الهوية والحركية الإسلامية
ينطوي على حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري حول الإسلام والغرب والحرب ضد الإرهاب ويدرس الحركات الإسلامية ويتناول مصر والعالم العربي والخصوصية والهوية والانتفاضة.
ينطوي على حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري حول الإسلام والغرب والحرب ضد الإرهاب ويدرس الحركات الإسلامية ويتناول مصر والعالم العربي والخصوصية والهوية والانتفاضة.
مقدمة
سوزان حرفي
ثلاث سنوات كانت رحلة هذه السلسلة حتى اكتمالها، أتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية التأخير بسبب عملي خارج مصر، واقتصار اجتماعاتنا المحورية على فترات زيارتي للقاهرة. ولم يكن الدكتور عبد الوهاب المسيري متعجلاً عليها في البداية، فكعادته كان يعمل على عدد من الكتب يريد الانتهاء منها أولاً، ولكن بعد أن أخذت السلسلة شكلها النهائي اشتد إلحاحه على إصدارها، وأخذ يشير إليها في معظم لقاءاته، وحدد أيلول/سبتمبر ألفين وثمانية موعداً زمنياً أقصى لصدورها، وجاء أيلول/سبتمبر ولم تأخذ طريقها للمطبعة. وتجمد الورق بين أيدينا مع غياب صاحبه عن متابعة التفاصيل، ولكن بقي كلام الدكتور المسيري قبل رحيله فيما يتعلق بالحوارات يلح علينا لننجز ما أراد أن يراه بين دفتي سجل في وقت يقترب مما كان مخططاً له.
فالمسيري كان شغوفاً بتقديم مسيرته الحياتية والفكرية ورؤاه لأكبر عدد من الناس من غير المتخصصين أو المهتمين، وكانت إحدى أهم رسالاته توسيع قاعدة المعرفة؛ لأنها اللبنة الأساسية لتوسيع قاعدة المشاركة. وجاء أسلوب الحوارات، الذي بُني على صيغة السؤال والجواب يمثل صورة مثلى لسعي الدكتور المسيري الدائم إلى تبسيط القضايا مما يساعد على سهولة انتشارها ووصولها إلى القاعدة العريضة من القراء.
وهذا العمل يبلور شخصية الدكتور عبد الوهاب المسيري الموسوعية المتعددة الاهتمامات من فكر ومعرفة إلى تاريخ وفلسفة مروراً بالثقافة والفن والسياسة. فمع غزارة إنتاج المسيري ظل اسمه مرتبطاً بموضوعات اليهود واليهودية والصهيونية والغرب وما يطرحه من إشكاليات. ويجهل غالبية الناس ما للمسيري من إسهامات فكرية وفلسفية في حقول أخرى متنوعة، يأتي على رأسها مجال تخصصه الأساس الأدب الإنجليزي، وكذا قصص الأطفال وكتابة الشعر، وهذا ما تحاول هذه السلسلة إلقاء الضوء عليه من خلال عرض الجوانب الحياتية والفكرية بشكل شامل بعد أن سبق عرضها عبر مؤلفات متخصصة تصب اهتمامها على قضايا بعينها.
كما أن هذه السلسلة فرصة لطرح آراء المسيري في قضايا لم يصدر فيها مؤلفات، وقد لا تكون محل اهتمام كبير في اللقاءات الإعلامية على أهميتها وقيمة ما يطرحه فيها المسيري من آراء، كالحب والفن والأغاني والقضايا السياسية ومشكلات الأحزاب وغيرها. وتنبع أهمية رأي المسيري في هذه القضايا من زاوية نظره وقراءته لها، حيث يضع كلاً منها في سياق خاص وآخر عام فيشكل منها نموذجاً، أو يضعها هي داخل نموذج تفسيري. فهو يسقط رؤيته الكلية على الأحداث التي قد تبدو مجرد تفاصيل عابرة أو سطحية، ولكن بعد إخضاعها للنظرة المتفحصة نجد أنها جزءٌ من منظومة يريد من يقف خلفها ويتبناها أن تسود، ونحن بدورنا نقف أمامها إما مقلدين عن غير وعي أو ناقلين منبهرين. ويحاول المسيري بمنهجه أن يدفع كلاً منا ليفكر قليلاً قبل أن يختار، ولو البسيط من الأمور أو السلوك أو الآراء، ليعرف أولاً ما هو النموذج الكامن وراء ما يفعل، وما هو النموذج الذي يجب أن يتبناه ويستبطنه.
