مفهوم لابد منه - بمعنى الترجيح في الحقيقة وصلته بالقناعة - في كل أطرها؛ "Plousibilty" إن البحث في القناعة خارج إطار المعرفة العلمية، وحتى داخل إطارها، حين ينطلق من فلسفة مصيرية؛ تهدف إلى السعي إلى إيضاح إشكال المصير الإنساني لكلٍّ منا، لا يقوم على أسس تعليمية أو تفسيرية للمواضيع التي يعالجها؛ لأن هدفه ليس تأكيد عقيدة ما أو نفيها، أو ترسيخ أي وجهة نظر على حساب أخرى، ولا هو يستعمل اللاأدرية "Agnosticism" لمحاربة "الدوغمائيات" الاعتقادية، من خلال تبيان أن الكثير مما تطرحه لا يمكن تأكيد صحته أو نفيها، بل على العكس من ذلك يمكن تأكيد صحة أي طرح معرفي أو نفيها في مدى ما فيه من اقتراب من الحقيقة، والتي تكشفها المعرفة الإنسانية بكشف وقائع "Facts" جديدة تمس ما نعالج بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وحياد بالنسبة إلى الموضوع أو مؤثرة به بشكل واضح. فكما أن لكل حدث كثيراً من الأسباب التي يمكن لكل منها أن يسببه، كتعدد أسباب الموت، والموت واحد، كذلك فإنَّ لكل واقعة قدرة محكومة بمعرفة زمان ومكان من يفسرها يشكلان خلفيته الثقافية، فكلما تقارب التفسير، عبر أزمان مختلفة وخلفيات ثقافية مختلفة، وحتى أديان مختلفة لا صلة واضحة بينها، قرب التفسير من الحقيقة، وهذا لا يعني أن كشف الوقائع "Facts" لا يحصل إلا بأسباب مختلفة، كالقول مثلاً لمن مات بالطاعون في زمن ما، إن هناك أسباباً أخرى لموته لا نعرفها، بل يعني أن تعاضد تفسيرات السبب الواحد بإلقاء إضاءات متقاربة التشابه عليه، هو الذي يقربنا من حقيقته، فالذي ربط صلة الطاعون بالقوارض اقترب من استقراء مفهوم العدوى، والذي ربط العدوى بضرورة الحجر الصحي رجح "Plausible" ضرورة البحث في كيفيتها، إلى أن عرفت البشرية مكروب الطاعون فقضت عليه، وهو الذي كان يسبب الجائحات المرعبة التي كانت تقضي على النمو السكاني في القارات. لكن المسألة فلسفياً يجب ألاَّ تقف بحالة مثال الطاعون عند كشف مكروبه، ومن ثمَّ كشف المصل و اللقاح الواقي له، بل يجب أن تتعداه إلى التساؤل عن سبب ظهور فيروسات Ž* - اليوم - هي أخطر من الطاعون، ومدى صلة هذا الأمر بالقوانين الخفية للطبيعة في حتمية التوازن بين الأحياء كلها، والذي نخرقه بكشف قوانينها ووقائعها "Facts" . إذ يبدو الأمر كما لو أننا كلما كشفنا قانوناً من قوانين الطبيعة عارضنا قانونٌ آخر من قوانينها، وكأنما تقول لنا: أنا لم أخلق من أجلكم، ولكل كائن الحق بي مثلكم، ولي الحق بألاَّ أجعله يطغى عليَّ طغيانكم، فإذا اعترضنا معترض بأن "الطبيعة" ليست كياناً ناطقاً، لذلك لا يصح عليها هذا المجاز؟! قلنا ورجحنا "Plausible" أنها كيان عاقل !! ولكنه قد لا يكون معقولاً منا، فكون الكون كله والطبيعة الأرضية جزء منه عاقلين، لا يعني أنهما معقولان من قبلنا بأدواتنا العقلية. لذلك يخطئ من يظن أننا في بحثنا هذا عن "القناعة" خارج إطار المعرفة العلمية نسعى إلى فرض معقوليتنا الثقافية على الآخرين؛ لأننا لا نحن ولا هم قادرون على فرض أي معقولية ذاتية - حضارية - على هذا الوجود، وجل ما في الأمر أننا نبحث عن بعض أوجه التطابق العقلاني بين المذاهب والأفكار