معجم الأحاديث المشتهرة
يرصد الأحاديث النبوية الشائعة على ألسنة الناس، ويرصد جوانب مهمة من حياة الأمة، ولغتها وثقافتها وحضارتها وملامحها الفكرية والاجتماعية.
يرصد الأحاديث النبوية الشائعة على ألسنة الناس، ويرصد جوانب مهمة من حياة الأمة، ولغتها وثقافتها وحضارتها وملامحها الفكرية والاجتماعية.
مقدمة الكتاب
-1-
في المكتبة العربية جمهرة من الكتب المؤلّفة في الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس مما التقطه أولئك المؤلفون والمصنفون من أفواه النَّاس في عصر معيّن، وزمان محدّد، هو زمان المؤلّف الذي ندب نفسه لتسجيل ذلك الذائع الشائع، وهؤلاء المهتمون بهذا الموضوع من علماء الحديث أو المشتغلين بالتأليف فيه.
وهم إلى جانب تسجيلهم تلك ((الأحاديث الشائعة)) ينظرون فيها، ويردّونها إلى أُصولها، ويخرّجونها، ويبيّنون درجتها من الصّحة، ويفصلونها عما شاع شيوع الحديث النبويّ وليس منه، ويبقى لكل كتاب من هذه الكتب مزيّته الخاصّة به، لأنه نتاج ذلك المؤلّف، وخلاصة بحثه وتنقيبه وصبره على المتابعة، والجمع، والتّمحيص، والتغلغل في أوساط الناس وتسجيل ما يدور على ألسنتهم.
وهذا الدائر على الألسنة فيه شيء من الأحاديث القدسية، وفيه من الأحاديث النبوية على درجتها عند علماء الحديث من المتواتر، والصحيح، وغير ذلك من مراتب الحديث. وفيه ما يُظن أنه حديث وليس منه، لكنه شائع مشهور: لتوهّم أنه من الأحاديث، أو لكونه من المعاني الإسلامية، أو لكونه صدى لبعض الأحكام الشرعية، أو لوقوع الظن أن فيه خيراً، على المنهج الإسلامي، أو أنَّ فيه توقيراً ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
-2-
والأحاديث المشتهرة تدور حول العقيدة، وأصول الدين، والعبادات، والمعاملات بين الناس، وتَمَسُّ الأخلاق، وترصد السّلوك الاجتماعيّ، وتَمُرُّ بأَوصافِ المؤمنين، وشؤون الدُّنيا وأحوالِ الـمَعاد، وتتناولُ مكارم الأخلاق ومحاسن السِّيَر، وتورد ما فيه ترغيب وترهيب.
وفي الجُملة فهي صدىً من أصداء المعاني الإسلامية والمقاصد الشرعية، والأصول الاجتماعية، والأخلاق العامة والشخصية وقضايا تعامل الناس بعضهم مع بعضهم الآخر بما يجعل الحياة قويمة مُستقيمة، ويحبّب بعضهم إلى بعضـ ويسهم في انطلاقة حياة قويمة كريمة.
-3-
وهذه الأحاديث المشتهرة تعكس أموراً مهمّة:
- فهي صدىً لنور الإسلام الذي عمّ الأرض: استنار به من اهتدى، وعمي عنه من ضلّ.
- وهي تدلّ على اعتماد الناس القرآن والحديث معاً أصلاً شرعياً للإسلام.
- وهي تشير إلى اعتماد الحديث الصحيح أصلاً ثابتاً تبني عليه الأمة معتقداتها، وتقيم توازنها، وتمضي في شؤون حياتها.
- وهي ترصُدُ اهتمام المجتمع، من جهة:
أ- الارتباط بالنّص الشرعي.
ب - وسيرورة الحديث النبوي: على اختلاف درجات ثقافة البيئات الاجتماعية من أقصاها تخصُّصاً إلى أدناها شعبيّةً، وعلى اختلاف الأزمنة بين عُصور التنوّر ورقيّ العلم وتطبيقاته، وعصور الجمود أو التقاعس العلمي والتخلف التقني.
- والحديث: يحفظونه ليُروى ويُعْرَف ما فيه من الأمر والنّهي والوعظ والدّعاء، وما يتضمنه من أحوال رسول صلى الله عليه وسلم وشمائله إلى غير ذلك من الأغراض، وهم يروونه لينفذوه ويعملوا بما فيه.