وتضم هذه السلسلة في ثناياها عرضاً لأهم محطات المسيري الحياتية والفكرية، وإنجازه الموسوعي اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد ، والظروف التي أحاطت بالعمل، والصعوبات التي واجهها، وردود الفعل والانتقادات التي وُجِّهت له، وكيف استقبل العامة والخاصة هذا العمل الذي استثمر فيه جهداً لما يزيد على ربع قرن من عمره، وكذلك اجتهاده المميز وغير المسبوق في الاهتمام بقضيتين مصيريتين بحكم تحديات الواقع المُعاش الآن وهما المجاز والعلمانية. كما تضم عرضاً لآرائه في واقع حال مصر والأمة العربية والإسلامية، وكذا رؤيته لحال الفكر والثقافة والمثقفين العرب، إلى جانب نظرياته المتعلقة بالزواج وتجربته الشخصية التي استمرت ما يقرب من خمسين عاماً ولم تفقد حيويتها. مع ذلك لا يمكن القول إن هذه السلسلة تختصر المسيري فكراً ومسيرة، إذ لم تصل لمستوى حصاد حياته ولم يكن هذا هو الهدف منها في الأساس، ويمكن وضع هذا العمل في إطار التقديم والتعريف بتجربة ثرية كمسيرة عبد الوهاب المسيري، فهو يعرض بكثير من التفصيل الملامح العامة لهذا الموسوعي متعدد الاهتمامات.
وقد شكّل هذا التنوع إحدى الصعوبات التي واجهتني في أثناء عمليات التصنيف والحذف والإضافة، فهناك ما كنت أراه تكراراً لبعض الأفكار ضمن الإجابات عن أسئلة تحت عناوين مختلفة، وكنت أميل إلى حذفها من بعض المواضع والحفاظ عليها في أكثر العناوين ارتباطاً بها، لكن ذلك أثّر بطبيعة الحال على مضمون الفكرة، وناقشت ذلك مع الدكتور المسيري فرفض الحذف ووضح ما كان معروفاً من أن وحدة الرؤية النابعة من مرجعية نهائية لا تعني هنا تكراراً وإنما هي وضع الحدث في سياقه العام المفسر. فالرؤية التي تحكم المسيري رؤية شاملة يتم إسقاطها على العناوين المختلفة مما يدعم تأكيدها ويساعد على تفسير الحدث ليس في ذاته فقط بل وفي ارتباطه بالأحداث والقضايا بمجموعها. وهذه إحدى سمات فكر المسيري الذي يتعامل مع قطاعات المعرفة المختلفة برؤية ومرجعية حاكمة قادته للتفسير والحكم على ما يتعرض له من قضايا فلسفية معرفية فكرية.
هذا على مستوى الرؤية، أما على مستوى الأحداث والأمثلة فقد تكرر الأمر نفسه، حيث يمكن للمثال أن يكون معبراً وشارحاً لعدد من القضايا، وهو ما دفعنا إلى استخدام حدث ما أو مثال شارح في أكثر من موضوع متعلق، مع مراعاة أن زاوية النظر تختلف من موضع إلى آخر.