المختلفة، لنعلن اقترابنا من هذه الحقيقة أو تلك، التي تشغل مسائل المصير البشري "Plausible" ، فإذا نجحنا ببعض منها تمَّ الغرض من هذا الكتاب. فهذا الكتاب - البحث - ليس دراسة في تاريخ الأديان أو العقائد ، ولا هو استعراض مدرسي حيادي لطيف معها، إنه نقد بكل الوسائل الفكرية الثقافية المتاحة لي عبر خلفيتي الثقافية، لنقض ما لا يفيد أي ترجيح للحقيقة "Plausible" من ترابها، بحثاً عن التبر المرجح، لما يفيد رؤيتنا بصورة أوضح لفلسفة المصير التي أسعى إليها في كل كتاباتي!! وبعبارة أخرى أنا أسعى وراء الاقتراب من الحقيقة خارج إطار المعرفة العلمية حول أي واقعة "Facts" مصيرية، أو متصلة بالمصير يمكن تأكيدها، ولمزيد من الإيضاح نأخذ هذا المثال: قال القزويني : (زعموا أن شكل الأرض كرة... ثم إن الإنسان في أي موضع وقف على سطح الأرض فرأسه أبداً، مما يلي السماء... وهو يرى من السماء نصفها.. ومن القدماء أصحاب "فيثاغورس" من قال: الأرض متحركة دائماً على الاستدارة، والذي نرى من دوران الفلك إنما هو دور الأرض لا دور الكواكب... لا تميل إلى ناحية من الفلك دون ناحية؛ لأن قوة الأجزاء متكافئة، مثل ذلك حجر المغناطيس الذي يجذب الحديد، لأن من طبع الفلك أن يجتذب الأرض، وقد استوى الجذب من جميع الجهات)[(632)]. "فالقزويني" هنا لم يتحدث عن شكل الأرض فقط بل عن حركتها أيضاً، إضافة إلى قوى الجذب بين الأفلاك وشبهها بالمغناطيس، وقد عرض كل هذا ضمن آراء فلكية مختلفة لم تستقرئ الجاذبية كما فعل " نيوتن " بعد " القزويني " بـ(362 سنة) تقريباً، حين وضع معادلة الجاذبية الكونية الهامة لسرعة السقوط "سر" = تسارع الجسم الساقط "تع" × مربع الزمن المقطوع "زŽ2". والتي لا قيمة لعلم الفيزياء لولاها، ولولا معادلة "الزمانكان" - الزمان المكاني - المشهورة، "لأنشتين": الطاقة E الكتلة M × مربع سرعة الضوء "E = MCŽ2" . بين (القزويني) و(أنشتاين) يمكننا أن نلحظ الصفة الأساسية في كشف كل حقيقة لتحويلها إلى واقعة "Fact" ، لكن خاضعة لإرادة الإنسان "will" بصفة الاقتراب من كثير من جوانب الحقيقة دون بلوغها كاملة، وهو ما يعبر عنه بالصفة الترجيحية للحقيقة "plausibility" . على أن نراعي الصفة السلبية لهذه الترجيحية أحياناً، حين تشد الإرادة المعطيات الموضوعية "Facts" نحو رغبة الوصول إلى القانون الذي يحكمها بأي ثمن! يقول القزويني: «ذكر أن في الهند قوماً إذا اهتموا بشيء اعتزلوا عن الناس وصرفوا همتهم إلى ذلك الشيء، فيقع على وفق اهتمامهم»[(633)] أي إرادتهم، وعلى هذا الأساس كانوا يطالعون الطالع. فقد جاء إلى بلاد الشام هندي يقال له "داناي هند" يستخرج طالع كل إنسان أراد، حتى جربوه بالطوالع الرصدية فلم يخطئ، فرفع أمره إلى السلطان فقال له: هل تقدر على استخراج غير الطوالع؟ قال: نعم. قال: أخبرني عما رأيت البارحة في نومي... قال: رأى السلطان أنه في سفينة وبيده سيف؟ فقال السلطان:.... لا نقنع بهذا القدر... فربما قال اتفاقاً، فامتحنه مرة أخرى فأصاب فقربه)[(634)]، وتقريبه هذا دلالة من دلالات دخول الثقافة الهندية في الفكر الإسلامي ، كما دخلت اليهودية في الفكر الغربي المسيحي . وإلا ما الفرق بين قول (القزويني) السابق وقول (كارل ساغان) عالم الفضاء المعاصر في كتابه: ( الكون عام 1993م): «لكن فيزيائيين آخرين يفترضون وجود تاريخين منفصلين، أو حقيقتين بشكل متساوٍ هما: تلك التي تعرفها، وتلك التي لم تولد أنت فيها قط... فإن كل تاريخ بديل يمكن تصوره، كان سيوجد فعلاً»[(635)] فالذي يستطيع أن يقفز بين فروع شجرة الزمن هذه، يقدر أن يرى المستقبل كما تؤكد القبالة اليهودية . ولعل تداول هذه الفكرة بين علماء الفيزياء الفضائية، هو الذي دفع بالعالم الفيزيائي الإنكليزي "فرانك كلوز" إلى القول: «ويرجع تسجيلات وابل "ليونيد" إلى سنة 909م.. وفي عامي 1833م - 1866م كان الوابل ساطعاً جداً.. ترى ما الذي تنذر به سنة 1999م؟»[(636)] الجواب لا شيء لأننا الآن سنة 2009م، ويتابع "كلوز" عن «تنبؤات "نوستراداموس" أن الرؤيا ستتحقق في تلك السنة تحديداً... نحو 21/يونيو..»[(637)]. وطبعاً هذا لم يحصل، لكن تداخل الصفة الترجيحية للحقيقة "plausibility" نحو رغبة الوصول إلى قانون، من خلاله نستطيع فرض إرادتنا على الظواهر باستعادتها متى نشاء، هو الذي يدفع بالتصور ثم بالأسطورة نحو العلم، ويؤكد هذا أيضاً ما زعمه "عمانوئيل فيليكوفسكي ": «أن جرماً ما... تحرك قبل 3500 سنة والتقى عدة مرات بالأرض والمريخ مؤدياً إلى انشقاق البحر الأحمر ، وبالتالي مكّن موسى و الإسرائيليين من الهرب من فرعون ، وكذلك إلى توقف الأرض عن الدوران بأمر من يوشع »[(638)]، من أجل تبرير الدعاوى التوراتية علمياً، وهذا ما قصدته من تداخل الثقافات من خلال الاعتقادات، فالاعتقاد بالطوالع أدخل الثقافة الهندية في الإسلام، والاعتقاد بالتوراة أدخل الثقافة اليهودية بالمسيحية ، بكل تسرباتها نحو العلوم الغربية اليوم. والسبب هو أن حقيقة هذه المعتقدات ترجيحية على الرغم من ادعاء أصحابها أنها مطلقة، ألم يكن "بطليموس" يعتقد بكتابه (المجسطي) أن الأرض هي محور الكون[(639)] نتيجة ترجيحه لهذا الأمر كما يراه عياناً من السماء فوقه؟ وهو العيان ذاته، لكنه الأوسع الذي دفع " هوكنغ " إلى القول إنه: «في كون لانهائي يمكن اعتبار كل نقطة فيه مركزاً له»[(640)]. علينا أن ننظر إلى المعطيات "Facts" ونفسرها بطريقة ترجيحية غير مطلقة ولا (لاأدرية) ، فإذا كنا نعرف مثلاً اليوم أن: «ما يدلنا عليه الراديو الفضائي "Radio Astronomy" من أن جزيئيات المادة كالميتان و الأمونيا والأمينو أسيد تصنع في الفضاء بفعل الأشعة فوق البنفسجية "Wltra violet" ، وأن البكتريا و الفيروسات تأتي من الفضاء بصورة دائمة»[(641)]، إذا عرفنا ذلك أدركنا ترجيحية "نيوتن" حين ادعى أنه «يظن أن الأرواح تأتي بصورة رئيسية من المذنبات »[(642)] تلك التي نجد فيها اليوم مواد عضوية! هكذا يجب أن نعلن أن هذا البحث في كل شروحه وانتقاداته وتساؤلاته يبحث عن الحقائق الترجيحية، دون شطط؛ أي تلك التي يمكن أن يقبلها العقل حتى ولو لم يقدر أن يخضعها للتجربة، من أجل أن تمكنه التجربة من تحقيق إرادته بصناعة القوانين التي تمكنه من الاستعادة والسيطرة على تلك الحقائق. والحقائق الواقعية "Facts" غير القابلة للتجربة، لكنها المعقولة، تتسم بسمتين: الأولى: أنها تقريبية