مقدمة
يعد النظام الديمقراطي اليوم أوسع الأنظمة السياسية شيوعاً في العالم. ويقوم الشكل الديمقراطي من الحكم على جملة من القبليات والفروض المسبقة من أهمها الاعتراف للإنسان بـ(الحرية) و(المساواة) وبأنه يمتلك حقوقاً.
ويؤمن هذا النظام بأن الإنسان كائن عاقل له حق المفاضلة بين الخيارات المتنوعة في شتى المجالات بما فيها السياسة. كما أن المواطنين (متساوون) في حق ممارسة شؤون الحكم والسلطة، وهذا ما يمثل واحداً من حقوق المواطن وحسب في الأنظمة الديمقراطية، أي إن الديمقراطية تعني تمتع المواطنين بالكثير من الحقوق الطبيعية والمدنية والسياسية.
دللت التجارب على أن في وسع الشعب استيفاء حقوقه في حالة واحدة، وهي أن تتحقق في الحياة الاجتماعية والسياسية مشاركة شعبية مؤسساتية. وفي ضوء ذلك يظل النظام الديمقراطي رهيناً بتكوين المجتمع المدني وتعزيزه، وبكلمة أخرى فإننا لن نمتلك مجتمعاً يتمتع أفراده بالحرية والمساواة والحقوق إلا من خلال بناء مؤسسات مدنية ناشطة تتولى تنظيم العلاقة بين الشعب والحكومة.
ويكافح الإيرانيون منذ مئة عام من أجل الحرية والمساواة، بعد أن خاضوا لقرون متطاولة تجربة الخضوع لأنظمة القهر والغلبة وسلطة الاستبداد. وخلال ذلك مرت قافلة الحرية في إيران بمراحل متعددة، حتى أناخت ركابها عند الثورة الإسلامية.
كان أهم شعارات الثورة وأرسخها في الذاكرة عبارة: ((الاستقلال، الحرية، الجمهورية الإسلامية)). وهذا شعار يرسم رد فعل الإيرانيين حيال (الاستعمار، والاستبداد، واللادينية) وهو يعكس بجدارة المطالب التاريخية لشعبنا، وفي دستور الجمهورية الإسلامية الذي حصل على غالبية أصوات الشعب، تعود تلك المطالب لتظهر على شكل مواد دستورية وأبواب تضمنت الآليات العامة لتحقيقها.
وبين مجموعة التحولات والأحداث التي أعقبت الثورة تظل انتخابات الثاني من خرداد 1376 [1997] تلعب الدور الأبرز والمتفرد في عملية إرساء الديمقراطية في إيران، وقد دفعت الانتخابات هذه العملية الديمقراطية بوصفها مساراً لا تراجع فيه لو شاء الله.
خاض السيد محمد خاتمي هذه الانتخابات كأحد المرشحين للرئاسة، وتحدث في برامجه عن ضرورة التنمية السياسية، وبناء المجتمع المدني، والاعتراف بحقوق المواطنين، والاعتراف بالجانب الجمهوري في الجمهورية الإسلامية، وحظيت مطالبه هذه بدعم جماهيري غير متوقع.
تناول خاتمي طيلة فترته الرئاسية جوانب الديمقراطية المتعددة، ويمثل الكتاب الحالي محاضراته التي ألقاها في الموضوع، وما يتصل به خلال العامين الأول والثاني من الدورة الرئاسية، فيما جاء ترتيب موضوعات الكتاب وفق تاريخ إلقائها.
طرح الرئيس وجهات نظره حول قضايا هامة؛ من قبيل دور الشعب في كومة الدينية، العلاقة بين الدين والحرية، أهمية الدستور في العملية الديمقراطية، دور الصحافة في تعزيز الديمقراطية، الجمهوري والإسلامي في النظام، ريادة الحركة الطلابية في العمل الديمقراطي، وتأثير الديمقراطية في السياسة الخارجية، ونحو ذلك.