وهناك مشكلة أخرى واجهتُها في أثناء التحرير؛ إذ تشتمل هذه السلسلة على عديد من الموضوعات؛ بعضها جاء ليعالج قضايا عامة، ومن ثم لم تكن هناك مشكلة في التعبيرات والكلمات المستخدمة فيها، وبعضها كان متخصصاً وهنا تجلت قضية المصطلحات والمفاهيم والأفكار التي تدخل في إطار التخصص والتي قد تربك غير المتخصصين. وكان أمامنا إما تجنب كل المصطلحات ذات الصبغة التخصصية أو التعبير عنها بلغة عامة تتناسب وعوام الجمهور. واخترنا طريقاً ثالثاً وهو الحفاظ على التعبيرات والآراء والمصطلحات المتخصصة على أن تأتي ضمن سياق لغة بسيطة وأفكار ورؤى واضحة، لأن حذف كل المصطلحات قد يدفع بالموضوع إلى العمومية أو التهميش. وقد ساعدنا على استخدام هذا النهج أسلوب المسيري في الكتابة والتخاطب بوجه عام والذي يتميز بسهولة وبساطة لا يخلان على الإطلاق بعمق ما يطرح، بل على العكس تماماً فهما يؤكدانه ويكرسانه.
وها هي ذي السلسلة اكتملت بعد أن كانت فكرة أتت في أثناء زيارة لي للدكتور المسيري، وكنت أناقشه في كيف يمكن للإعلام أن يضيف جديداً ليس على مستوى الحضور العام للضيف فقط وإنما على مستوى الفكر أيضاً، وكيف أن بعض اللقاءات التي أُجريت معه كانت ذات قيمة عالية وبعضها الآخر -وإن كان رصيناً - جاء مفتقراً إلى العمق، وأن بعض المحاورين نجح في أن يخرج من الدكتور عبد الوهاب المسيري ما يمثل إضافة حقيقية بعيداً عما سبق نشره من أعمال متوافرة في المكتبات العامة أو على الشبكة الإلكترونية، ومثل هذه اللقاءات جديرة بإلقاء الضوء عليها. ووافقني الدكتور المسيري في ذلك -وإن اختلف معي في تقييم المفيد من غيره فيما أجراه من لقاءات إعلامية- حيث كان من أشد المهتمين بالإعلام والمحدثين بقيمته وأثره. وهنا سألته: لماذا لا تعطيني كل الحوارات التي أُجريت معك أجمعها وأصنفها وأضعها في كتاب لنَرى الجمهور وحكمه إلى أي منا سيميل؟ فرحب بالفكرة ثم طوّرها لتكون تلخيصاً للمسيرة الفكرية والمعيشية عن طريق السؤال والجواب... وبدأت الرحلة.
وافاني الدكتور المسيري بما يحتفظ به من لقاءات وحوارات وما كتب عنه وعن أعماله منذ ستينيات القرن الماضي حتى تاريخ لقائنا. والمدهش، وإن كان متوقعاً، أن الأسئلة عن أهم القضايا التي طُرحت للنقاش كانت تتكرر على مدار أربعة عقود. وإن شئنا الدقة قلنا إن الأسئلة والإشكاليات موضع الجدل، والسجالات الفكرية والسياسية الدائرة في العالم العربي والإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن الحادي والعشرين؛ هي ذاتها، حيث لم يتم حسم الموقف من هذه القضايا بعد. وجدير بالملاحظة أيضاً أن المحاولات الجادة للدكتور عبد الوهاب المسيري في تفكيك الظواهر وتفسيرها لم تتوقف على مدار العقود الأربعة ولم تتحول إلا بقدر تبلور رؤيته، مما أدى إلى تعميق نظرته ووضع الأحداث داخل سياق واضح المعالم سهّل قراءتها وتفسيرها. ولم يقف المسيري عند هذا الحد الذي يشترك فيه كثيرون وإنما حاول بناء نماذج يمكن من خلالها توليد بديل أو بدائل يمكن اتباعها للخروج من التيه وإنجاز التحقق الإنساني.
والملاحظ أن رؤى المسيري تحفظ للإنسان توازنه الذي قد يفقده تحت وطأة الأحداث والتطورات المتسارعة التي يشهدها الواقع المحيط عن طريق إخضاعها لقراءة تفسيرية. فالتفسير لدى المسيري هو أهم مراحل الفهم، ولهذا اتبع منهجاً تفسيريّاً مبنيّاً على التحليل والنقد الذي يجعل الفرد كائناً أمام الآخر وليس مجهولاً أو مهملاً.
