الإدارة الرشيدة
يسلط الضوء على المسألة الإدارية، ويدعو إلى تكوين إدارة رشيدة قوية في المجتمع العربي الإسلامي
يسلط الضوء على المسألة الإدارية، ويدعو إلى تكوين إدارة رشيدة قوية في المجتمع العربي الإسلامي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، سيد الخلق والأنام والكون والكائنات والأنبياء والمرسلين.
وبعد:
فهل نحن بحاجة إلى إدارة رشيدة، كما جاء في عنوان الكتاب؟ ولماذا؟ وما مرجعنا في تحقيقها؟
تتلخص الإجابة على مثل هذه التساؤلات، في عدة اتجاهات:
أ- بإيراد المبررات العامة المتصلة بالإدارة ذاتها.
ب- وبعرض لظروف الواقع الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية.
جـ- ومن ثم تقصي المنبع الغني الذي يوصلنا إليها.
أولاً - الأسباب العامة المتصلة بالإدارة
ونجملها في الآتي:
1- لأن دور الإدارة هام وخطير، وهذا ما نستنتجه من ملخص هذا الدور، وهو: استخدام الإمكانات والموارد المتنوعة المتاحة لنا؛ لتحقيق مختلف الأهداف والواجبات والمشروعات المنبثقة عنها؛ على أحسن وجه.. فهي أداة مهمتها (الوصل والوساطة) بين الأهداف من جهة، والإمكانات من جهة... وبالتالي يتوقف على رشدها ومستواها، مدى تحقيق الأهداف بالاستفادة من الإمكانات المتاحة أو إهمالها... فبمقدار ما تكون مؤهلة للقيام بهذا الدور، يكون المردود جيداً، والعكس صحيح.
2- ولأن الإدارة وليدة اجتماعية الإنسان.. هذا الإنسان الاجتماعي بطبعه، الذي لا يمكن أن يعيش منفرداً أو منعزلاً عن أخيه الإنسان، وينتمي دوماً إلى تجمّعات وتنظيمات مختلفة الأهداف والحجوم والأشكال والتسميات... بدءاً من الأسرة، (فبقاء الجنس مشروط بالزواج، بتكوين الأسرة)، وصعوداً إلى التجمعات والتنظيمات المحلية والوطنية والقومية والإقليمية والدولية.
3- وبالطبع فإن لدى كل من هذه التجمعات والتنظيمات، لدى الأسرة وهيئة الأمم المتحدة على حد سواء، أهدافها من جهة، وإمكانات وموارد بقدر ما، من جهة ثانية... الأمر الذي يجعل الإدارة (الوسيط) نشاطاً حتمياً وضرورياً لها جميعها، بحيث تشكل (قاسماً مشتركاً) موجوداً في أي منها، مهما كان كبيراً أم صغيراً، ونطاق نشاطه الجغرافي، محلياً أم قومياً أم دولياً، ومهما كانت نوعية أهدافه نبيلة أو شريرة (فلدى عصابة الإجرام إدارة، وتسعى لأن تكون على قدر من الكفاية كي لا تخفق).. لتساعده في تحقيق أهدافه، في حال كفايتها، والعكس صحيح أيضاً.
4- وما دامت الإدارة حتمية وضرورية، وما دام وجودها مفروضاً في كل التجمعات والتنظيمات البشرية.. فهي اختصاص الجميع ومهنة كل من يعمل فيها... أي اختصاصنا ومهنتنا جميعاً.. وهي حالة تفرض علينا كلنا دون استثناء، تعلّمَها وتعرُّف قواعدها وفنونها ووظائفها وأساليبها وأدواتها... على التوازي مع العلم والفن الذي يتطلبه اختصاصنا ومهنتنا الأساس، مهما كان مجال النشاط الذي نضطلع به.. ففي المستشفى والمزرعة والمدرسة وشركة النقل أو الصناعة أو التجارة وفي المؤسسة الوطنية أو القومية أو الدولية وغيرها.. يوجد إداريون ورؤساء بتسميات مختلفة... وكل منهم يجمع في شخصه اختصاصين:
أ- أولهما الإدارة كعنصر مشترك في جميعها..
ب- وثانيهما الاختصاص الفني حسب نوعية نشاطه.. مما يوجب عليهم كلهم لينجحوا في أعمالهم، أن يتعلموا الإدارة ويتدربوا عليها باستمرار، إلى جانب تعلّمهم وتدربهم المستمر على ما يتصل باختصاصهم الفني، وبذلك تكون تصرفاتهم سويّة كالشخص السويّ يمشي معتمداً على رجلين اثنتين، لأن تصرفاتهم تستند بشكل متكامل على علمين ضروريين لنشاطهم.
5- لذا، نذهب إلى القول: (فتشْ عن الإدارة)، وندهش حين يتجاهلها الكثيرون ويعتقدون ألاَّ علاقة لهم بها!.. فهي موجودة في كل تجمع بشري، وهي وراء نجاحه، أو إخفاقه.