ترجيحية. والثانية: لا تخضع للتجربة، لكنها واقعية أو ممكنة الوقوع! وكلاهما يوجد في الحقائق الدينية أو الاعتقادية، ويظهر منهما لا في الإيديولوجية " الدوغمائية "، بل بمدى ما فيهما من اقتراب من الحقيقة، أو ترجيح حدسي بها!! وهي أمور لا تخضع لقاعدة بقدر خضوعها لكل إمكان منطقي عقلي مرجح، لا بالحس العام "Common Sense" بل بالمنطق المثالي - عكس التجريبي هنا - بمعناه المُرَجَّح. لكن كل هذا ليس غطاء أخفي به ترجيحاتي الإسلامية للوقائع الدينية التي سأتناولها بهذا البحث، إذ أعلن هنا أن ترجيحاتي الإسلامية التي تشكل خلفيتي الثقافية تتسم بهذا العصر بالنسبة إلى من تصدر منهم من المسلمين إما بالتصلب، من خلال الاستشهادات الإسلامية بهذه المعرفة أو تلك في غير موضعها، أو بالتراخي بدعوى الوسطية الإسلامية والمراعاة بالتي هي أحسن، لذلك لا تراهم مثلاً يناقشون "التثليث المسيحي" لله - تعالى عن ذلك - ولا مفهوم "البراهما" الكونية في الأديان الشرقية التي تنفر من مبدأ الجوهر لتقر بأن هذا العالم الأصغر عينة من عالم أكبر، لترفض الأول وتسعى إلى الثاني المضخم، على كل ما في هذا من تعاسات. أما المسايرة الكبرى المتراخية الأخرى التي يقع فيها ما يسمى بالإسلام الوسطي اليوم، فهي مفهوم التناسخ و التقمص المتسرب إلى الفرق الإسلامية بحد ذاتها، من صوفية و باطنية . سواء ليكفر المسلمين أو ليسايرهم المتراخون منهم بدعوى الوسطية وتأليف القلوب، فنخطئ بحقهم وبحق الحقيقة وبحق أنفسنا، ما دام لدينا الإثباتات المثالية العقلانية والتجريبية العلمية التي تبطل هذه الدعاوى، ولا نبرزها خوفاً من خدش مشاعر الآخر أو على ظن أن الحقيقة - ولو كانت تقريبية - التي تسير بالفكر دوماً نحو مزيد من التقارب مع الحق، يجب ألا تكون سبب نزاعات وفتن العوام. فإلى متى سنقبل بالعامية جزءاً من تراثنا الذي تصنعه العصبية القبلية، وقد رسخه فشل التعليم المتجنب للحقيقة ولإبرازها، بشكل دفع مفكراً غربياً مثل برنارد لويس "Bernard lewis" إلى ملاحظة أن سبب تخلف الفكر الشرقي والعربي خاصة، هو في تجذر مفهوم أن «المعرفة هي شيء يجب استحواذه وإخفاؤه، وحتى شراؤه إذا دعت الضرورة، بدل تنميته وتطويره»[(643)]. وهذا أمر نرجح اتصاله بالخوف من سوء فهم العوام الذين راحوا يتكاثرون في العالم الإسلامي بسبب سوء أنظمته التعليمية والجامعية اليوم المرتبطة بفروعية تدعي الأصولية ، بدأها أمثال (الغزالي) بمثل ما عبر عنه بكتابه الشهير: (إلجام العوام عن علم الكلام) ، وهو الذي كتب أيضاً: (إفحام أهل البدع) و (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) [(644)]، فمن أراد أن يفحم ومن أراد أن يفضح إذا كان قراؤه من العوام، الذين يجب لجمهم عن الخوض بالقضايا العقلية؟! وفعل الإلجام هذا، إضافة إلى معناه التحقيري الذي ينزع عن الإنسان صفة الإنسانية لا العقل فقط، يعطينا أهم دلالة إيديولوجية على كيفية الاحتفاظ بالقناعات، لا عن طريق الإقناع بل عن طريق هيبة السرَّانيّة التي تصبح فارغة عند كشفها، ذلك أن المسكوت عنه في أي حضارة هو نقاط الضعف فيها وفيه مقتلها، لذلك كانت الشيوعية وما تبقى منها في الدول الذيلية