ومن هنا كان تأكيده الدائم على قيمة الهوية ودورها، ليس في حماية الأمة فقط بل وفي تقدمها. وشكّلت الهوية أهم عناصر النموذج الذي حاول المسيري صكه للبناء وللإعمار، وهو نموذج مستلهم من البيئة العربية والإسلامية غير مهزوم أمام الآخر. وفي هذا السياق أتت الانتفاضة لتستحوذ على إعجابه الشديد لا باعتبارها مجرد مشروع للمقاومة والتحرير - وهي قيمة في حد ذاتها ومدعاة للفخر - بل باعتبارها أيضاً نموذجاً خلاقاً يقف بقوة أمام النموذج الاستهلاكي الغربي الدارويني. فقد قدّم الفلسطينيون من خلال الانتفاضة مثالاً مميزاً للقدرة على التكيف مع الواقع، والاستفادة من مقومات الطبيعة الفلسطينية، والعودة للمخزون الحضاري في لاوعي الإنسان العربي، ثم إبداعها في إحياء التراث واستحضار حكمة الأجداد. ومن ثم شكّلت الانتفاضة عودة للمعجم الحضاري الإسلامي واستخدامه على النحو الأمثل مع مواكبتها للعصر وتطورها مع الحدث الآني، فقدمت بهذا نموذجاً للحياة والتنمية أسماه المسيري "نموذج التكامل غير العضوي". وما كان ليتأتى للمنتفضين القيام بذلك لولا إحساسهم بقيمة ذواتهم وتحققهم أمام عدوهم، حيث عرفوا نقاط ضعفه وما أصبح عليه، واختبروا إمكاناته الحقيقية على أرض الواقع ولم يستسلموا للصور والأفكار السائدة، وإن لم يدرك كثيرون منهم ذلك بعقله الواعي، فانتصار الانتفاضة نابع من تحقق الهوية الفلسطينية.
ومن هنا كان دفاع المسيري عن الهوية - لكونها السلاح وبداية الطريق - ليس من باب الكلام المرسل أو الشعارات التي يرددها بصدق كثير من مثقفي الأمة، وإنما عن دراية بسبل تأكيد الهوية. فقد رأى المسيري أن أولى خطوات النهضة هي إعادة الثقة فيما نملك، فلدينا قيمة مطلقة من استخلافنا في الأرض إلى جانب قيم واقعية متمثلة في الموروث الحضاري والقيمي. وثانية الخطوات هي إعادة تعريف الآخر وفقاً لما يطرحه والنتائج التي يحصدها من هذا الطرح، وعدم الاكتفاء بتعريفه وفقاً لما يفرضه هو من تحيزات، ثم الوقوف والتحرك في الحاضر صوب مستقبل تسوده قيم الإنسانية المشتركة وليس الفردوس الأرضي المزعوم.
ولم يكن المسيري لينجز كل ما أنجزه على صعيد الفكر والمعرفة لولا إدراكه لقيمة الإنسان ومقدرته على الحركة والاختيار الحر. فقد كانت المسيرة دائماً مسكونة بالأحداث والتفاصيل، وبعض هذه الأحداث فقط يمثل المحطات الرئيسية في الحياة ويحدد اتجاه الإنسان، وبعض من هذه المحطات يحدد توجهاته وتحولاته. وتكتسب التفاصيل أهميتها بقربها أو بعدها من المحطات أو التحولات الفاصلة، والتفاصيل ليست بالقليلة في حياة ابن دمنهور كما أن المحطات هي الأخرى كثيرة، إلا أن حياته لم تشهد كثيراً من التحولات، وما حماه من التقلبات والتحولات الكثيرة أنه امتلك منظومة أخلاقية وقيماً عامة صاحبته عبر مسيرته، كما أنه وضع لرحلته الفكرية هدفاً نهائياً حدده منذ البداية، وهو ما أعانه أيضاً على أن يكتشف الطريق الذي منحه الإجابة عن جل تساؤلاته، فاختاره وسار فيه.
