كلمة الناشر
يصدر هذا الكتاب في ظروف بالغة القسوة، إثر سقوط بغداد الثاني في مطلع القرن الحادي والعشرين على يد بوش (الابن)، الذي يعيد إلى الذاكرة العربية والإسلامية على الفور، سقوطها الأول في القرن الثالث عشر على يد هولاكو، ويطرح التساؤلات المؤلمة:
ما الفرق بين بوش وهولاكو
ما مدى التقدم الذي حققته الإنسانية بين السقوطين اللذين تفصل بينهما ثمانية قرون!
أكان تقدم الإنسان محصوراً في تطوير الآلة الحربية من السيف والرمح إلى أسلحة الدمار الشامل، ليكون الإنسان أشد فتكاً وأكثر فساداً وسفكاً لدماء أخيه الإنسان!.
فماذا عن قيم العدالة والمساواة والحق والخير!
ما فلسفة القوة! ما مسوغات استخدامها!
ألم يستطع الإنسان أن يستحدث وسيلةً غير العنف تكون أنجع لفض النزاعات وحل المشكلات!
ألم تقنعه الحروب العالمية التي خاضها والمآسي الإنسانية التي خلفتها؛ بأن العنف يعقد المشكلات ويؤجج الصراعات ويوغر الصدور، أكثر من أن يحلها!
أين ذهبت المنظمات الدولية، والمؤسسات الإنسانية التي أرسى الإنسان قواعدها مستفيداً من تجاربه القاسية للحد من نزعات التفرد والتسلط ودعاوى التميُّز العنصري والاصطفاء العرقي!
هل آثر الإنسان العودة إلى الغاب، والانكفاء إلى شِرعته، بعد أن قطع أشواطاً كبيرة في الابتعاد عنه
هل نجحت الشياطين في إغوائه وإثنائه عن المضي قدماً في طريق كدحه إلى الله، والتحرر من لوثة الشر والفساد وسفك الدماء!
نعوم تشومسكي؛ عالم اللسانيات الشهير، والمعارض الأميركي العنيد، والناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان، كلِّ إنسان، على الرغم من أن المقابلات معه التي أثمرت هذا الكتاب كانت سابقة على الحدث، فإنها كانت وثيقة الصلة به، منذرة بقرب وقوعه، فاضحة لدوافعه النفطية الذرائعية، المتسترة بأقنعة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ونزع أسلحة الدمار الشامل، محللة أدق تحليل لنزوع السياسة الأميركية نحو التفرد والتسلط والاستعلاء والسيطرة، وإساءة استخدام القوة بتكثيفها وتركيزها وتسخيرها لخدمة مصالحها الأنانية، غير عابئة بالآخرين ومواجعهم ومعاناتهم، وتوطينِ القيم وربطها بالمصلحة، فلا يكون للعدالة والحرية والمساواة وسائر قيم الحق والخير قيمة إلا حين تخدم المصالح الأميركية، ولا يكون الظلم والعدوان وسفك الدماء البريئة مستهجناً إلا إذا ارتُكب في أميركا أو كان موجهاً ضد مصالحها.
نعوم تشومسكي، بحسه الإنساني المرهف، يحفر حول جذور فلسفة القوة والتفرد لدى الأميركيين، التي تتجلى الآن في احتلالهم منابع النفط في الخليج، مثلما تجلت في تشجيعهم المستمر للأقوياء على إرهاب الضعفاء، كلما كان ذلك في مصلحتهم، كالذي فعلوه في نزاع الصين مع اليابان، والروس مع الشيشان، والأتراك مع الأكراد، وإسرائيل مع العرب.
ويتابع تشومسكي الحفر في الأعماق متسائلاً عن أصل وجوده في أميركا: ((لم أنا جالس هنا)) مجيباً على الفور ((لأن بعض المتعصبين الأصوليين جاؤوا من إنكلترا وبدؤوا بإبادة السكان المحليين ليحلوا محلهم))، ليكشف كيف استطاعت لعبة رعاة البقر (الكاوبويز) أن ترسخ ثقافة (الحقُّ للقوة) في الضمير الأميركي.