إن نصوص الكلمات والمحاضرات المنشورة في هذا الكتاب خضعت إلى التحرير والتشذيب، وذلك كي يتيسر للقراء الاطلاع على الجوانب الأساسية في آراء المؤلف.
أعرب عن شكري للزملاء الذين أصبح الكتاب بفضل جهودهم جاهزاً للنشر.
ربيع 2001
محمد علي أبطحي
قنوات الإعلام وحق الشعب
لم تعد هنالك حدود في عالم اليوم، فنتيجة للتطور الهائل في تقنية الاتصالات تبعثرت الحدود المألوفة والمتواضع عليها التي جرى تعيينها في الماضي، وأينما كان الإنسان في هذا العالم فإنه يظل وكأنه في النقطة الأقرب، إذن لابدّ أن تنتظم سياساتنا وبرامجنا بنحو يمكّننا من التمسك بحدود الهوية الشخصية والأخلاقية والوطنية وعلى مستوى الثقافة والدين، دون أن يؤدي ذلك إلى حرماننا من مواكبة حركة التنمية في المجتمع الإنساني، وخسارة استحقاقاتنا في هذا العالم.
لقد باتت هجمات المعلوماتية تسلب الإنسان إمكانية الاختيار الواعي، فهو يقف اليوم مثل كائن متأثر سلبي عاجز حيال موجات المعلوماتية وأعاصيرها التي تلتفّ حوله من كل حدب وصوب. إن الحصول على مقدرة الاختيار الواعي في ظروف كهذه يتطلب إعداداً، وسرعة في المبادرة، ومقدرة عالية في التحليل. من المؤسف أن هذا الاندماج الذي ظهر نتيجة للاتصالات الحديثة، يمكنه بشكل طبيعي أن يؤدي إلى لون من استلاب الهوية، لا في مجتمعاتنا وحسب بل في العالم بأسره.
إن عولمة المعلوماتية تسبب في قلق البلدان الغربية أيضاً، ولذلك نلمح في الساحة الدولية مساعي للحصول على حقوق في الفضاء الخارجي، وفيما يتصل بأمواج الإرسال والبث والاتصالات، في سبيل الدفاع عن حقوق الأشخاص والشعوب أمام هجمات المعلوماتية التي تركب موجة التكنولوجيا، اهتماماً بأزمة الهوية لدى الشعوب، ولابدّ للجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تسجل حضوراً فاعلاً في هذا المجال.
لا أريد طبعاً بالتمسك بالهوية أن تعمد الأمم إلى إغلاق حدودها في وجه الآخرين، وتضع حداً لصلتها بالعالم، بل ينبغي للمرء أن يتمكن من الاقتباس من الآخرين، وهو ما لا يتحقق بشكل صحيح ومناسب إلا بعد أن يمتلك المرء وعياً بهويته.
ظهرت الأزمة الحالية نتيجة لتخلخل في الحدود التي تميز بين المعلوماتية وموجات الدعاية والإعلانات، فالعديد من قنوات الإعلام التي تمتلك قدرة كبيرة على الهيمنة، تتجاوز الحد الحقيقي للمعلوماتية، وتأخذ بنحو مباشر أو غير مباشر بالترويج لما يحقق مصالحها. لاشك أن الترويج والدعاية بشكل سافر في العلن يستتبعان مشاكل أقل، إذ يمكن اتخاذ تدابير ومواقف مدروسة حيالهما، غير أن الدعاية الخفية من خلال مهارات في التكتيك وصناعة الخبر والجانب المعلوماتي، تسلب المرء فرصة الموقف الواعي، فيقع دونما وعي تحت تأثير أفكار يتلقاها بوصفها أخباراً ومعلومات، وبالطبع فإن من يمتلك تقنيات متقدمة في الإعلام والتكنولوجيا سيهيمن على الرأي العام أكثر من الآخرين. إن من يحمل فكرة أو يعتنق تصوراً ما سيعمل ولاشك على ترويجهما، قصارى ما هنالك أن امتزاج المعلوماتية بأنشطة الدعاية واختلاطها جعلا الإنسانية في مواجهة تعقيدات جادة، ولابد من فرز تلك الحدود والتمييز بين المعلوماتية والنشاط الدعائي.