6- هذا، وإن الإدارة مهنة محلية، تتطلب عناصر (أطراً) محلية لممارستها وفق الظروف والخصوصيات المحلية، التي لا ينفع فيها الأجنبي الغريب عن البيئة والعادات والعقلية المحلية.. فقد يفيد الغريب في الأمور الهندسية والفنية للتعامل مع الأدوات والآلات، ولكنه لا يصلح في الأمور الاجتماعية والاقتصادية التي تغلب عليها الظروف الخاصة بالمجتمع، المتصلة بالإنسان ومستواه العلمي وتراثه وتقاليده، وبالقوانين والأعراف السائدة، المسيطرة على علاقات البشر وصلاتهم.... التي لا يفهمها بعمق، ويستطيع التصرف من خلالها بنجاح إلا أبناء المجتمع المؤهلون... وهم الإداريون المحلّيون، الذين يجب الإسراع والتوسع في تكوينهم، لنكون على قدر جيد في تدبير شؤوننا والوصول إلى أهدافنا بيسر ورشد.
7- كما تُعد كفاية الإدارة ورشدها (وليس الثروة)، معيار التمييز بين الدول والمجتمعات.. وتصنيفها بين متقدمة متطورة، ومتخلفة نامية، فكثير من الدول الغنية في ثرواتها مصنفة في عداد المتخلفة، وغيرها فقيرة في مواردها مصنفة بين المتقدمة، والشواهد كثيرة بين أقطار الوطن العربي والعالم الإسلامي وغيرهما، ولسنا بحاجة للتسمية.
8- بل إن الدول المتقدمة تتسابق فيما بينها لرفع كفاية الإدارة، بهدف الإبقاء على تقدمها وسيطرتها الاقتصادية والسياسية، ولتستمر في تحقيق مصالحها ومكاسبها، المشروعة وغير المشروعة، في خضم العلاقات الدولية الشرسة ومتغيراتها المتلاحقة، وهذا يؤيد القول المأثور: ((لا أخاف على الأمة من الفقر، وإنما من سوء التدبير))، ويفرض العمل بمقتضاه، بأن نتدبر ثرواتنا بإدارة رشيدة.
9- فجدير بالدول المتخلفة أو النامية، ونحن منها، أن تسعى جاهدة وأولاً للسير على طريق التنمية الإدارية، لتثبيت أقدامها في هذا الخضم، وتحقيق تطورها في أقصر وقت، ولتستطيع المحافظة على مصالحها من الاستغلال، وتعزيز استقلالها السياسي باستقلال اقتصادي واجتماعي، يكون من شأنه تخليصها من نير التبعية للدول الأخرى، التي لن تتنازل عن مواقعها ومكاسبها بسهولة وطيب خاطر، خاصة وأنها ورثت مع الاستقلال السياسي، منتصف القرن العشرين، إدارة وجهازاً إدارياً غير مؤهلين لقيادة مسيرة التنمية الشاملة والتخطيط لها ومتابعتها بكفاية.
10- ونسبية الأمور في عالم الإدارة، التي لا تقبل التقليد والاستنساخ الحرفي، وتتطلب التحليل الشامل المتكامل في مواجهة أي موقف... كما تتطلب كفاية ورشداً في شخصية الإداري... تجعل منه (فناناً) في تطبيق علم الإدارة ومبادئه وقواعده مع تقديره للظروف المحيطة بكل موقف من زاوية.. وفي علاقاته مع الآخرين من رؤساء ومرؤوسين، وزملاء ومتعاملين، من زاوية ثانية.
11- وانطلاقاً من أهمية دور الإدارة وخطورته، فإن نتائج (الفن) في تطبيق علمها من قبل الإداريين، أهم منه في بقية الاختصاصات والمهن وأخطر، وخاصة من المستويات العليا في قيادة الدولة أو المؤسسات العامة والخاصة والمشتركة، إذ يحيط بأثره الإيجابي أو السلبي بالمستويات كافة، فالقرار الصادر عن مستوى عال في الحكومة أو المؤسسة الكبيرة، هو ملزم للجميع أو على نطاق واسع، ولا يمكن تفاديه من قبل المواطنين أو المستويات الأدنى، وما عليهم إلا الإذعان! وبالتالي يكون أثره مفيداً إذا كان سليماً، وخطيراً جداً في حال العكس.. ولن يصبح الإداري (فناناً) إذا لم نعط الإدارة حقها من الأهمية ونعترف بها كاختصاص للجميع ومهنة ملازمة لكل المهن مهما كان نطاق نشاطها، وإذا لم نكسب الإداري المهارة بالتعلم والممارسة والتدريب المستمر.