وتجدهم يوصي بعضهم بعضاً به: في حال الإتقان والإجادة والسلامة من باب التوثيق والتشجيع وذكر الأمر في مناسبته، وفي حال الخطأ والسهو والتقصير وجحد النعمة والانحراف وشبه الانحراف إلى غير ذلك مما يلائمه.
ويستفيدون مما يحفظون، حين يُثني بعضهم على بعض عند تقديم الخير، وحُسن التصرّف، وينبه بعضهم بعضاً بآيةٍ من الكتاب الكريم أو لفظ من الحديث الشريف.
-4-
وحِفْظُ قَدْرٍ من الحديث النبوي أَمْرٌ اعتياديّ فإنّ الحديث أصل من أصول التّشريع، والنّاس مأمورون أن يأخذوا بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ينتهوا عما نهى عنه، وأن يستنيروا بهديه.
وهكذا فإن الأحاديث النبوية شاعت في النّاس منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهلم جرّاً، ومايزال الناس يحفظون منها، ويعتنون بها، ويأخذون بها، ويرجعون إليها، ويقبسون منها، ويلوذون بما فيها..
وما ليس دائراً على ألسنتهم دورانَ كثرةٍ وشيوعٍ، فهم يسمعونه في مناسباته ويحفظون منه ما يوافق أحوالهم وظروفهم، ويجدونه أمامهم في مقامات ملائمة حين تدعو الحاجة الفقهية أو الاجتماعية أو غير ذلك من المناسبات. والأحاديث النبوية مبثوثة أيضاً في كتب الفقه والنوازل والفتاوى، وفي المؤلفات التي تعالج جوانب متعددة في الحياة من العلم والتعلّم والتعامل مع النّاس، والمأخوذ به والمتروك من الأمور والأحوال والعادات، وما يخص المآكل والملابس والمشارب إلى غير ذلك من الشؤون الخطيرة واليسيرة.
-5-
ويَلْحَقُ بالأحاديث المشتهرة ما روي من أحداث السيرة النبوية المطهّرة، وما دار على الألسنة من تلك الأحداث العظيمة ومن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأعماله، وما روي عنه في أحواله المختلفة أعماله، وأوغلوا في تتبّع جهاده في ساحات المعارك، وأخبار الغزوات والسّرايا، وعَرَفُوا الكبير والصغير من هديه صلى الله عليه وسلم في أوقات السّلم والهدوء، ومواصلة شؤون الحياة.
-6-
وقد أوردت في ترجمة كل حديث بياناً إلى مصدر يُرْجع فيه إليه، من الكتب الأصول أو من المؤلفات التي عنيت بمثل هذا الموضوع، أو ذكرت الـمَرْجع الذي وجدت فيه النص المحفوظ، أو ما يقاربه، أو يماثله، ولو كان من كتب الثقافة العامّة مثل (عيون الأخبار) لابن قتيبة، و(التمثيل والمحاضرة) للثعالبي، و(البيان والتبيين) للجاحظ وغيرها.
ولم أستغرق في تخريج الأحاديث، ولم أستقصِ إلا لمناسبات قليلة اكتفاءً بأن الكتاب الذي رجعت إليه من الأصول كالصحيحين، أو استفادة مما خرّجه العلماء قديماً وحديثاً، كالذي صنعه الحافظ العراقي من تخريج أحاديث الإحياء، وملاحظات الشيخ شعيب الأرناؤوط على حواشي سير أعلام النبلاء عند الأحاديث والآثار.
واستفدت من كتب الأحاديث المشتهرة في التخريج أو الإشارة، أو المقابلة بما هو شائع اليوم، وخصوصاً كتاب (المقاصد الحسنة) للسخاوي، و(كشف الخفا) للعجلوني، ولا ننسى أن العجلوني دمشقي، وكان يُثبت كثيراً مما يسمع من أهل بلده خاصّة، ومن عبارات أهل الشام عامة عن الأحاديث المشتهرة.
وليس من هدف الكتاب أن أقف عند الأحاديث بالتخريج المطول، ولا بالحكم عليها أسانيد ومُتوناً، ومن هنا وقع الاكتفاء بما يؤدّي الغرض، وما يعين القارئ على تكوين فكرة واضحة، مع شيء من الإحالات على المصادر والأصول، والإشارة إلى مواقعها من تلك الأصول.
