لقد كانت إصلاح إلى ما قبل العام الماضي على الحالة التي كانت تعرفها عنها يسرية من قبل. تخبط في غياهب الضلال بين الهوى واللذات مترسمة خطا والدتها وفي معزل عن الطريق الذي يسلكه والدها. لا يهمها سوى اللهو والطرب، ولا تعرف عن أمور دينها وأوامره شيئاً.
لكن الدوام على الحال ليس من صفات الإنسان الذي ميزه الله بالعقل ولا من طبيعة البشر المفطورين على الأهواء والشهوات.
فالإنسان بحكم سلطان «العقل» وإغواء «الهوى» متقلب.. وبقدر تغلب أحدهما على الآخر تتغير أعماله وتتبدل أحواله.
لذلك أحياناً ترى إنساناً طائعاً لربه مؤمناً ثم إذا بك تراه وقد تغلب (هواه) على (عقله) قد انقلب شيطاناً مريداً عاصياً لربه.
وأحياناً تسمع عن إنسان كان منغمساً في شهواته ولذاته ثم ما تلبث أن تسمع أنه قد استقام واهتدى بسبب تغلب عقله على هواه.
كذلك كان شأن إصلاح، فقد ظلت على الحالة التي عرفتها عنها يسرية قبل انقطاعها عن زيارتهن إلى أن تغلب عقلها على هواها ثم كان ما رأيناه منها عند الحلاق.
* * *
لهذا ما كادت «يسرية» ترى ما رأت من «إصلاح» اليوم حتى تملكتها رغبة شديدة في سؤال إصلاح عن سبب تحولها، واتجهت إليها قائلة:
- إصلاح! لا شك أن هذا التحول جدير بالإعجاب.. لكن الذي أعرفه عن كثير ممن تحولوا مثلك هو أن تحولهم لم يكن إلا عن أسباب ودوافع، كأن تعترض المرء مثلاً حادثة تؤثر فيه وتكون سبباً في تفتح قلبه لقبول الحقائق الدينية والأوامر الربانية.. فهل لنا أن نعرف منك السبب الأول في هذا التحول.
وكانت إصلاح طول ذلك صامتة وقد ساءها وصف أختها لها بالجنون، لكنها آثرت السكوت.. فلما سمعت قول «يسرية» تألق وجهها ولاحت عليه بوادر الاطمئنان والثقة بالنفس وأجابت قائلة:
- الحق ما قلت يا يسرية؛ إذ لا بد لتحول الإنسان وتفتح قلبه للعمل بالأوامر الدينية من أسباب أو دوافع تؤثر في نفسه وتدفعه إلى السير في طريق الخير.. وإن لي في ذلك التحول «قصة».
وأطبقت عينيها الجميلتين شأن من يستعيد ذكرى بعيدة، ثم فتحتهما وبدأت قصة تحولها قائلة:
- لقد كنت إلى ما قبل العام الماضي إحدى ضحايا تغلب الهوى على العقل؛ أهيم على وجهي في ملاذ الحياة ومفاسدها. وكنت على الحال التي تعرفينها عني. واستمرت هذه حالي إلى أن استيقظ (عقلي) فأرشد (قلبي) وملك زمام نفسي وتغلب على (هواي).
فأغرقت سوزان في الضحك، غير أن إصلاح لم تعبأ بضحكها وراحت تتابع:
- كان ذلك في العام الماضي بعد رجوعنا أنا ووالدتي وإخوتي من الاصطياف في الأقطار الأوربية التي تنقلنا في معظم بلدانها وملاهيها.
دخلت ليلة على والدي في حجرته لأقص عليه ما شاهدته في رحلتنا الجميلة وما رأيته في تلك البلدان البعيدة، فوجدته جالساً في مصلاه، وفي يده مسبحته، وأمامه كتاب الله الكريم فحييته بتحية المساء، فبادلني برفع يده ولم يقطع قراءته، فلم أشأ أن أقطع عليه عبادته، وخرجت من عنده متأثرة بمظهره الجليل.
ومع أنني لم أكن قبل هذا الوقت أقدر أعمال والدي الدينية ولا ألتفت إليها، ولا أعرف شيئاً عن شرائع الدين وكنت أسخر ممن يعمل بها كما تعلمين، إلا أنني في تلك اللحظة أحسست بأن عقلي قد تنبه وشعرت به يحفزني إلى النظر في أعمال ما كنت أفكر فيها من قبل، وفي هذه الليلة بدأ يدعوني لألتفت إلى لون آخر من ألوان الحياة غير الذي تعودت أن أراه.