12- ومن هذه الزاوية، من أهمية فن الممارسة الإدارية وخطورة نتائجه، يحتل موضوع اختيار الرؤساء والإداريين، لإشغال المناصب والوظائف العليا، أي تطبيق مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب أهمية متميزة... مما يجعلنا نحذر بشدة من خطر إهماله، ونصرّ على وجوب توفير شروط إعماله، التي تؤمن الظروف الموضوعية لملء المناصب والوظائف الشاغرة بعناصر ذات كفاية، وتبعدنا عن النظرة الشخصية التي تقتصر على انتقاء المعارف، ومعارف المعارف، والمحاسيب والأزلام، بل إن ما يخالف هذا المبدأ قد استعمل للتخريب في علاقات المنافسة بين الدول خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
13- حتى إن الكوارث والحالات الطارئة والظروف القاهرة، التي تسببها الطبيعة في الأرض والبحر والجو، أو التي تكون من صنع البشر، أو لأسباب فنية وصحية، أو لدواعي اجتماعية، واقتصادية، وعسكرية، وفي العلاقات الخارجية المقصودة وغير المقصودة، وغيرها.. تتطلب الاستعداد المسبق لمواجهتها أو التقليل من آثارها السلبية. لأنها غالباً ما تكون غير منتظرة ومفاجئة، في أي وقت، وفي أي موقع ومكان. وتأخذ الناس كلهم بغتة دون مقدمات أو إنذار! ويتطلب مثل هذا الاستعداد المسبق بدوره (إدارة رشيدة) في كل المستويات والقطاعات، في الأسرة والدولة، وما بينهما من تنظيمات وتجمعات، قادرة على اتخاذ تدابير وإجراءات تنظيمية ووقائية مسبقة، ومتنوعة بمقدار تنوع الطوارئ المحتملة، مما يساعد على استمرار الأنشطة المختلفة خلال الطوارئ بوتيرة مناسبة.
14- وتزداد المسألة حدة وجسامة وإلحاحاً، حين نتعرف مفهوم التنمية الإدارية، وهي العمليات الإدارية التي تستهدف تطوير الإدارة ورفع كفايتها، لتكون رشيدة في تحقيق أهدافها بنجاح، باستثمار الإمكانات المتوفرة لها على أحسن وجه، وتتركز محاورها على ثلاثة اتجاهات:
أ- العناية بالمرتكزات الأساسية للإدارة؛ الإنسان أو العنصر البشري، والهيكل التنظيمي والملاكات، والقوانين والأنظمة؛ والأدوات، وتطويرها باستمرار.
ب- رفع مستوى أداء الوظائف العامة للإدارة: كالتنظيم والتنسيق، والتخطيط، واتخاذ القرارات، والتحفيز، والتدريب، والإحصاء، والمتابعة... من حيث تأهيل العاملين لممارستها ابتداءً وباستمرار، أو من حيث توفير الهياكل التنظيمية والأساليب الحديثة والأدوات المادية اللازمة لها.
جـ- رفع مستوى المهام الإدارية التقليدية، التي تختلط مع أنشطة التجمعات البشرية كافة: كالدراسات والأبحاث، والشؤون القانونية، والديوانية، والشخصية، والبريد، والحفظ والأرشفة، من حيث تدريب العاملين على ممارستها ابتداءً وباستمرار، أو من حيث تأمين الأساليب الحديثة والأدوات المادية اللازمة لها.
ولاشك في أنها محاور هامة واتجاهات متشعبة، وعميقة في آثارها الإيجابية الآنية والمستقبلية، ولا مجال للتوسع في الحديث عنها في هذا المدخل. ويكفي لتوكيد أولوية التنمية الإدارية، أنها تشمل العناية بالإنسان، الذي يجب الاهتمام به: مادياً، وتعليمياً، ومعنوياً، وسلوكياً. ونعتقد أن الرقي بالإنسان أو التنمية البشرية، تعد أحد أهم متطلبات أمتنا العربية والإسلامية في هذه المرحلة من تاريخ البشرية، لنتمكن من تقليص الفجوة التي تفصلنا عن الدول المتطورة واللحاق بركب الحضارة المعاصرة.
كما يكفي أنها تشمل الاهتمام بالأدوات الإدارية، التي تشهد في تطورها ثورة متسارعة بمتوالية هندسية تساهم في تأمين فورية الاتصالات وجمع المعلومات وترتيبها وتبادلها، وفي توفير الجهد والوقت البشري، والتي تبهرنا فقط، ومازلنا نتباطأ في دخولها عالمها! وبالتالي فهي تساهم في توسيع الفجوة مع تلك الدول وتؤخر مسيرتنا وركوبنا قطار المدنية والحضارة!.. مع أن المطلوب هو العكس، مما يحتم علينا، في الوطن العربي والإسلامي، أن نسعى لتجاوز مرحلة الدهشة والانبهار، والتمكن منها واستقدامها للاستعمال على أوسع مدى، فحاجتنا إليها، كحاجتنا إلى الماء، فهي تتداخل مع كل نشاط بشري مهما كان نوعه، كما يدخل الماء في كل عضو من جسم الإنسان.
على أننا نؤكد أخيراً على ضرورة السير في اتجاهاتها الثلاثة معاً بشكل متكامل ومتوازن، دون تركيز على محور وإغفال آخر، فيعيق هذا ذاك.