ولم يكن المسيري يستطيع العيش خارج نسق يفسر سلوكه ويحكمه، ويفسر له ما يحدث من حوله، ولذا تولدت لديه أسئلة وجودية شغلته منذ كان يافعاً وبقيت معه وتطورت بتطوره، وطرق عدداً من الأبواب الإيديولوجية بغية الرد عليها إلى أن أدرك وجود الله المتجاوز للسطح المادي، فآمن إيمان الواعي المدرك المحب، ليشكل تحوله من ضيق المادية إلى رحابة الإنسانية، والإيمان التحول الأهم في حياته. وإذا كان البعض يراه أحد التحولات، فإنني أميل إلى القول إنه التحول الوحيد على مستوى المسيرة الفكرية.
أما على مستوى تحوله من الأدب الإنجليزي إلى اليهود واليهودية والصهيونية فلا أراه إلا انتقالاً أو لِنَقُل تغييراً في الأولويات وليس تحولاً بالمعنى الحرفي للكلمة، فالأدب الإنجليزي كان المدخل الرئيسي لإدراك الدكتور عبد الوهاب المسيري لمضامين نهاية التاريخ ووحدة الوجود المادي في الغرب في أثناء إعداده للدكتوراه في شعر وليام ورذورث وولت ويتمان شاعر الديمقراطية الأمريكية كما يدعي الخطاب التحليلي الأدبي الأمريكي، وهذه الرؤية فسّرت له طبيعة الصهيونية ومنطلقاتها. كما أنه لم يهجر الأدب الإنجليزي أو يتهجم عليه؛ بل ظلت علاقته به قوية لكنها ثانوية في إطار اهتماماته.
ومن خلال إدراك المسيري لمعنى الله المتجاوز استطاع أن يضع نماذجه التفسيرية التي تحدد علاقة كل من الخالق والإنسان والطبيعة أحدها بالآخر، ومن ثم أصبح بالإمكان قراءة الأحداث، على تنوع مجالاتها وساحاتها بين فكر ومعرفة وسياسة وأدب وفن وثقافة، من خلال وضعها داخل نماذج فضفاضة لا تنغلق على ذاتها. وأُومن أن النماذج التي وضعها المسيري تعتبر من أهم إنجازاته الفكرية. وإذا كان قد حقق إنجازاً غير مسبوق في دراسته التشريحية لليهود واليهودية والصهيونية فإن نجاعة هذا التشريح جاءت عبر قراءتهم من خلال نماذجه التي يمكن تطبيقها على معظم ما يحدث في العالم. وعليه فمن غير المستغرب أن تدخل أغنية لروبي أو نانسي عجرم ضمن إطار هذه النظرة الفلسفية لأنهما خضعتا للنموذج ولم تقفا عند حدودهما الذاتية كإحدى تجليات الفيديو كليب بل هما من تبديات التحيز للنموذج الغربي وما فيه من مضامين تحاول تطبيع الجنس وإعادة الإنسان إلى ذاته وغرائزه.
وفي هذا الجانب أقر بأن النماذج كانت بحاجة إلى مساحة وتعميق أكثر بكثير مما أتت عليه، ولكن السعي للإيجاز وتقديم الأهم داخل كل عنوان كان هو المعيار الحاكم. وتبقى مؤلفات المسيري وما فيها من شرح وافٍ معيناً لمن يرغب في الاستزادة.
