر من كل صغير يتوهم، وضرب طبيعي أي مادي وله نهاية. لأن المتجزئ من الأجسام يتناهى بالفعل إلى صغير هو أصغر شيء في الطبع، وهو ما لطف عن إدراك الحس إياه)).
كان العلماء قبل كشف بنية الذرة يعتبرون عدد العناصر التي في الطبيعة 92 عنصراً، حسب التصنيف الدوري، أو تصنيف مندلييف، ويعتبرون الذرة في كل عنصر أصغر جزء منه، وأن هذه الذرة لا تتجزأ، ثم كشفوا في الذرة الكهرب (إلكترون)، والأويل (بروتون)، والأويِّم (نيوترون)، فحسبوا أنهم أحاطوا بأجزاء المادة القصوى. ثم كشفوا جسيمات دقيقة أخرى متعددة كالميزون والباريون والهادرون، ولكن قلة ثبوت بعضها جعلهم يتجافون عن كل اعتبار تقريري حاسم في هذا الموضوع.
إنّ السؤال والجواب في قضايا العلم والفلسفة والفكر من مزايا الحضارة الإنسانية، لأنّه بهما تثار المشكلات العلمية وتنجلي المعارف وتتوقد الأذهان، وتتجلى المواهب.. فكيف إذا كان الحوار بين فيلسوفين كبيرين من فلاسفة الإنسانية: البيروني وابن سينا؟!
كان الرجلان في مقتبل العلم حينما تحاورا في هذه المسائل القيّمة الدقيقة التي يتضمنها مجمل هذا الكتاب الفريد، بعناية أستاذ جليل متخصص، قدّم فيه صورة رائعة لذلك الحوار تقديماً علمياً محققاً.
يتناول هذا الكتاب حواراً قيماً بين عالمين فيلسوفين، أبي الريحان البيروني والشيخ الرئيس ابن سينا، وهما من أشهر علماء الإنسانية، ومن أكثرهم مناقب وأعمالاً، لها أثرهما في تاريخ العلم والفلسفة؛ ويعرض من خلال هذا الحوار سلسلة السؤالات التي طرحها البيروني على الشيخ الرئيس، وإجابات الشيخ الرئيس عليها، ويتحدث بشكل وجيز عن سيرة أبي الريحان ومؤلفاته وكتبه وإنجازاته العلمية، ثم ينتقل إلى سيرة الشيخ الرئيس ابن سينا كما رواها هو بنفسه، ويعرض لأثر ذلك الحوار في الفلسفة والعلم والفكر، إذ تثار فيه أمور فكرية، ومشكلات علمية، وتتسق المعارف فيه وتتقدم تقدماً وطيداً.