بالاشتراكية المهترئة اليوم، دولاً بوليسية تمنع حتى إذاعة أخبار الكوارث الطبيعية، أو الوبائية أو حتى حوادث السيارات، ففي كل الدول التي تسيطر فيها الدولة على المؤسسات الخاصة وعلى الأفراد، أي في كل الدول التوتاليتارية "Totalitarian" هناك ممنوعات يجب عدم الحديث فيها، وبمجرد إحصائها يستطيع كل فرد أن يعرف مدى هشاشة وضع الدولة الداخلي، لدرجة يمكنني القول فيها: إن تغير أو انقلاب أو تعرض مثل هذه الدول لهزات حربية أو اجتماعية، يسوقها إلى تطفيح المحرمات بشكل عنيف وتحطيم "Taboo" ممنوعاتها، مما يضعها في حالة حرب أهلية أو تمزق اجتماعي. المسكوت عنه إذن هو الخطر الذي يمس كل حضارة إنسانية، وهذا المسكوت عنه في الحضارة الإسلامية والمحمي بهيبة السرانيَّة هو (التقية) الباطنية ، التي قادت الآخذين بها في نهاية المطاف، إلى عبادات سرانيّة أكثر وثنية من كل ما مرَّ به الإسلام من أصنام (مكة) ، حتى بجلباب خلفاء هذه الدولة الذين من المفترض أنهم رأس حماية بيضة الدين؟! فعادت من خلالهم كل وثنيات الثقافات السابقة إلى الإسلام من خلال بابي التقمص و التناسخ ، والخزعبلات الأفلوطينية المحدثة ؟! "التابو" المسكوت عنه إذن هو رسالة ضد الثقافة الطاغية، خطرها في العالم الإسلامي اليوم أنها تهيئ " الطابور الخامس "، أي أصحابها، لخيانة أنفسهم وتراثهم مع كل غزو أجنبي ثقافي أو حربي، فتجعل منهم عملاء حتى ضد المنتصر في دورية عَرَضُها التخلُّف واسمها الباطنية !! ولأن جذور هذا الخطر في ثقافتنا التي تهدد مناعة هذه الأمة الداخلية، قبل أي ادعاء بأن هذا التهديد يأتي من الصليبية أو من الاستعمار أو من الإمبريالية أو من الشركات العالمية - عولمة - اليوم، وتأتي جذور هذا الخطر من أحد الأديان قبل الإسلامية المتغلغلة بالمسكوت عنه في الثقافة الإسلامية ، إضافة إلى ما بها من شبه ترجيحات حقيقية، قد تبهر العوام بالوصول إلى اليقين إن هم اعتقدوها، فلابد من دراستها بدراسة أديان الشرق الأقصى المؤثرة فينا، تأثير الفلسفة الأفلوطينية والعهدين القديم والحديث على حد سواء. ومن مزيج هذه الحضارات المتداخلة والمؤثرة يجب أن نعرف موقعنا الإسلامي المتميز لا بترجيحات هندوسية بوذية ، أو سيخية تخلط بين الأديان Ž*، بل بترجيحات حقيقتنا الإسلامية بحد ذاتها في معزل عن كل هذا، لا بعزلها عن ثقافات وأديان العالم الأخرى بمسكوت عنه من أثرها فينا، بل بمعرفة هذا المسكوت وكل ترجيحاته التي يذيبها وهج المعرفة لا همجية الممنوعات. لهذا أضع هذا البحث حول الإيمان عبر القناعة خارج إطار المعرفة العلمية في كل الأديان السابقة على الإسلام والمحيطة به، والمؤثرة فيه وبمدى وطنية أبنائه وإخلاصهم لدينهم وشرفهم الوطني، على ألا تفهم الوطنية بمدى تمسك الإنسان بأرضه وبحبها، بل بمدى تمسك الإنسان بأبناء وطنه وحبهم، حتى ولو كانت قناعاتهم الإيمانية خارج إطار قناعاته وعكسها، من منطلق أن كل قناعات الإنسان الإيمانية بلا استثناء هي خارج إطار المعرفة العلمية وأقصد بالمعرفة العلمية هنا؛ كل معرفة تقوم على أسس عقلية بحتة، ومنطقية لا مجال للاختلاف فيها. فاختلاف الناس في هذه القناعات يجب أن يكون موضوع حوار شائق