بسم الله الرحمن الرحيم - - الحمد لله رب العالمين، - وصلاة الله وسلامه على رسوله الأمين، - وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
هذا الكتاب كما ينبئ عنوانه مجرد مدخل أولي لدراسة الفلسفة السياسية، وهو ينطلق من وجهة نظر إسلامية مرنة تعترف بفضائل الآخرين ولا تغمط الناس حقوقهم. وقد انبثقت فكرة تأليفه منذ نحو ربع قرن، حينما أوكل إلي تدريس الفكر السياسي لطلاب المرحلة الجامعية. وقد واجهتني حينها - ولا تزال - مشكلة المراجع المناسبة لإعداد المادة الدراسية. فقد كانت معظم المراجع والكتب الدراسية المتاحة تقتصر على تقديم ترجمات ونقول مختصرة ومبتسرة عن الكتب التي تدرس في الجامعات الغربية. فكانت مثالاً حياً لعملية الإزاحة الثقافية والتغريب غير المقصود، في النسق التغريبي الذي يسري تلقائياً في الأمة ضربة لازب، من دون أن يُبدي تقديراً أو اعتباراً لشخصية الأمة التي تتلقاه، ولا أدنى حساسية لثقافتها الذاتية ومشاكلها الخاصة.
ومما زاد ذلك الوضع حرجاً أني كنت أتولى عملية التدريس حينها بإحدي الجامعات الإسلامية العريقة؛ أي تلك الجامعات التي نيط بها - قبل غيرها - أن تتولى معالجة الخلل الثقافي الفكري الجلل، وذلك من خلال تفعيل المشروع الكبير الذي أعلن لتشذيب المعرفة، وتهذيبها، وصقلها، وتأصيلها في إطار التصور الإسلامي العام للثقافة والحياة.
وقد تحتم عليَّ إزاء ذلك أن أقوم بجهد خاص لتلافي قصور المراجع الجاهزة أمامي، والقيام بنخْل مادتها، ونقدها من وجهة التصور الإسلامي، وإضافة مادة جديدة إليها تعبر عن الآراء الإسلامية في المجال السياسي، ومن خلاصة ذلك الجهد تكونت بعض فصول هذا الكتاب الذي اعتنيت بتوجيه الطلاب فيه لتحقيق عدة مقاصد، أهمها:
1- الوصول إلى جذور المشكلات السياسية العصية التي تعاني منها البشرية. فمعظم هذه المشكلات الاجتماعية - والمشكلات السياسية جزءٌ منها - ترتد جذورها بعيداً في الكينونة الإنسانية، حيث تعقبها البحث الفلسفي على مرِّ العصور بعيداً في تلك الأعماق.
وهكذا يتحتم على طالب الفلسفة والعلوم السياسية أن يتدرب منذ البدء على بذل الجهد الجاد لتعقب تلك المشكلات في مصادرها الخفية، ولعل ذلك هو أفضل السبل لتفهم طبائع تلك المشكلات، إذ من دونه يتعذر إدراك أصول المشكلات السياسية، وتقدير أبعادها المختلفة، ومن ثمّ تصور آثارها الكلية، واقتراح الحلول المثلى لعلاجها.
وهذه المهمة الاستقصائية البحثية ليست مهمة علم الاجتماع وحده، ولا مهمة العلوم السياسية بتركيبها الحديث، وإنما هي مهمة الفلسفة السياسية في المقام الأول. ولكن مع ذلك فقد جرى تهميش شديد لدراسة الفلسفة السياسية في الجامعات الغربية في الحقبة الأخيرة، وما زلنا نخشى أن يجري تقليده - كالعادة - في أقسام العلوم السياسية بجامعات العالم العربي، الأمر الذي سيضر كثيراً بقدرات الطلاب على تفهم المشكلات السياسية - الداخلية والخارجية - من أصولها البعيدة. وقد ناقشنا في ثنايا الفصل الأول من هذا الكتاب بعض حيثيات مناهضي دراسة الفلسفة السياسية، ولا نرى داعياً للخوض فيها هنا. ونكتفي بالرد عليه عملياً بتوجيه الطلاب لتعميق فهمهم لقضايا السياسة، وللعلوم السياسية عموماً، عن طريق الدرس الجاد للفلسفة السياسية.