15- ويصح ما تحدثنا عنه، عن حتمية الإدارة وأهمية دورها وخطورته، في كل التجمعات والتنظيمات البشرية، على اختلاف أهدافها ومستوياتها وقطاعاتها، وملكيتها العامة أو الخاصة أو التعاونية أو المشتركة، وأشكالها القانونية ومواقعها.
ثانياً - الواقع الإداري الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية
1- يحز في النفس أن الإدارة، وبرغم كل ما تقدم وغيره، ما تزال تشكو نقطتي ضعف:
أ- الجهل والظلم: فغالبية ممارسيها، لم يتعلموها ولم يتحضّروا مسبقاً لذلك، فهي مظلومة بين أيديهم! لأن المرء عدو ما يجهل، {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 10/39]، وترافق أداءه الأخطاء مهما توفر لديه من إخلاص وحُسن نية، ونتساءل: هل هناك مهنة أو اختصاص آخر، علمي أو حرفي، يمارس دون سابق تعليم أو تدريب؟ فلماذا نستثني الإدارة، على أهميتها وخطورتها، ونظلمها؟
ب- حيْرتها بين المتعلمين والممارسين، بين النظرية والتطبيق، فالمتعلمون يتحدثون دون معاناة بلغة تجريدية غير واقعية وغير واضحة لجماهير الممارسين، لأنها غالباً ما تكون مغرقة في التنظير، أو منقولة حرفياً، أو مستوردة دون تدقيق وتكييف مع الواقع والبيئة! والممارسون بعيدون عن علم الإدارة، لكونهم لم يؤهلوا له قبل العمل أو خلاله، ولا يكلفون أنفسهم مشقة تعلّمه لاعتقادهم بإمكانية اكتسابه مع الزمن وبالتجربة فقط.
فنحن بأمس الحاجة:
* إلى أن نعيد لعلم الإدارة (اعتباره)، الذي كان له، عندما كنا مهد الحضارات، وكنا نغني علم الإدارة بأفكارنا وإجراءاتنا العربية الإسلامية لدى تأسيس الدولة وتنظيم مرافقها.
* وأن نتمكن من علم الإدارة ومن فنونه وتراثه ونظرياته وأساليبه وأدواته، لما فيه من مصالح لنا فردياً ووطنياً وقومياً وفي علاقاتنا واتصالاتنا الدولية.. مع إزالة (الحيرة)، والتقريب بين المتعلمين والممارسين، وإيجاد فئة واسعة من العارفين بالإدارة، علماً وممارسة وتجربة.
* وأن نكون بالتالي، لأنفسنا، لأمتنا العربية والإسلامية، عقيدة أو نظرية إدارية رشيدة ملائمة ومتطورة. تستمد جذورها وتستقي أساساً من تراثنا وتاريخنا، وتساير دون تقليد، ما جرى ويجري في العالم، وتبقى محافظة، على انطلاقها وملاءمتها لأوضاعنا وخصوصياتنا في الماضي والحاضر مع تطلعاتنا المستقبلية.
2- ومما يلفت النظر، أنه وبرغم ضرورة السير في الاتجاهات الثلاثة للتنمية الإدارية بشكل متكامل ومتوازن، أن الدول النامية، ونحن منها، تركز على بعض المحاور وتغفل بعضها! مما يجعل الخطط الطموحة التي تضعها لا تحقق أهدافها!.. كالتركيز على وظيفتي التخطيط والرقابة دون باقي الوظائف والمرتكزات، مما يثير تساؤلات كمثل: هل ينفذ عاملٌ غير مؤهل خطةً؟ وما هو نفع مراقبة عامل جاهل؟ وهل ينصرف من يشكو سوء معيشته وضعف حوافزه المادية إلى القيام بواجباته بهمة عالية وولاء؟ ولو شبع العامل وكانت القوانين والأنظمة واضحة وصريحة، ألا نحد من مظاهر الفساد إلى حد كبير؟ وكيف ترسم خطط واقعية وتتخذ قرارات سليمة إذا لم تتوفر المعلومات الصحيحة (والطازجة) والمبوبة؟ وأنّى لنا هذه المعلومات إذا بقيت أدواتنا الإدارية مختلفة؟ ولن نستطرد في التساؤلات، فهي كثيرة.. بل نؤكد على أن التنمية الإدارية مترابطة ومتكاملة في محاورها الثلاثة، وأن أي تقصير أو إهمال لأحد جوانبها ستكون نتيجته سلبية على أنشطة الإدارة كافة.
3- وتواجه الدول النامية، ونحن منها، مسألة التوفيق: بين أهدافها وطموحاتها العريضة والمشروعة التي تتجاوز بها مرحلة التخلف، لتلحق بركب المدنية والحضارة بوتيرة متسارعة من جهة؛ وبين إمكاناتها ومواردها المحدودة، التي لا يمكن أن تعادل مهما عظمت في مرحلة ما، تلك الأهداف والطموحات من جهة ثانية، مما يؤكد على حتمية ترشيد الإدارة أولاً، (أداة الربط الوسيطة بين الأهداف والإمكانات كما سبق القول)، للوصول إلى حل واقعي لهذه المعادلة: أهداف وطموحات واسعة، مقابل موارد محدودة! ونتمكن من تطبيق مبدأ الاعتماد على الذات كلما أمكن، باستثمار أمثل للموارد المتاحة لها دون أي هدر أو تبذير فيها، ودون إضاعة وقت، وبرغم هذا نجد أن التخطيط للتنمية الإدارية يُغفل أو يتأخر عن خطط التنمية الشاملة.