دعاني أولاً لأتأمل في أعمال والدي المخالفة لما أعمله طول حياتي.. ثم دعاني لأستمع إلى ما يلقيه بعض المصلحين في المذياع من الحكم الدينية والعظات القرآنية فتنبهت إلى ذلك. وتاقت نفسي إلى معرفة هذا النوع الجديد. ولأول مرة استمعت «لصوت العقل» ورغبت في أن أسلك الطريق الذي يسلكه والدي برغبة صادقة وعزم أكيد. ثم أمسيت معظم ليلتي أفكر في تلبية هذا النداء، بعد ذلك أصبحت أنظر إلى أعمال والدي، وأستمع إلى العظات كما دعاني «عقلي».. فما لبثت كثيراً حتى تفتحت عين قلبي للإيمان، وانبهرت بنوره، ورأيت جمال الحق وقبح الباطل. عند ذلك عزمت على أن أقتبس من نور هذا الكنز ما أستطيع الحصول عليه لتتحلى به نفسي ويستنير منه قلبي.
وكان الحديث عن الحفلة قد امتد بين الوالدتين وشغلهما عما حولهما فلم يسمعا من قصة إصلاح شيئاً بينما اقتنعت يسرية واستراح بالها، أما سوزان فقد بدت السخرية من نظراتها وضحكاتها، وأدركت ذلك إصلاح فقالت لأختها الساخرة:
- لا تسخري مني يا سوزي فأنا أعلم أن كلامي لا يروقك وقد كنت مثلك أسعى للاستمتاع بزخرف هذه الحياة الفانية حتى تحققت من وجود حياة ثانية خير منها وأبقى فآثرتها ورغبت في متاعها.
عند ذلك شرح الله صدري لتلقي أوامر دينه وتكشفت لي كنوزه {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.
وكانت يسرية تنظر إليها في صمت واهتمام لمعرفة باقي أخبارها، فما انتهت إصلاح حتى صاحت في إكبار:
- لله أنت يا إصلاح! وهل حصلت على كثير من هذه الكنوز؟
فصمتت إصلاح لحظة ثم قالت في شبه أسف:
- في الواقع لم أحصل على شيء كثير إلى الآن غير أني شعرت ببغض شديد واحتقار زائد لتلك الحياة المظلمة التي كنت أحياها، يقابله حب عميق وشغف للسير في طريق النور الذي اهتديت إليه بعد أن ندمت على ما كنت أفعل من قبل. ولهذا طلبت من والدي إحضار «أستاذ» كي أكتسب منه كثيراً من المعلومات الدينية، وشرائع الإسلام التي كنت أجهلها، إذ كنت كسابح مبتدئ بين الأمواج، يغوص تارة ويطفو أخرى، ولا بد له من مدرب يأخذ بيده.
ولم أزل حتى الآن في احتياج إلى استذكار واستطلاع، فالقلوب تصدأ مثل النحاس، وجلاؤها ذكر الله ونور العلم، ولم أزل حتى الآن أجاهد في معرفة ما يرضي ربي وما يغضبه، وأرجو الله أن يظل عقلي دائماً مسيطراً على هواي. حتى لا أعود إلى ما كنت عليه في الماضي.
مقدمة الناشر
هذه هي الطبعة الرابعة من رواية «إصلاح» لعزيزة الأبراشي.. كتبتها في الخمسينيات من القرن الماضي لتصور حياة الطبقة الرافهة في مصر، وبدايات تفتح الوعي لدى الشباب فيها، طبعت دار الفكر في الستينيات طبعتها الثالثة، فلقيت رواجاً وشهرة. واليوم وبعد أن أتى عليها زمن تراخى، وقد أرادت إعادة إصدارها بالأسلوب الطباعي الجديد فإن آراء القائمين على النشر تفاوتت فيها من بين مشجع لما فيها من توجهات سليمة، ومتحفظ لأسباب تتعلق بالجانب الفني؛ إذ ركبت المؤلفة مطيّة المباشرة في طرح الأفكار منذ أول الكتاب حتى آخر سطر فيه. وهذا ما سيدفع ببعض النقاد إلى الكلام عليه بالطعن أو التجريح.