ذلك كله على قدر الطاقة ووُسعها.
-7-
والأحاديث المشتهرة متعددة على ألسنتهم من جهة حِفْظ الحديث وصحّة نقله، وضبط روايته، والمحافظةِ على تمامه، أو الأخذ منه بمقدار، ومن جهة روايته بالمعنى واللفظ معاً أو الأخذ بالمعنى، أو الاكتفاء بفحواه ومضمونه.
- فقد يرد الحديث على ألسنتهم بنصّه، صحيح اللفظ والمعنى على رواية من الرّوايات المعتمدة، محافظين في روايته على ما ورد بلا زيادة ولا نقصان.
- ويرد مُجْتَزأً كأنّهم حفظوا منه ما يُشير إلى مقصدهم، أو اكتفوا بما يدل على مرادهم.
- وقد يكتفي أحدهم برواية ألفاظ أساسية من الحديث، لأن الناس يعرفون الحديث بتمامه أو يحفظونه.
- وقد يكتفون بجملة واحدة منه.
- وكثيراً ما يوردون الحديث بالمعنى، لأنّهم في مرحلة حياة الأمة أوغلوا في العامية، ونَسوا القراءة والكتابة، وكان لابد لهم من معرفة الحديث النبوي، ومن حفظه، أو حفظ ما يصل بينهم وبين الأمور الفقهية، والشرعية، والاجتماعية العامّة كما وردت في الكتاب والسّنة..
وقد يأخذون مفهوم الحديث ويصوغونه بعباراتهم: يحافظون على المعنى، ويتصرّفون في اللفظ بما يلائم إمكاناتهم اللغويّة وقدراتهم على الحفظ وسلامة اللَّفظ.
وفي الجملة؛ فإن الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس في الشّام، في ما أُقدّر وبحسب ما تابعت في لهجات البلاد التي عرفتها، والناس الذين لقيتهم من أقطار مختلفة تنحو مناحي مُقاربة: فإنّها لا تبالي إن اختلف اللَّفظ، أو اتّسم بسمات اللّهجة المحلّية مادام القصد الأسمى موجوداً، وهو الأخذ بما في السّنة الشريفة والائتمار بما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عمّا نهى عنه.
ومن الأحاديث المشهورة: ((إنما الأعمال بالنّيات..)) فإنهم يروونه صحيحاً، كما ورد: ويجتزؤون فيقول أحدهم لصاحبه على سبيل التنبيه أو الزَّجر، أو بيان العاقبة: (الأعمال بالنيات) ويخرجون إلى عباراتهم وأساليبهم، فيقول أحدهم: (الضَّرْب للنّية) أي الأهمّية. ويقال في أحدهم: (زَغزَغ نيّته) أي حاد عن النية الصالحة أو عما اتفقوا عليه. وفلان (نيّته عاطلة) أي سيّئة، وفلان (ناوي على شَرّ)، وقالوا في أمثالهم المؤسّسة على هذا الحديث: (صَفّي النيّة ونام بالبرّية) أي اجعل النية صافية سليمة. وقالوا في أمثالهم: (على نيّاتكم تُرزقون).
- وهكذا...
-8-
وقد درجت - على قلّة - بعض الآثار المشتهرة ورددتُها إلى أصولها لسببين:
1- أحدهما أن أهل الشام أحياناً يُدرجونها في الأحاديث.
2- والثّاني أنها من الآثار التي يَحْسُن التنبيه إليها والوقوف عندها، وردّها إلى أُصولها.
وقد أجَزْتُ لنفسي رواية الأحاديث المشتهرة الشائعة على ألسنة أهل الشّام بلسانهم، وعلى تلقائية ألفاظها ألاّ يفوتهم مقصدها ولا البركة بحفظها: أثراً من رسول الله، وأمراً يريدون اتباعه ونهياً يتوخون اجتنابه، وطاعة يسعَوْن إليها.
علماً أن بعض العلماء رووا ما يشيع على ألسنة العامّة في أثناء مؤلفاتهم أو محاضراتهم، وكثيراً ما روى العجلوني ما ينطق به أهل الشام بلسانهم - على أيامه - من الأحاديث والآثار والأخبار.