4- وفي ظروفنا الخاصة في الوطن العربي والإسلامي، ومع زرع الكيان الصهيوني، ولضرورة مواجهته والحد من خطره، في المجالات المختلفة العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، والثقافية والاجتماعية و(التطبيعية).. فإن هذه المعادلة تزداد حدّة وحساسية، وتتطلب توجيه قسم كبير نسبياً من الإمكانات (المحدودة أصلاً)، نحو هذا الغرض... وتقتضي بالتالي، الدقة في استخدام الإمكانات وتوزيعها بشكل متوازن بين الأهداف التنموية والعسكرية، مما يوجب التركيز على ترشيد الإدارة (الوسيطة) بتنمية إدارية مستعجلة، تمهد للتنمية الشاملة.. لتؤمن لها قيادة وإدارات فاعلة تنفذ خططها الطموحة وبرامجها وتدير وتستثمر مشاريعها بفعالية.. وإلا، فإن أية استراتيجيات وأهداف وخطط ومشاريع لن يكتب لها النجاح ولن تؤتي أُكلها، كما نقدر ونتوقع حين وضعها، مع خسارتنا للزمن، وفي هذا مصلحة للعدو!
5- و(الخصخصة) التي كثر دعاتها في هذه المرحلة، تتطلب أيضاً توفر الكفاءة في الإدارة العليا، التي يقع على عاتقها توزيع الأدوار بين القطاعات انطلاقاً من واقع مجتمعها، ومن تحليل الظروف الداخلية والخارجية، ومن واقع كل قطاع وإمكاناته ودوافعه، بما يجعل أنشطتها متكاملة، وتصب معاً في بوتقة التنمية الشاملة، وبما يكفل مصلحة كل فئات الشعب وتمتعها بنتائج التطور، ويحول دون استئثار فئة قليلة بها.!. ضمن صيغة إدارية تنظيمية: تُحسن توزيع الأدوار بين القطاعات (كما يفعل المخرج بالنسبة للممثلين)، وترسم الحدود ومجالات التداخل بينها؛ وتؤهلها وتوجهها نحو الأنشطة المفيدة وتساعدها، وتوفر فرصاً متكافئة للكل، ليكون التنافس الشريف بينها متجهاً نحو المصلحة العامة من خلال مصالحها المباشرة.
6- ويزداد تعمّق المسألة الإدارية في الوطن العربي والإسلامي، مع ما يثار حول العولمة أو النظام العالمي الجديد وغيرها من التعابير والمصطلحات، مما طفا على السطح في الحقبة الأخيرة، ومع انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالقوة العظمى في العالم، وبالتالي سعيها والدول الرأسمالية إلى الترويج لنظام السوق، وإلى فرض سيطرتها الاقتصادية والثقافية على دول العالم، وخاصة النامية، للاستمرار في استغلال ضعفها واستنفاد خيراتها، تحت شعارات مختلفة: كإلغاء الحواجز والرسوم الجمركية والثقافية، وحرية تبادل السلع والخدمات وانتقال رؤوس الأموال والأشخاص، ضمن قيود واشتراطات تضمن مصالحها أولاً، على حساب الدول الأخرى.
7- تضاف إلى هذا، الحرب المعلنة، تحت تسميات وادعاءات ومبررات متنوعة، ضدنا كأمة عربية وضد الدين الإسلامي، واللجوء إلى أساليب مباشرة وغير مباشرة لتحقيق أهدافهم ومصالحهم الشريرة على حسابنا، بحيث أصبح صراعنا مع الكيان الصهيوني ومن وراءه من دول ومنظمات صراعاً حضارياً ذا طابع ديني وصراع وجود وبقاء. مما يتطلب قيادات وإدارة رشيدة على جانب كبير من اليقظة والكفاءة للوقوف بشرف ونجاح أمام نوايا أعداء أمتنا العربية والإسلامية، ما خفي منها وما ظهر، وللمحافظة على هويتنا العربية والإسلامية وحقوقنا وحماية مصالحنا وبناء كياننا العتيد، لنعيد لأمتنا مجدها التليد ومشاركتها الباهرة في مسيرة الحضارة البشرية.
8- ونتساءل: ألا تشكل مثل هذه الأوضاع جرس إنذار يقتضي منا الاستنفار واليقظة، والاستعداد الحذر، والتكّيف الواقعي، لمعرفة ما يجري حولنا في العالم، وما هو قادم إلينا في وقت قريب أو بعيد، ولمواجهته بوعي وجدية، إذ لا مجال للتغاضي عنه أو التهرب من ملاقاته، فالكرة الأرضية أضحت قرية صغيرة ألغيت فيها الحدود! ونستطرد في التساؤل، ألا تتطلب مثل هذه التحديات قدرة وكفاءة فائقتين، فيمن يأخذ على عاتقه مهمة:
أ- تعرّف الأحداث العالمية ومدلولاتها والتطورات في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
ب- واتخاذ التدابير المعاكسة من خلال علاقات متوازنة مع دول العالم، وإجراء الاتصالات الخارجية والمفاوضات اللازمة، ومراقبة المتغيرات المتلاحقة باستمرار.