إن الناشر، وهو يؤمن بثقافة (القوةُ للحق) وحتمية قوانين الفطرة (البقاءُ للأصلح) و(الباطل مهما تمادى لا بدَّ زائل)، وهو يرى في الوقت نفسه صوت الضمير الإنساني يتنامى ويعلو في أميركا وخارجها، فإنه يشارك المؤلف تفاؤله بمستقبل الإنسان، وحتمية نجاحه في سعيه للتشبث بالقيم الإنسانية العليا.
مدخل
ارتفعت وتيرة حياة نعوم تشومسكي المكبلة بالبرامج والمواعيد عدة مستويات من الشدة إثر الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). ففي الشهور التي تلت تلك الهجمات ألقى أحاديث علنية كثيرة جداً، وأجرى مقابلات لاحصر لها؛ وكان العديد منها مع وسائل الإعلام الأجنبية التي تنظر إليه على أنه واحد من حفنة صغيرة من المفكرين الأمريكيين المعارضين لرد فعل إدارة بوش العسكري العدواني على الهجمات.
انطلاقاً من قناعته الثابتة يكرر تشومسكي آلاف المرات مقولته بأننا لانستطيع مخاطبة إرهاب الضعفاء ضد الأقوياء دون مواجهة ((الإرهاب الشديد، إلى حد لايوصف، الذي يمارسه الأقوياء ضد الضعفاء)). ولكن قول تشومسكي المُعزَّز بدراسات متزايدة للحالة التاريخية، وبعدد كبير من الوثائق والتحليلات، لاقى آذاناً صماء في واشنطن وفي وسائل الإعلام الرئيسة، ولكنه وجد صدى لدى جمهور المستمعين الواسع في الولايات المتحدة وخارجها، الذي ينظر إلى تشومسكي بوصفه صوت العقل والضمير الذي مازال يتردد منذ عقود من الزمن.
وصل صوت تشومسكي إلى اليابان، كذلك، حيث أقيم، على هيئة ترجمة لكتابه 11-9، ذي العنوان الفرعي باللغة اليابانية (أمريكا ليست مؤهلة للانتقام!) والذي دُفع إلى الطبع والنشر في آخر شهر نوفمبر (تشرين ثاني). وبوحي من هذا الكتاب شرع أحد المنتجين في شركة سينمائية يابانية بوضع خطط لإنتاج فيلم وثائقي حول تشومسكي ومنظوره فيما يتعلق بالإرهاب والقوة الأمريكية. وما هذا الكتاب سوى وليد لذلك الجهد.
حصلنا على مدخل سريع إلى حياة تشومسكي المفعمة بالأعمال عندما تحدثنا إليه أول مرَّة حول التوثيق في مطلع يناير من العام 2002. وأبدى استعداده للعمل معنا في هذا الفيلم، كما قال، ولكن الحيّز المتوافر في برنامج مقابلاته لم يكن إلا في مايو (أيار). وفي هذه الأثناء سيقوم برحلة لحضور الندوة الاجتماعي
ة العالمية في بورتو أليغر (Porto Alegre) في البرازيل؛ وإلى تركية ليكون شاهداً في محاكمة ناشره التركي؛ وإلى كولومبيا (Colombia)، وليقضي أسبوعاً في كاليفورنيا في شهر مارس (آذار). لقد رحب بالتحاقنا به وتصوير هذه الأحاديث العامة وسواها من الأحاديث التي قدمها.
قررنا أن نصور في كاليفورنيا حيث دُعي تشومسكي ليلقي خطابين في اللسانيات في موسم المحاضرات في يوسي-باركلي (Uc-Barkeley). أقام تشومسكي، أيضاً، أثناء الأيام الخمسة التي قضاها في منطقة الخليج (Bay Area) ساعات عمل في حرم الجامعة مع طلاب اللسانيات وكلية اللسانيات في المنطقة؛ وفي أوقات فراغه ألقى خمسة أحاديث سياسية حول مجموعة من الموضوعات (صورنا ثلاثة منها) في مايزيد على خمسة آلاف مستمع.
وما إن حل اليوم الخامس، يوم الجمعة، في بالو ألتو (Palo Alto) حتى بُحَّ صَوته، وأنهكه التعب، ولكن ماإن بدأ الحديث إلى جمهور مصغ باهتمام بلغ ألف شخص في قاعة رقص في أحد الفنادق، حتى تجاوز التعب والصوت الأجش وعاد إلى طبيعته. أخذ يستعيد نشاطه مع اقتراب المساء، وألقى حديثاً طويلاً بدءاً من تهديد الصواريخ الفضائية مروراً بجلسة السؤال والجواب، والأحاديث القصيرة التي كانت تدوم في الواقع عشر دقائق، والتي رد فيها على الأسئلة التي أثارها المستمعون.