علينا أولاً أن نمتلك تقنيات الاتصال بالمستوى الموجود في عالم اليوم، ورفع مستوى إمكانياتنا سواء في الجانب التقني أم النظري، ويحتل كل من الفعل الإبداعي وسرعة المبادرة مكانة مهمة في مجال المعلوماتية، ويمكن للخبر الذي تلتقطه أجهزة الاستقبال متقدماً ببضع ثوانٍ على الأخبار الأخرى، أن يترك أثراً في الرأي العام إلى حد كبير أحياناً فينجح في تغيير وجهة الموضوع.
علينا أن نزود المتلقّي بمعلومات صحيحة، فالشعب ليس من الغرباء، وثمة في كل نظام سياسي ضوابط تتحدد وفقاً للقانون، بالطبع لا على أساس الأذواق والميول الشخصية، ومع مراعاة ذلك الإطار فنحن مسؤولون عن تزويد الشعب بمعلومات صحيحة تتمتع بالدقة. وهذا ما سيؤدي أولاً إلى القضاء على منهج الإشاعات بوصفه مصدراً للمعلومة، فالإشاعة تلعب دوراً تخريبياً واسعاً في تلك البلدان التي يغيب فيها الإعلام الموضوعي الدقيق، وتخفق الحكومة في كسب ثقة المواطنين. كما يؤدي ذلك ثانياً إلى تقليص ما تتركه القنوات الأجنبية من آثار، وهي تمتلك إمكانيات واسعة، إلى الحد الأدنى، بفضل كسب القنوات المحلية لثقة المتلقي.
المهم هنا هو الاعتراف بحق الشعب، ومن حقوقه هذه أن يكون على اطلاع بالقضايا، وهكذا لا ينبغي لوسائل الإعلام التابعة إلى شتى الفئات والتيارات أن تتعامل مع القضايا بشكل أحادي، الأمر الذي يمنح الرؤية النقدية أهمية متزايدة في سبيل كسب ثقة الناس من جهة، والوفاء لرسالة الإعلام من جهة أخرى.
وتتكفل وسائل الإعلام في هذا الإطار بأمر هام للغاية يشمل ممارسة النقد للحكومة والأجهزة المختلفة في البلاد وفيما يتصل بالقضايا الداخلية، إضافة إلى توعية المواطن، وتوفير أجواء الحوار. وتتضاعف المسؤولية هذه بالنسبة إلى وكالة الأنباء الإيرانية التي هي في الحقيقة مركز الإعلام والمعلوماتية للحكومة، فهي لابدّ أن تنهض بتقديم صورة موضوعية عن الحكومة. وهذا ما لا يتحقق من خلال تغطية متملقة جزافية للنقاط الإيجابية، بل يتطلب طرح الأبعاد الإيجابية بالشكل الذي هي عليه في الواقع، إلى جانب تسليط الضوء على الأزمات والنواقص التي تعانيها أجهزة الحكومة.
وحين يكون المواطن في الصورة الحقيقية للأوضاع فإن توقعاته وانتظاراته من الحكومة ستكون واقعية كذلك، كما سيطلع المسؤولون والأجهزة الإدارية في شتى قطاعات البلاد بفضل ذلك على الأزمات والمشاكل، والأهم من ذلك وعي المواطنين بالحقائق، وهم المالك الحقيقي للنظام السياسي، ولابدَّ أن يكون كل شيء تحت إشرافهم.
تتحمل قنوات الإعلام وذوو الرأي والفكر مسؤولية مهمة لتجاوز المرحلة الراهنة وإرساء النظام، وهي توعية المواطنين بحقوقهم وليس هذا الحق امتيازاً تمنحه الحكومة لهم حين يحلو لها، وتسلبهم إياه حين تشاء، بل هو حق منحه خالق الكون للإنسان، والحكومات الديمقراطية مسؤولة عن توفير هذا الحق، وإزالة المعوقات التي تحول دون تأمينه.