ومن جهة أخرى فإن كتابي يرْصُد المعنى، ويرصد الكلمة، ويبحث عن الصلة الموصولة بين الناس وبين لغتهم، ولو كان ذلك في العصور الثقافية المختلفة يضطر الكاتب إلى تسجيل المرويّ، بغية ردّه إلى الأصل، وقصد تأصيل ثقافة الأمة وحضارتها أيضاً.
والأصل، كما هو معروف، رواية الحديث على وجهه الذي صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان بعض الرواة يورد الحديث، ويعقّب أو يستدرك إذا شَكّ هو أو بعض مَنْ روى عنه بكلمة أو عبارة، أهي هي، أم تكون كلمة أُخرى مقاربة أو تدل على المعنى: تحرّياً لدقّة الرّواية، وصحّة النّقل، واحترازاً أيضاً في إيراد المعنى، والمقصد على وجهه الصحيح.
وقد وقفت على كلمة مطولة في تفسير القرطبي تعالج قضية رواية الحديث، يصح أن نقدمها للقارئ الكريم على سبيل الاطلاع والاستفادة من أقوال العلماء.
قال الله تعالى في سورة البقرة:
{وَإِذْ قُلْنا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 2/58].
وفي تفسير القرطبي عن هذه الآية الكريمة: ((قال ابن فارس في الـمُجْمَل: {حِطَّةٌ} كلمة أُمِر بها بنو إسرائيل لو قالوها لَحطّت أوزارهم)). وقاله الجوهري أيضاً في الصحاح.
قلت: يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه، وهو الظاهر من الحديث.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قِيلَ لِبَني إسرائيلَ ادخُلوا البابَ سُجَّداً وقولوا حِطّةٌ يَغْفِر لَكُمْ خطاياكُم [فبدّلوا] فدخَلوا البابَ يَزْحَفُونَ على أستاهِهِمْ وقالوا: حَبَّةٌ في شَعْرة)). وأخرجه البخاريّ وقال: ((فبدّلوا وقالوا حِطّةٌ حبّةٌ في شعَرة)). في غير الصحيحين: ((حنطة في شَعْر)). وقيل: قالوا هَطّا سُمْهاثا. وهي لفظة عبرانية، تفسيرها حنطة حمراء، حكاها ابن قتيبة، وحكاه الهروي عن السّدي ومجاهد، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمرّدوا واستهزؤوا، فعاقبهم الله بالزجر وهو العذاب، وقال ابن زيد: كان طاعوناً أهلك منهم سبعين ألفاً. ورُوي أن الباب جُعل قصيراً ليدخلوه ركّعاً فدخلوه متوركين على أستاههم. والله أعلم.
السادسة - استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبُّد بلفظها أو بمعناها، فإن كان التعبُّد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها، لذمّ الله تعالى من بدّل ما أمره بقوله. وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدّي إلى ذلك المعنى، ولايجوز تبديلها بما يخرج عنه.
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فحُكِيَ عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله، وهو قول الجمهور، ومنع ذلك جمعٌ كثير من العلماء منهم: ابن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حَيْوَة. وقال مجاهد: انْقُصْ من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدّد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء والياء ونحو هذا. وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحوناً ويعلمون ذلك ولا يغيّرونه. وروى أبو مِجْلَز عن قيس بن عُبَاد قال: قال عمر بن الخطاب: مَن سمع حديثاً فحدّث به كما سمع فقد سلم.