جـ - والتكّيف وترتيب البيت الداخلي والاستعداد والمتابعة الدائمة، لكيلا نؤخذ على غفلة، أليست هذه مهام جسيمة بمضامينها، وخطيرة في نتائجها، وترقى إلى مصاف المهمات الوطنية والقومية؟ أليس هذا دور الإدارة العليا؟ الذي يفرض رفع مستواها لتكون رشيدة؟
ثالثاً - أين نجد المرجع الوافي للإدارة الرشيدة:
لعلنا نخلص مما تقدم، بعد استعراض موجز للمبررات العامة المتصلة بأهمية دور الإدارة وخطورته، ولظروف الواقع الإداري الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية، إلى أننا بحاجة ماسة إلى تكوين (إدارة رشيدة) في أقطارنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية.
ويتوجب علينا الرجوع إلى دستور الدين الإسلامي (القرآن الكريم)، بغية معرفة الأساس العقائدي والفكري الذي يوصلنا بسلامة ووضوح إلى تحقيق هذا الهدف، امتثالاً لأمر الله جل وعلا، في عدد من الآيات الكريمة: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 4/82]، {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبابِ} [ص: 38/29]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [محمد: 47/24]، وتقصي أحكام القرآن الكريم الشاملة {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 6/38]، {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ فِي هَذا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: 17/89]، {ما لِهَذا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} [الكهف: 18/49]، {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هَذا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 39/27]، والتفكير فيها وفهم معانيها ودلالاتها، والسعي لتطبيقها في كل مناحي الحياة والنشاط البشري، بما في ذلك المجال الإداري، ذلك أن أحكام القرآن الكريم عامة تضع المبادئ والنظم الأساسية في العبادات والمعاملات، وقد تضمنت نصوصاً كثيرة تتصل بالإدارة، التي شكلت أحد النظم الفرعية في إطار النظام الإسلامي الشامل، حيث نجد أسس الإدارة ومنطلقاتها في مواضيع عديدة من الكتاب العزيز.
وفي سعينا هذا، وباعتمادنا على الآيات الكريمة في الكتاب المنزل، نكون قد اتبعنا الأسلوب الصحيح وابتعدنا عن الضلال، كما أكد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله))، أخرجه مالك في الموطأ.
وسيجد القارئ العزيز في فصول الكتاب أمثلة غزيرة، تدلل بالتفصيل على المدى الواسع الذي تحيط به آيات القرآن الكريم من مبادئ الإدارة الرشيدة وجوانبها الهامة(1)، على أننا سنكتفي في هذا المدخل، بثبت قبس من الآيات الكريمة(2) التي تكرس الإدارة.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ} [البقرة: 2/25] (اقتران الإيمان بالعمل الصالح).
{يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ....} [البقرة: 2/282]، (آية جامعة.. التوثيق، الشهادة، الاستقامة، الرشد، العلم، تحمل المسؤولية، المرونة ونسبية الأمور، كما هي في علم الإدارة).
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ..} [البقرة: 2/286].
{وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ..} [آل عمران: 3/159].
{وَابْتَلُوا الْيَتامَى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ..} [النساء: 4/6].
{يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.} [النساء: 4/59].
{يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء: 4/71]. {خُذُوا حِذْرَكُمْ} (ما فيه الحذر من سلاح وغيره) {فانفروا ثباتٍ} (اخرجوا للجهاد جماعةً في إثر جماعة، حسبما يقتضي نظام الحرب).
{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ.} [الأنعام: 6/132].
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ..} [الأنفال: 8/60]. وهي آية شاملة، تحيط بجوهر دور الإدارة.. فكلمة {أعدُّوا} إذا أخذت على إطلاقها، تخاطب الكل، جماعات وأفراداً، الأمة والمواطنين، وجميع مستويات الهرم الإداري: العليا والمتوسطة والقاعدية، وقطاعات المجتمع المختلفة: العام والخاص، والتعاوني والمشترك والفردي... وجملة {ما اسْتَطَعْتُمْ} تؤكد ضرورة حسن استخدام ما يتوفر لدى الجماعة أو الإدارة من إمكانات، قلّت أو كثرت، لتحقيق هدف الاستعداد التام. كما يجب أن تؤخذ كلمة {قُوَّةٍ} على إطلاقها، لشمولها التأهل والتدرب والتأهب والاستعداد في كل المجالات العقائدية والثقافية والعلمية والعسكرية، وبحسب الظروف المكانية والزمانية، وكذلك {رِباطِ الْخَيْلِ} فالأسلحة وأدوات القتال وأساليبه في تطور مستمر بحسب التقدم في مجال العلوم والتقانة والحضارة البشرية عموماً... وفي الوقت نفسه فإنها تحدد الهدف من الاستعداد والتأهل والتدرب، وتشير إلى ضرورة الجاهزية لمواجهة الحالات الطارئة والمستجدة التي ليست معروفة في فترة معينة.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..} [التوبة: 9/105] (تؤكد على أن العمل فريضة).