تمر بلادنا بتجربة كبيرة، يكون فيها الإنسان صاحب حق، ويتمتع بالحرية، ويتحول القانون إلى أساس للنظام الاجتماعي. وهذه الميزات هي عنوان عام تشترك فيه كل التعريفات التي قدمت للمجتمع المدني. وفي بلدنا يؤكد الدين أيضاً على أنه ينبغي لإدارة البلاد أن تتحرك في ضوء قانون عادل شعبي، كما يقرر الدين أن للأمة حقوقاً وحريات تتمتع بها.
لقد خضنا في الماضي تجربة الحركة الدستورية (المشروطة) وكان من المفترض عندئذ منح الشعب حقوقه، وتأسيس نظام سياسي ينبثق من الشعب، ويكون مسؤولاً أمامه، غير أن ما حصل هو غير ذلك مع الأسف. عمل اتجاهان كانا موجودين في صميم المعارضة، على إفشال الحركة الدستورية. عارض أحدهما حاكمية الأمة باسم الدين، وعارض الآخر الدين باسم الحرية، وتضافرت جهودهما معاً لإفشال الحركة. أدت المواقف التي اتخذها كل من مناهضي الدين ومناوئي حرية الشعب، إلى انبثاق نظام بهلوي المستبد من صميم الحركة الدستورية، وهو الذي وجه ضرباته بعد ذلك إلى الحرية والدين معاً.
امتلكنا اليوم حكومة باسم الدين، تؤمن بحرية الشعب، وبما له من حقوق، وعلينا اغتنام هذه الفرصة، بصفتي مواطناً صغيراً أخذ على عاتقه مسؤولية جسيمة بفضل ثقة الشعب، أتضرع إلى الله تعالى كي يعينني على الوفاء بمسؤوليتي هذه. وسأعمل بعونه سبحانه منطلقاً من الدائرة الدينية على الدفاع عن حقوق الأمة، ودعم الحريات، حتى حريات أولئك الذين يختلفون معنا في الدين، كما سأحرص بمشيئة الله على الدفاع عن الدين انطلاقاً من الحرية، وذلك لإيماني بأن هذا يمثل دفاعاً عن الدين وصيانة لحقوق الشعب في الوقت ذاته.
في وسع الشعب أن يلتزم بالدين والإيمان حين تتوافر له حرياته وحقوقه، وهو سيتولى حينئذ الدفاع عن دينه ونظامه الديني. وعندما تكون السيادة للدين بمعناه الحقيقي يكون في وسعه أن يدافع عن الحرية ويصونها.
أعتقد أن قنوات الإعلام الوفية للشعب والثورة والنظام، تتحمل مسؤولية الدفاع عن حقوق الأمة ودعم الحريات انطلاقاً من الدين، كما يقع على عاتقها الدفاع عن الدين انطلاقاً من الحرية.
* * *
يمثل هذا الكتاب محاضرات السيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ألقاها في موضوع الديمقراطية وما يتصل به خلال العامين الأولين من دورته الرئاسية وعلى التسلسل، قدّم فيها وجهات نظره حول قضايا هامة من قبيل دور الشعب في الحكومة الدينية والعلاقة بين الدين والحرية، وأهمية الدستور في العملية الديمقراطية، ودور الصحافة في تعزيز الديمقراطية وغير ذلك من القضايا الدقيقة التي تعرض وجهة نظر هذا الزعيم الذي يحمل توجهات متميزة.
الكتاب يحمل تجربة عملية لسياسي بارز، وليس تنظيراً على الورق من فيلسوف متأمل، يحلم بالمدن الفاضلة.
يجمع محاضرات السيد محمد خاتمي التي ألقاها في موضوع الديمقراطية، وما يتصل به، قدم فيها وجهات نظره حول قضايا هامة: كدور الشعب في الحكومة الدينية، والعلاقة بين الدين والحرية ، وأهمية الدستور في العلمية الديمقراطية.