بينهم لا عداوة فيه، لوجود الحقيقة في كل رأي؛ وجود التبر في كل تراب، والباحث عن التبر يجب أن يلتقي مع كل المنقبين عنه ليتعاونوا على استخراج الذهب منه، وهذا يعني الأخذ بالمبدأ القرآني الراقي في قوله تعالى: {} [فصلت: 41/33-34] . هكذا يجب أن تكون أخلاق أبناء الوطن الواحد حتى نستطيع أن نتحدث عن شرف وطني، وحب وطن! ولمزيد من إيضاح هذا الأمر اسأل نفسك: ألا تظن أن اليهود يحبون فلسطين أكثر من الفلسطينيين ، بدليل أنهم عمروها أكثر؟! لكنهم يحبون فلسطين دون فلسطينيين، فإذا أحببت وطنك كما يحب اليهود أرض فلسطين صرت جزاراً مثلهم ضد كل من يخالفك بالدين والعقيدة، لأصدقْكَ القول أيها القارئ: إن إسرائيل لم تكن ولن تكون قدوة بين الأمم، وإن هي كانت فستكون قدوة للعصبيات العشائرية العرقية والتصحيفية على مر العصور في المجال الاجتماعي. و بجنون العظمة "Paranoia" في المجال النفسي ، لكل إنسان يظن أن الله خالق كل هذه المجرات و الأكوان وما فيها من مخلوقات، لم يختر من كل مخلوقاته التي لا يعرف عددها إلا هو - تعالى - إلا أجداد المجرم بن غوريون وتلميذه شارون وشلة " الهاغانا " قاتلة الأطفال والنساء والشيوخ؟! حباً بفلسطين ؟! إن اختلاف الناس خارج إطار المعرفة العلمية يجب ألاَّ يعلو على وطنيتهم، ووطنيتك التي لا تقوم إلا على احترام وحب متبادل، ومن دون هذين الشرطين لا بقاء لأي أمة من الأمم، إلا مدة بقاء إسرائيل مهما طالتْ، ومن دون هذين الشرطين أرجوك أيها القارئ ألا تكمل قراءة هذا الكتاب، فأنا لم أضعه على الرغم من كل عنف الحقائق التي فيه كي أصنع (دوغما) إيديولوجية جديدة تقسم الناس فئات، فعنف الصراحة الذي سوف تلاقيه بين طياته هو من قسوة الحقيقة بطبيعتها العنيفة حين الإيضاح. وأنا قد اخترت جانبها الإسلامي الذي لا خيار لي إلا إبرازه بكل إشراقه المبهر، عبر قناعاتي - إيماني - خارج إطار المعرفة العلمية ، وبكل ما أوتيته من قدرات ومعرفة منطقية، عسى أن تحرض من لا يرون رأيي على عمل مشابه أقرؤه بكل شرف وحب وطني، شريطة عدم حيدته عن المنطق، عسى أن نقترب بأعمالنا وبه من المعرفة العلمية ، أو لا نكون على مسافة قصية جداً من خارج إطارها على الأقل. فلنظهر كل ما لدينا من قناعات خارج إطار المعرفة العلمية ، بكل ما نملك من صراحة ومتانة اعتقاد، لنضعها على محكي العقل و النقل ، بكل عنفها الفكري الذي سيجنبنا - بحد ذاته - أي عنف طائفي و عشائري و دوغمائي أعمى، لأنه قد آن الأوان لهذه الأمة ألا تتستّر على كل المسكوت عنه تراثياً؛ لأنه سيفتضح على حواجز التعامل بين الناس فيها، كما فضحته حواجز القتل على الهوية في الحرب الأهلية اللبنانية ، والعراقية اليوم، فضيحتان هما سبب تخلفنا بين أمم الأرض، فهل سنستمر بالفضائح بدعوى إلجام الناس عن علم الكلام خوفاً من الكلمة، والسكين على رقابنا جميعاً؟!