وكانت هذه السلسلة في الأساس تجميعاً للِّقاءات التي أُجريت مع المسيري منذ أواخر الستينيات، فقمت بتصنيفها وتبويبها طبقاً للموضوع، ثم رتّبت الأسئلة تحت كل عنوان فتَكَوّن هيكل لبعض الموضوعات وعظام متناثرة لبعضها الآخر، في حين أخذ قليل منها شكله النهائي. وعرضت الناتج على الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي رأى أنه نواة لعمل جامع، واقترح أن نضيف إليه المحاضرات والندوات إلى جانب اللقاءات التلفازية، وساعدت الأسئلة والأجوبة المضافة في ملء بعض الفراغات، لكنها أيضاً طرقت عناوين جديدة تمت إضافتها، فأخذ كل موضوع ملامحه ولكن بقيت المعلومات الواردة تحت كل عنوان كحاملات الجسور تحتاج إلى وصل المسافات وملء المساحات فيما بينها، وتم ذلك من خلال جلسات بيني وبين الدكتور المسيري والدكتورة هدى حجازي وأخرى دعا إليها الدكتور عبد الوهاب المسيري عدداً من تلاميذه الذين ناقشوا عدداً من الموضوعات التي كانت بحاجة إلى استكمال. وجاءت أسئلة واستفسارات الحضور ووجهات نظرهم وإجابات الدكتور المسيري لتكسو العظام لحماً فتجسدت الحورات في شكلها قبل النهائي، وعند هذه المرحلة أصبح الموضوع هو المركز بعد أن كان التركيز في البداية ينصب على النقاط الرئيسية والأسئلة محل اهتمام الإعلام واللقاءات.
ولم يكتف الدكتور المسيري بذلك، بل قام بتوزيع الأبواب والفصول على تلاميذه وأصدقائه كل حسب اهتمامه وتخصصه ليطرحوا ملاحظاتهم ويضيفوا من الأسئلة والنقاط ما يرون أنه قد فاتنا ونحن في زخم الانفعال بالعمل. لتعود مجتمعة للمراجعة وإعادة ترتيب الأسئلة والإضافة والحذف مرة ثانية وثالثة وقبل نهائية ونهائية. ولقد استفدت أيما استفادة من أسلوب المسيري في إنجاز أعماله الفكرية على مستوى الجهد والتدقيق، وأيضاً الرحلة المارثونية لمادة هذه المجموعة بين عدد من المعنيين والمهتمين، التي لم تقتصر على إثراء الأفكار وملء الفراغات بما أضافه كلُّ من وُضعت المادة أو جزء منها بين يديه وحسب، بل كانت رحلة عبّرت عن ذكاء المسيري التاجر بحكم الوراثة، فردود الفعل الآتية من أشخاص مختلفين كانت نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه استقبال الجمهور عبر عينة كاشفة من الأصدقاء والأبناء والتلاميذ.
ونتيجة لذلك، كانت هذه السلسلة تجميعاً للحوارات التي أجراها صحفيون وإعلاميون ومتخصصون ومهتمون عبر محاضرات أو ندوات أو لقاءات إعلامية، مضافاً إليها ما قام به أبناء المسيري وتلامذته من استكمال الموضوعات، ولذا فهو ثمرة مجهود جماعي قمت فيه بدور المنسق والمحرر، فالشكر هنا واجب ومستحق لكل من أجرى حواراً أخذناه كاملاً أو وزعناه على عدد من الفصول، والشكر لكل من طرح سؤالاً كان له أثر في لفت النظر إلى تعدد اهتمامات المسيري أو فتح لنا باباً لفكرة جديدة. وفي هذا السياق أشكر الدكتور أحمد عبد الحليم عطية الذي كانت حواراته مع الدكتور المسيري خير معين لنا، والشكر كل الشكر لمن واكب هذا المشروع فكرة وجمعاً حتى نهايته بمجهود بحثي أو نقدي، وكل من منحه من وقته واهتمامه، وأخص بالذكر الأبناء الأدبيين (إن جاز التعبير) للدكتور المسيري: الدكتور محمد هشام، والدكتورة جيهان فاروق، والدكتور ياسر علوي. ولا يفوتني هنا تقديم الشكر للسيدة منى البقلي التي بدأت رحلة جمع الأحاديث الصحفية وتصنيفها وبذلت في ذلك جهداً كبيراً. كما أتوجه بالشكر إلى السيدة أماني عزت التي تولت كتابة المخطوطة على الحاسوب، وكذلك إلى جميع العاملين في مكتب الدكتور عبد الوهاب المسيري على ما قاموا به من متابعة ودور محمود في إتمام العمل؛ فشكراً للأستاذ فضل عمران والأستاذة دينا رمضان.