وروي نحوه عن عبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان، فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ، ومنهم من يشدّد في ذلك ولا يفارق اللفظ، وذلك هو الأحوط في الدّين والأتقى والأولى، ولكن أكثر العلماء على خلافه. والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة، وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني، ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها، وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم، حسبكم المعنى، وقال قتادة عن زُراة بن أَوفى: لقيت عدّة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا عليّ في اللفظ واجتمعوا في المعنى، وكان النّخعِيّ والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني. وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك. وقال سفيان الثوري رحمه الله: إن لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم، وذلك هو النقل بالمعنى، وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف، فقصّ قِصصاً ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربيّ وهو مخالف لها في التقديم والتأخير، والحذف والإلغاء، والزيادة والنقصان، وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى، احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي، وهو الصحيح في الباب.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نَضّر الله امرأً سمع مقالتي فبلّغها كما سمعها)) وذكر الحديث. وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه: ((أمر رجلاً أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيّك الذي أرسلت))، فقال الرجل: ورسولك الذي أرسلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ونبيّك الذي أرسلت)). قالوا: أفلا ترى أنه لم يسوّغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال: ((فأدّاها كما سمعها)). قيل لهم: أما قوله ((فأدّاها كما سمعها)) فالمراد حكمها لا لفظها، لأن اللفظ غير معتدٍّ به. ويدلُّك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: ((فرُبّ حامِل فقه غير فقيه ورُبّ حامِل فقه إلى من هو أفقه منه)). ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظٍ مختلفةٍ والمعنى واحد، وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة، وذلك أدلّ دليل على الجواز، وأما ردّه، عليه السلام، الرجل من قوله: ((ورسولك - إلى قوله ونبيك))، لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح، ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة، واسم النبيّ لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام! وإنما فُضّل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوّة والرسالة، فلما قال: ((ونبيك))، جاء بالنعت الأمدح، ثم قيّده بالرسالة بقوله: ((الذي أرسلت)). وأيضاً فإن نقله من قوله: ((ورسولك - إلى قوله - ونبيك)) ليجمع بين النبوّة والرسالة، ومستقبح في الكلام أن تقول: هذا رسول فلان الذي أرسله، وهذا قتيل زيد الذي قتله، لأنك تجتزئ بقولك: رسول فلان، وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل، إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأوّل. وإنما يحسن أن تقول: هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو، وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا. والله ولي التوفيق.
فإن قيل: إذا جاز للرّاوي الأوّل تغيير ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأوّل، ويؤدّي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها، قيل له: الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا، فإن عُدمت لم يجز. قال ابن العربيّ: الخلاف في هذه المسألة إنما يُتصوّر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجِبِليَّة الذّوقية، وأما من بعدهم فلانشك في أن ذلك لا يجوز، إذ الطباع قد تغيّرت، والفهوم قد تباينت، والعوائد قد اختلفت، وهذا هو الحق. والله أعلم.
قال بعض علمائنا: لقد تعاجم ابن العربيّ، رحمه الله، فإن الجواز إذا كان مشروطاً بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم، ولهذا لم يفصّل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم، لو قال: المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب، والله أعلم.
-9-
ولقد اعتمدت الترتيب الهجائي للأحاديث المشتهرة على الوجه المعمول به في مثل هذه المؤلفات وغيرها، مثل كتب الأمثال، حين ترتب العناوين باعتبار الحرف الأول فالثاني فالثالث.. إلخ.
وتركت العنوان بلا أي علامة إن كان الحديث المشهور باقياً على صحته وسلامته، موافقاً لرواية من الروايات المعتمدة. ووضعته بين قَوْسين معقوفين [] إذا طرأ عليه تبديل أو كان مروّياً بلسانهم الدارج ولهجتهم العاميّة: سواء أشرت إلى عاميّته، أم لم أشر إلى ذلك.
وأثبت العنوان على الوجه الذي سمعته، أو على أكثر هذه الوجوه رواجاً في ما عرفت أو وصل إليّ. وكنت أُشير إلى ما أعرف من رواياته الأخرى الشائعة على ألسنتهم.
والحمد لله رب العالمين
محمد رضوان الداية.
الأحاديث المشتهرة تدور حول العقيدة، وأصول الدين، والعبادات، والمعاملات بين الناس، وتَمَسُّ الأخلاق، وترصد السّلوك الاجتماعيّ، وتَمُرُّ بأَوصافِ المؤمنين، وشؤون الدُّنيا وأحوالِ المَعاد، وتتناولُ مكارم الأخلاق ومحاسن السِّيَر، وتورد ما فيه ترغيب وترهيب.
وفي الجُملة فهي صدىً من أصداء المعاني الإسلامية والمقاصد الشرعية، والأصول الاجتماعية، والأخلاق العامة والشخصية وقضايا تعامل الناس بعضهم مع بعضهم الآخر بما يجعل الحياة قويمة مُستقيمة، ويحبّب بعضهم إلى بعض ويسهم في انطلاقة حياة قويمة كريمة.