لكنها إلى جانب ذلك أحكمت عقدة الرواية وساقت الأحداث سوقاً فاعلاً متنامياً ومشتعلاً، وصورت الشخصيات ونمّتها في أسلوب التشويق المتصاعد الذي يجرّ القارئ، ويركض به حتى النهاية للوصول إلى الهدف الواضح الذي ألقت به بين يديه. مما يجعله يتعاطف مع الأحداث ويمضي قدماً في القراءة.
على أي حال فإن الرواية مع ما هي عليه تمثل مرحلة في تاريخ القصة العربية عموماً، وقد وجّه إلى غيرها من القصص ملاحظات شتى، لا يكاد يخلو منها كتاب كاتب مشهور أو مغمور، وكان في ذلك إغناءٌ لحركة النقد استفادت منها الدراسات الأدبية.
وعلى كل حال أيضاً يبقى الكتاب - مع ما قد يقف في وجهه من مثالب يطلع بها المترصدون - توجهاً يصف مجتمعاً من نوع ما، ويخاطب الأسرة إذا لم يشأ نقاد أن يضعوه في دائرة الرواية.
الناشر
الإهداء
إلى الشباب من الجنسين
وإلى الأزواج والزوجات
نقدم تلك القصة الواقعية
لعل فيها عظة وذكرى.
المؤلفة
مقدمة الناشر
هذه هي الطبعة الرابعة من رواية «إصلاح» لعزيزة الأبراشي.. كتبتها في الخمسينيات من القرن الماضي لتصور حياة الطبقة الرافهة في مصر، وبدايات تفتح الوعي لدى الشباب فيها، طبعت دار الفكر في الستينيات طبعتها الثالثة، فلقيت رواجاً وشهرة. واليوم وبعد أن أتى عليها زمن تراخى، وقد أرادت إعادة إصدارها بالأسلوب الطباعي الجديد فإن آراء القائمين على النشر تفاوتت فيها من بين مشجع لما فيها من توجهات سليمة، ومتحفظ لأسباب تتعلق بالجانب الفني؛ إذ ركبت المؤلفة مطيّة المباشرة في طرح الأفكار منذ أول الكتاب حتى آخر سطر فيه. وهذا ما سيدفع ببعض النقاد إلى الكلام عليه بالطعن أو التجريح.
لكنها إلى جانب ذلك أحكمت عقدة الرواية وساقت الأحداث سوقاً فاعلاً متنامياً ومشتعلاً، وصورت الشخصيات ونمّتها في أسلوب التشويق المتصاعد الذي يجرّ القارئ، ويركض به حتى النهاية للوصول إلى الهدف الواضح الذي ألقت به بين يديه. مما يجعله يتعاطف مع الأحداث ويمضي قدماً في القراءة.
على أي حال فإن الرواية مع ما هي عليه تمثل مرحلة في تاريخ القصة العربية عموماً، وقد وجّه إلى غيرها من القصص ملاحظات شتى، لا يكاد يخلو منها كتاب كاتب مشهور أو مغمور، وكان في ذلك إغناءٌ لحركة النقد استفادت منها الدراسات الأدبية.
وعلى كل حال أيضاً يبقى الكتاب - مع ما قد يقف في وجهه من مثالب يطلع بها المترصدون - توجهاً يصف مجتمعاً من نوع ما، ويخاطب الأسرة إذا لم يشأ نقاد أن يضعوه في دائرة الرواية.
الناشر
ومرت الأيام، وتتابعت الشهور، ومضى أكثر الشتاء، ومحسن كما هو؛ سهر، وخداع، وأكاذيب.
أما زوجته فكانت طوال تلك الأشهر تبدو سعيدة أمام أسرتها وجميع الناس، لا يعلم سوى الله وحده ما هي فيه من شقاء، وما تتحمله من صبر وألم.
كانت كلما همت بالشكوى إلى والديها، أو برفع أمره إلى من بيدهم ردعه، كما تفعل غيرها في مثل هذه الظروف، عدلت وأبعدت ذلك، إذ كانت لا ترى أمامها سوى الله في السراء والضراء، وكانت لا تريد أن تشرك بربها أحداً في ردعه وعقابه، وأكثر ما كانت تخشاه زيادة المرض على والدها لو علم بسوء معيشتها.
بيد أن هذا التوكل ما كان ليمنعها من الوقوف بمفردها أمام زوجها، أو ليجعلها تصمت تجاه أعماله المنكرة، بل كانت لا تفتر عن تقويم ما أعوج منه، ولا تغفل عن محاولة إصلاحه بشتى الوسائل.