الإسلام ليس إيديولوجيا هذا الكتاب ليس دراسة تقليدية لتاريخ الأديان والعقائد، بل هو غوص عميق فيها بحثاً عن الحقيقة العقلية الأصيلة. إنه رجوع إلى المعنى الأساسي والمحرمات والخرافة، وتفاعل المفاهيم الأساسية في كل منها مع بعضه الآخر (في اليهودية والمسيحية والإسلام والهندوسية والبوذية والسيخية والطاوية والكنفوشية وأديان أفريقية وأمريكة واسترالية، وصولاً للسحر والماورائيات) حتى العقائد اللا دينية، السياسية، والاجتماعية، التي - وأن كانت تعمل بآليات مغايرة للعقائد الدينية لبعدها عن الوعود الأخروية والتبشير لما بعد الموت - يجعلها التعصب بمنـزلة الأديان والإيمان المطلق. الكتاب بحث عن المسكوت عنه في الإسلام، والمحمي بهيبة السرانية التي هي التقية الباطنية الحامية لأصحابها من سطوة الفكر السائد. كيف تداخلت هذه المفاهيم والأفكار مع الإسلام، وتحولت إلى عقائد وإيديولوجيات متعصبة متصارعة. الكتاب يحاول أن يجيب عن كل ذلك
إن الأصول الأصولية التي بني عليها الإسلام كما بدأ، شكلت أسلوب عيش تمم مكارم الأخلاق العربية، بعد أن عدل ونقى وبصر بالأساليب الجاهلية فيها، ولذلك لم يشكل عقيدة بل استعاد {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 17/77]، وهذه ليست إيديولوجيا، لأنها ليست اعتماداً وحيداً على رأي وحيد، لا من الحضارات الإنسانية ولا من العقائد الشخصية الفردية، التي هي سمة الإيديولوجيا الأساسية. لكن "الفروعيات" التي تفرقت بفرقتها الفرق الإسلامية كلها بلا استثناء، شكلت عقائد مختلفة باختلافات قامت في أساسها على البنى الاجتماعية والفكرية لمن دخلوا الإسلام على اختلاف مللهم، هي ما يمكننا نعته "بالإيديولوجيا". وهذا الكتاب إذ لا ينكر الفعالية الشعوبية في الفرق الإسلامية، التي سميناها على عكس ما هو شائع: بالفروعيات لا بالأصوليات، تمييزاً لها عن أصول الإسلام، لما في صلبها من إيديولوجيات جاهلية (قبل إسلامية)، سيقوم بإيضاح المصادر التي دخلت على الفروعيات الإسلامية من الشرق الأقصى، وألبستها حللاً عقائدية ليس فيها من الإسلام كما بدأ إلا قليل. إن كل هذا الكم المتداعي من الإيديولوجيات الأوربية والشرقية لا يشبه الإسلام في شيء، فلا النازية ولا الفاشية الإيطالية أو الإسبانية (فرانكو)، ولا شبيهاتها من "توتاليتاريات" العالم الثالث، أو الشيوعية والاشتراكيات في عقائدها ما يشبه في أصولياتها أي استعادة لنظام عالمي سابق {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ} [الإسراء: 17/77]، فجذورها لا تمتد مثل جذور التسليم الإسلامي لله تعالى مع إبراهيم عليه السلام آلافاً من السنين، ولأنها إيديولوجيات فهي قابلة للتغير والإلغاء على العكس من طرق حياة الإسلام منذ فجر التاريخ الممتدة بجذورها إلى فجر الحضارات الإنسانية. يميّز قارئ هذا الكتاب بين: الأصوليات والفروعيات "بروباغندا" تقلب المفاهيم. وبين العقائد الفلسفية الإيديولوجية والإسلام. وبين عمق الامتداد التاريخي السلبي في الفرق الإسلامية، والإيجابي في بدايات الإسلام المرتكزة في الإسلام كما بدأ على سنن الخلق والمصير الإلهية، وبينها وبين المناخ الفكري الذي تستتم فيه "البرغماتية" وتتميز عن باقي الإيديولوجيات الفلسفية بشكله الحديث في العولمة، فالنجاحات التي لاقاها هذا المناخ في العولمة، لن تكفيه في مهاجمة الأديان؟! وبخاصة الإسلام، ففي نهاية المطاف سيجبر هذا الهجوم الفروعيات مهما طال مخاضه، كي ترجع إلى أصولها، قوة قاهرة لا غالب لها إلا الله.