{..وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.} [يوسف: 12/76] وتوحي بعدم التوقف عن التعلّم، فالتعلم والتدرب مستمران مدى الحياة طالما تمكّن المرء من ذلك.. وهذا ما توجهنا إليه الآية {..وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.} [طه: 20/114] (التي تدل على طلب العلم فرض، وعدم التوقف عن التعلّم.. كما أنها توحي بالتواضع وعدم الغرور، إذ لا نهاية أو حدود للعلم).
{.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ..} [الرعد: 13/11].
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.} [طه: 20/29-32] (حيث أُعطي مصطلح (وزير) مدلولاً عميقاً بكلمات موجزة: المعاونة، والدعم، والمشاركة في تصريف الأمور).
{..وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.} [طه: 20/114] (تؤكد على أن العلم فريضة، كما أن أول كلمت أٌنزلت من القرآن الكريم هي {اقْرَأْ} [العلق: 96/1]).
{..وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ..} [الشورى: 42/38].
{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ..} [الأحقاف: 46/19].
{..يَرْفعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ..} [المجادلة: 58/11] (اقتران التعلّم بالإيمان).
{إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ..} [العصر: 103/2-3] (اقتران الإيمان بالعمل الصالح).
وأخيراً
فقد اخترنا لهذا الكتاب موضوعات وأبحاثاً تتصل بجوانب متعددة(1) عن الإدارة والتنمية الإدارية.. سعينا بما ورد فيها معتمداً على آيات القرآن الكريم ومستنداً إلى بعض الأحاديث الشريفة، إلى لفت نظر القارئ العربي والمسلم إلى وجود نظام إداري أساس في شريعتنا الغراء.. ويقرر أهمية الإدارة والدور الذي تلعبه وخطورته، ويحدد منطلقات ومبادئ وفنوناً إدارية يجب علينا التقيد بها للنجاح في حياتنا الاجتماعية عامة، على اختلاف أشكال الجماعات والمنظمات، وأهدافها وتسمياتها، وحجومها وامتدادها... بخلاف ما يذهب إليه دعاة الإدارة المحدَثون من حيث كون علمها حديثاً.
ونكون بهذا العرض لما جاء في دستور الإسلام، قد سلطنا الضوء على قاعدة وطيدة للانطلاق على طريق التنمية الإدارية، التي يجب استكمالها ولا شك، بالحديث الشريف والسيرة النبوية، وبالاجتهاد، وبالإنجازات الإدارية في مراحل تاريخنا العربي الإسلامي، وبالاطلاع على العلم الإداري المعاصر وأساليبه وأدواته في مشارق الأرض ومغاربها، ومن أقصاها إلى أقصاها.. على أن يتم ذلك انطلاقاً من المبادئ التي حددها كتاب الله، ومتوافقاً مع الظروف المكانية والزمانية التي نعيشها، ومع أهدافنا وطموحاتنا المستقبلية، ودون تقليد أعمى، فنحن نستهدف تسليط الضوء والدلالة على الأساس المتين للبناء عليه واستكماله، ولا ندعو للانغلاق أو عدم الاطلاع على ما لدى الآخرين، فالقرآن الكريم أصلاً لا يدخل في التفاصيل، وإنما يحدد أحكاماً كلية ومنطلقات ومبادئ عامة أساسية واستراتيجية مستمرة، توضحها وتكملها الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية، وتنسج على هديها أعمال الخلفاء والحكام الراشدين وآراء العلماء المجتهدين على مر العصور، بتفاصيل مرحلية (تكتيكية) خاصة بظروف كل عصر وتطوراته وعلومه ورسائله، ومختلفة: زمانية ومكانية، واجتماعية واقتصادية وغيرها.
ولعل ما قمنا به يشكل إضافة متواضعة إلى المكتبة العربية الإسلامية في موضوع تتطلع إليه وتتصدى له كل الشعوب والدول والمجتمعات والمنظمات في المرحلة الراهنة من حياة البشر، وهو ما تتطلع إليه أمتنا لتضييق الفجوة التي تفصلنا عن الدول المتقدمة في المجال المدني واللحاق بركب الحضارة ومواجهة التحديات المعاصرة التي تستهدف وجودنا وطمس هويتنا، مؤسسين على دستورنا، ومستندين على الماضي والحاضر بالدراسة والتدقيق والتحليل بظروفهما المتباينة، ومتعرفين على نقاط القوة والضعف، وعلى المتغيرات والمستجدات الداخلية المحلية والقومية، والإقليمية والعالمية. وبذلك نكون عرباً إسلاميين (تقدميين) نحقق أهدافنا بكل ثقة عبر السعي لتكوين (إدارة رشيدة).