وشكر خاص إلى الدكتورة هدى حجازي، التي كانت رفيقة الفكرة، وشريكة الجلسات، وصاحبة الفضل الأكبر في إكمال رحلة الحوارات بإشرافها على متابعة النسخة الأخيرة وطباعتها، فلها التحية والتقدير الكبيران لشخصها أولاً ولإصرارها ثانياً على استكمال ما أوصى به الدكتور عبد الوهاب المسيري فكانت خير راع لما ترك.
وغني عن القول أنني من أشد المعجبين بأفكار المسيري ورؤيته التي تتسم بالوضوح وصفاء الرؤية. فقد كان المسيري يمتلك قوة ملاحظة استثنائية تجعله يتوقف أمام ما يمرره كثيرون باعتباره من باب الأمر الواقع أو الشيء الطبيعي ليراه هو تعبيراً عن نسق أو تحيز أو نموذج ما. كما كانت لديه قدرة فائقة على وضع النظرية التي يمكن من خلالها قراءة الحدث العابر أو الموضوع البسيط أو القضية السطحية. وكانت هذه ميزة فكرية كبيرة ولكنها أيضاً مصدر استمتاع بما يكتب، والمصدر الأشمل للاستمتاع بكتاباته وحواراته هو أسلوبه السهل الناطق بخبايا وتلابيب الأفكار والمغلف بخفة ظل لا تفارقه في أكثر القضايا تعقيداً وعمقاً. وهذا الاستمتاع قادر على سرقة اهتمام المتلقي رغماً عنه أحياناً، وهو ما حدث معي طوال تحريري لهذه السلسلة، فتحولت مرات كثيرة إلى قارئة أكثر مني محررة، وكنت أقرأ كثيراً من الأجزاء لنهايتها ثم أعود مرة أخرى لقراءتها بعين المحرر وليس بعقل المتلقي. وأرجو أن يكون الحال نفسه مع كل قارئ وأتمنى أن يكون صدى هذا العمل في حجم ما توقعه الدكتور المسيري له.
وختاماً أدعو الله عز وجل أن يأجر صاحبه على كل ما جاء فيه من قول كان يعبر به عن سعي سعاه نحو الله، أو عن فعل ابتغى من ورائه تحقيق العدل وإعمار الأرض.. والله عنده خير الجزاء.
سوزان حرفي - - الدوحة - تشرين الثاني/نوفمبر 2008
يتناول حوارات أجريت مع الدكتور عبد الوهاب المسيري حول الهوية والحركية الإسلامية، والإسلام والغرب والحرب ضد الإرهاب، ومصر والعالم العربي، والخصوصية والهوية والانتفاضة.
ويبحث في اتساع ساحة الخطاب الديني في غياب السلوكيات المترجمة له، وأثر الانتفاضة في المجتمع الإسرائيلي، وأحداث 11 أيلول ، والإرهاب، وإخفاق المسلمين في خلق تيارات مؤثرة، واستهداف الهوية ومواجهته، والإسلام في مواجهة الإمبريالية الاستهلاكية، وفي موقفه من اليهود ومن منظومة التحديات الغربية، وأسلحة المعرفة والحداثة البديلة، والإعلام العربي في الغرب، وإعلان حقوق الإنسان، وانتشار ظاهرة الحجاب.
ويتحدث عن الانتفاضة الفلسطينية والإنسانية الإسلامية وأهمية تفعيل الهوية، والتيار الإسلامي في مصر، وحزب الوسط، وحماس وفوزها بالانتخابات، وحوار الأديان، والخطاب الإسلامي الجديد والقومي، ودور المفكرين في مواجهة الهجمة على الإسلام، وأهمية الديمقراطية، والصحوة الإسلامية وتفسيرها، وصراع الحضارات، وظاهرة عمرو خالد، وعوامل التوتر والحرب على الإسلام، وملامح الخطاب الإسلامي الجديد، وموقف الإسلام من الآخر والحداثة والتحديث في الغرب، وميزات خطاب عمرو خالد.
ويدرس هدف الإمبريالية الجديد، ودور الصهيونية في التحريض على الإسلام، والهوية والإشكالية والحل، والإبداع والدور الثقافي. واليهود في القرآن وفي الواقع المعاصر.