وبعد هذا الحديث، قضى تشومسكي خمساً وأربعين دقيقة يجيب بصبر عن أسئلة طرحتها مجموعة مؤلفة من خمس وعشرين شخصاً جاؤوا متأخرين. وبلغ به الإعياء حداً تشنَّجت عنده أصابعه، فلم يعد قادراً على توقيع الصور الذاتية، فضحك قائلاً: ((لم أعد قادراً على الكتابة)).
إن تشومسكي الإنسان الذي ربما لايكل، ولكنه مع ذلك ليس من فولاذ، كان مازال يتحدث عندما أثار قاعة الرقص، واصفاً لصديق له ماأوحت له رحلته إلى المنطقة الكردية التركية.
وبمتابعة تشومسكي خلال هذه الأيام ذُهلت أولاً بتواضعه الكبير وكرمه. فلم يعتبر نفسه وسيلة لإحداث تغيير اجتماعي، بل ربما مساعداً على ذلك بفضل تقديم معلومات وتحليلات لمستمعيه تعد ثمرة أبحاثه. ويؤكد باستمرار وجود خيارات لابد من اتباعها، ويؤكد أن الأمر يعود لكل فرد ليتصرف وفق مبدأ أخلاقي، ويجبر من هم في موقع السلطة أن يفعلوا ذلك.
وما أدهشني أيضاً تفاؤل تشومسكي، فبالرغم من الفحص الموجع لإساءة استخدام القوة الأمريكية، يظل مزاج تشومسكي مبتهجاً ويغشاه الأمل. وينهي معظم أحاديثه بالتذكير بالإنجازات الكثيرة التي حققتها الحركة الشعبية النشيطة خلال عقود عديدة منصرمة، وكيف أن التحول الاجتماعي يظل بأيدينا.
إن الفيلسوف والنشيط الياباني تسورومي سنسوكي (Tsurumi Shunsuke) الذي أشرف على تحرير هذه الطبعة من الكتاب، عزا تفاؤل تشومسكي هذا إلى الأفق التاريخي الواسع الذي استمده تشومسكي بفضل دراساته اللسانية. ((في سياق ذلك التاريخ تبدو هذه السنة والسنة التالية لها زمناً قصيراً. وينبع تفاؤل تشومسكي من مفهوم العيش في الزمن الحاضر مع الإيمان باستمرار النشاط الإنساني عبر الزمن)).
يطرح عمل تشومسكي على كلٍّ منا السؤال والتحدي التاليين: هل هناك مايسوّغ تفاؤلنا في عصر القنابل الذكية والحكومة الشوفينية المتعصبة جواب تشومسكي المعتاد هو: إن ذلك يعتمد كثيراً على مايريد منك ومني الشعب أن نقرر فعله.
جون جنكرمان
طوكيو يناير 2003
((أنا موجود هنا [في أميركا] لأن بعض المتعصبين الدينيين الأصوليين من إنكلترا، جاؤوا إلى هنا وبدؤوا بإبادة السكان المحليين، ثم جاء من بعدهم من تولى إبادة من تبقى منهم.. لم يكن الأمر شأناً صغيراً.. لقد أبادوا الملايين..)).
((عندما كنت صبياً، كنت ورفاقي نلعب لعبة رعاة البقر (الكاوبويز)، كنا نحن (الكاوبويز)، وكنا نقتل الهنود الحمر.. لم تكن لدينا أي فكرة أخرى تستهجن هذا الأمر.. لكن هذا لا ينطبق على أطفالي)).
((كل فرد قلق بشأن وقف الإرهاب. حسناً؛ ثمة طريقة سهلة جداً: توقفوا عن دعم الإرهاب، فذلك وحده كفيل بتقليص كمية الإرهاب في العالم وتلاشيه))
يفضح دوافع الإرهاب المستترة بأقنعة الديمقراطية ، وحقوق الإنسان، ونزع أسلحة الدمار الشامل، والتسلط والسيطرة، وإساءة استخدام القوة ، وصاحب المصلحة في ذلك كله.