وهي محاولة ومسعى.. ولا نجزم بأنها صائبة أو ناجحة، فنشاط الإنسان العادي مترافق، في كل حال، مع الخطأ على أن سعينا لوجه الله تعالى، وطلباً لإصلاح أوضاع (الإدارة) ذات الدور الهام والخطير.
ونأمل من القارئ العزيز أن يكون قد تفهم ما قصدنا إليه في إعداد هذا الكتاب، وأن يعمل مع القادة والمسؤولين والعلماء والإداريين والمفكرين والأفراد الغيورين على مصالح أوطانهم وأمتهم وعلى مصالحهم الخاصة، ووسائل الثقافة والإعلام المتنوعة بإمكاناتها الهائلة في الوطن العربي والإسلامي.. على تعزيز (إدارتنا) وترشيدها، لكي نصحح سلبيات الواقع الإداري، ونستدرك ما فاتنا، فلا نخلف للأجيال الصاعدة تركة إدارية مهلهلة لا نحسد عليها أو نشكر. ونرسم خططاً متكاملة، تنبثق عنها برامج تنفيذية، نحترم فيها الزمن الذي لا يرحم ولا يحترم من لا يحترمه ولا ينتظره! وأن نبدأ مسيرة التنفيذ بحزم، مهما بدا الدرب طويلاً وشائكاً ومتشعباً، إذ لابدّ من الخطوة الأولى التي ينتهي معها طريق الألف ميل.. لعلنا بهذا نعوض تقصيرنا في القرن العشرين وما قبله، ونستهل القرن الذي خلفه بتأسيس قاعدة انطلاق إدارية وطيدة تساعدنا على البقاء (وليس الاضمحلال) والتقدم والحياة الرغيدة، وتعيد لنا مكانتنا لنساهم من جديد في بناء صروح المدنية والحضارة، فهل نحن فاعلون؟ كي تسامحنا الأجيال القادمة!.
يسعى المؤلفان في هذا الكتاب إلى تسليط الأضواء على المسألة الإدارية، والدعوة إلى تكوين إدارة رشيدة قوية في المجتمع العربي الإسلامي، آملاً في استعادة مجده التليد، يوم كانت الإدارة القوية تسهم في إنتاج حضارة، صَدَق فيها قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 3/110].
وتكتسب الدعوة إلى تكوين الإدارة الرشيدة ضرورة خاصة ومستعجلة في هذه المرحلة من تاريخ البشرية التي طغت فيها قوى الشر وتآمر أعداء أمتنا علينا، فإذا بنا في وضع يتطلب منا الدفاع عن وجودنا، والمحافظة على هويتنا التي يسعى العدو لطمسها وتهميشنا.. فما الإدارة الرشيدة؟
الإدارة الرشيدة
تأليف: عنان شيخ الأرض، أحمد عبد السلام دباس
يتناول هذا الكتاب موضوع المسألة الإدارية الرشيدة في المجتمع العربي الإسلامي، ليحافظ على هويته التي يسعى العدو لطمسها وتهميشها.
ويورد المسوغات العامة المتصلة بالإدارة ذاتها، وظروف واقع الأمة العربية والإسلامية، ويعرض من خلال أبحاثه موضوعات متعددة بالاعتماد على القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ويبين وجود نظام إداري أساسي في الشريعة الغراء.
ويوضح المفهوم العام للإدارة وأركانه، ووظائفها العام، والمرتكزات الأساسية لها، وصفاتها، وطبيعته، مع لوحة إجمالية توضح مفهومها.
ويبين أن علم الإدارة هو الأقدم في تاريخ البشرية، ويوضح ممارستها بأشكال مختلفة قديماً وحديثاً، بالحجة والرأي، واستقراء التاريخ، ويزيل الالتباس القائل بحداثة العلم.
ويدرس لتنمية الشاملة وخصوصيتها ومتطلباتها وأداتها الراشدة ومفهومها ومضمونها وصفاتها.
ويعرف الإدارة بمهنة جماعية تقتضي الشورى والنظرة الشاملة، والمشاركة الواسعة والصدق والصراحة وحرية الرأي، ويعرض الآثار السلبية للتفرد في العمل الإداري، وأساليب العمل الجماعي، وأهمية الزمن وتدابير استثماره على الوجه الأفضل، وخصائصه، ومكامن هدره ومظاهره، وأهمية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأسس تطبيقه ومتطلبات تحقيقها، والنتائج السلبية لإهماله.
ويبين السبيل لكسب احترام الآخرين في العلاقات الإدارية، والتمييز بين الاحترام الشكلي والضمني، ويبحث في مظاهر الإفساد الإداري والأسباب والآثار وسد الذرائع.
ويبدي نظرة واقعية لإنجاح الاجتماعات بأنواعها، وإدارتها، وتنظيمها، وتوثيقها، ومدى استعداد الإدارة لمواجهة الكوارث والحالات الطارئة وإجراءاتها.
ويوضح المنطلقات لنجاح الإداري في مركز جديد، وصفاته.