2- ممارسة التأمل الفكري، واستبطان المسائل السياسية الشائكة، وإعمال العقل النقدي في تحليلها، وعدم اللجوء إلى تبسيطها وتنميطها، أوالركون إلى الأسلوب التعليمي السكوني الذي يشجع عمليات الحفظ والاستظهار. وبطبيعة الحال فإن حفظ الأفكار والمواقف التي تتبعها أمر مفيد، ولا سيما إذا استخدم مادة للتحليل والاستنتاج والمقارنة. فهو وسيلة لا غاية في حد ذاته. ولكن من أسف فإن أكثر الكتب الأكاديمية التي ألفت بالعربية في هذا المنحى تقدم مادتها في شكل جزازات وحزم معلومات جاهزة ومهيأة للمذاكرة والاستظهار، أكثر مما هي تعين على التدريب على التدبر والتأمل الفلسفي الجاد.
3- تقديم نماذج الفكر الفلسفي العام من وجهة نظر نقدية إسلامية. حيث لم نكتف ببسط آراء الفلاسفة السياسيين الغربيين من دون أن نعقب عليها تعقيبات يسيرة من وجهة النظر الإسلامية. ففي فصول هذا الكتاب تعرضنا لآراء طائفة كبيرة من الفلاسفة السياسيين امتدت من عصر كونفشيوس إلى كارل ماركس، وقمنا بتحليلها، وإعادة تركيبها، ومقارنتها بالرؤية الإسلامية للمشكلات التي تصدت لعلاجها.
وبهذا اختلف هذا الكتاب عن طائفة من المؤلفات تحمل عنوانات كبرى من شاكلة: الفكر السياسي الإسلامي، أو الفلسفة السياسية الإسلامية، أو النظرية السياسية الإسلامية، وتقتصر على تناول آراء فلاسفة الحضارة الإسلامية من أمثال أبى نصر الفارابي، وأبي الوليد ابن رشد، من دون أن تقارنهم بغيرهم، ومن دون أن تركز على القضايا التي شاركوا غيرهم من الفلاسفة الغربيين في بحثها وتحليلها الأمر الذي لم ييسر على الطلاب أمر المقارنة بين منتجات فكر الحضارة الإسلامية والفكر الفلسفي الغربي.
4- تمليك الطلاب بعض مفاتيح البحث في الفلسفة السياسية، وذلك بتعريفهم بالتصورات الفلسفية السياسية الكبرى التي دار عليها البحث الفلسفي السياسي عبر العصور، والتي لابد من تبين دلالاتها والتفقه فيها جيداً؛ لأن ذلك مما يدرب الطلاب على النظر الكلي الأصولي لقضايا الفكر، ويعينهم على إحسان المقارنة بين وجهات النظر المتباينة.
5- وفي سبيل استكمال تجويد فهم القضايا الكلية للفلسفة السياسية واستيعابها، عقدنا فصلاً خاتماً أجملنا فيه النظر إلى تلك القضايا، وناقشناها مركزة في سياق خاص، وقدمنا نماذج من أفكار فلاسفة لم نتعرض لهم في فصول الكتاب الأولى. وقد كان الهدف من ذلك بلورة مسائل الكتاب فيما يمكن أن يسمى بأعمدة التفكير الفلسفي السياسي عبر التاريخ البشري بشكل عام.
وأخيراً نود أن نشير إلى ناحية مهمة تتصل بترتيب مواد الكتاب، فقد عدلنا فيه عن النهج الموسوعي الذي اعتمدته أكثر كتب الفكر السياسي المنشورة باللغة العربية، وهو النهج الذي يعرض للأفكار متنافرة ومجردة عن سياقاتها الأصلية، ومبثوثة في سياقات جديدة مذبذبة متجاذبة.
وعوضاً عن هذا النهج اعتمدنا نهجاً موضوعياً ( Thematic ) فانحصر كل فصل في دراسة موضوع بعينه، ولكن من خلال إطار أعمال فيلسوف بعينه كرس اهتماماً عظيماً في مؤلفاته لذلك الموضوع. وفي النهاية فلابد أن أقدم شكري الجزيل لعموم طلابي النابهين الذين كانوا بتوقد أذهانهم، ومضاء عزائمهم، ودقتهم في المتابعة، والتقصي، والسؤال الجاد، والجدال الحاد، سواء في أثناء ساعات الدرس الرسمية أوخارجها، خير حافز لمزيد من الدرس والتأمل والاستنباط. فجزاهم الله عني خير ما يجزي عباده الصالحين الصادقين. وصلى الله على سيدنا ومعلمنا الأعظم محمدٍ وسلم تسليماً كثيراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلف