مقدمة
تطورت أزمة العلاقات السورية الأمريكية، بعد أن أدركت واشنطن أن تشويه صورة سورية والضغط عليها من خلال الكونجرس بقانون محاسبة سورية ، والحملة الإعلامية الشرسة لاينال من مواقفها القومية في العراق وفلسطين، فعز على الولايات المتحدة أن تقف سورية بخطاب واضح بعكس الخطاب السياسي العربي الذي يعتمد التعميم ستاراً للغموض وعدم اليقين خوفاً وطمعاً في الولايات المتحدة. فعمدت واشنطن إلى استخدام مجلس الأمن ضمن حزمة الوسائل التي تضغط بها على سورية ، فاستصدرت القرار 1559. والجديد في هذه المرحلة هو انضمام فرنسا وتقديمها لمشروعات القرارات المتلاحقة. أعقب القرارَ 1559، ووسط الجدل حوله وخاصة حول الوجود العسكري السوري، وما إذا كان الانسحاب يتم وفق هذا القرار أم وفق اتفاق الطائف، اغتيالُ السيد رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق الذي كان قد استقال بعد صدور هذا القرار بشهر تقريباً، وبعد أن وافق على التمديد للرئيس إميل لحود لولاية ثالثة وتعديل الدستور اللبناني تبعاً لذلك.
وقد استخدم حادث الاغتيال بشكل منسق، وترجمت كل تداعياته الفورية بما في ذلك عواطف اللبنانيين إلى اتهام سورية ووجودها في لبنان بأنه سبب الاغتيال، كما أثبته تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها رئيس مجلس الأمن مساء يوم الاغتيال. في هذه الظروف المتوترة وبسبب نصائح دول عربية كبيرة وضغوطها، فقد سارعت سورية بالانسحاب وكانت سرعة الانسحاب التي فُسرت في الولايات المتحدة وفرنسا بأنها إنجاز حققه البلدان للبنان، وتعلق به البعض وانتعشت عداوات قديمة لسورية، فأصبحت الساحة مهيأة لتصفية الحساب مع سورية. تشكلت لجنة التحقيق الدولية عقب تقرير لجنة تقصي الحقائق استناداً إلى إشارة هذه اللجنة في تقريرها إلى سورية، فصدر القرار 1595 بتشكيل اللجنة وعين القاضي الألماني ميليس رئيساً لها، وبدأ عمله في هذا المناخ الذي يجعل سورية متهماً، ومطلوبٌ إثبات هذا الاتهام بكل الطرق. وقد بذل ميليس جهوداً ضخمة لتحقيق غايته ولكنه عجز، فتم تمديد مهمة اللجنة ثلاثة أشهر أخرى أعلن في نهايتها عزمه على التخلي عن مهمته. وتم تمديد مهمة اللجنة ستة أشهر أخرى حتى 15/6/2006 وتعيين سيرج برامارتز Brammertz القاضي البلجيكي خلفاً لميليس، حيث بدأ مهمته يوم 11/1/2006 تحت رعاية ميليس ومتابعته، ولمدة ستة أشهر فقط.
والحق أن القضية كلها تعود إلى أزمة العلاقات الأمريكية السورية التي تضم ملفات العراق وفلسطين وحزب الله، ومواقف سورية من هذه الملفات. أما الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة في هذا النزاع السياسي فهي أدوات قانونية وأهمها ثلاث؛ الأداة الأولى هي العقوبات الأمريكية بموجب قانون محاسبة سورية بتهم متعددة، وكأن هذا القانون يهدف إلى تقويم سورية وإعادتها إلى الطريق القويم. والأداة الثانية هي استخدام مجلس الأمن والتوافق في المصالح مع أعضائه الدائمين، بحيث تبدو قرارات المجلس معبرة عن إجماع سياسي على انتهاك أحكام ميثاق الأمم المتحدة، ولم يتردد الساسة في اعتبار هذه القرارات تعبيراً عن الشرعية الدولية، وكأن قرارات المجلس الأخرى التي وجه فيها إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق في مذابح إسرائيل في جنين، وإنشاء دولة فلسطينية تمثل الشرعية الدولية الليِّنة , soft law وكأن الدول الكبرى هي التي تحدد درجة الليونة والصلابة في قرارات المجلس. أما الأداة الثالثة، فهي تدبير أو استغلال مقتل الحريري في تحقيق عدد من الأهداف، من خلال لجنة التحقيق الدولية، التي لا يوجد لها مثيل في تاريخ التحقيق الدولي، مستندة إلى قرارات مجلس الأمن. وأهم هذه الأهداف هي إشعار سورية بالثمن الذي تدفعه بسبب مواقفها، والثاني استمرار النزيف في العلاقات السورية اللبنانية، والثالث إحراج القوى ذات التوجهات القومية الحليفة للحق والمصلحة العربية العليا وإضعافها، بما يؤدي في النهاية إلى خدمة الأهداف الإسرائيلية من سورية ولبنان.
وقد كانت القضية الكبرى في القرار 1559 هي الانسحاب السوري وقد تم، فأضيفت قضايا التضييق على حلفاء سورية وهم حزب الله والمنظمات الفلسطينية، كما أضيف دم الحريري الذي يجعل التحقيق بمساره وطريقته سيفاً ضاغطاً على سورية، بما لا يدع مجالاً لالتقاط الأنفاس للنظر في العلاقات مع لبنان، أو الالتفات إلى قضايا الشعب السوري. وبين الحين والآخر تنطلق التصريحات الأمريكية حتى يستمر الاشتعال والانتقام، مثل أن الشعب السوري يستحق حكومة أفضل من حكومته، للتحريض ضد الحكومة السورية.
ولما كانت أزمة العلاقات السورية اللبنانية هي التي تتصدر قائمة الخسائر والتشويه الإعلامي الأجنبي، وأحياناً العربي، الذي يضلل الرأي العام، فقد رأينا من المفيد أن نقدم الحقائق القانونية مجردة وموثقة، مؤكدين أن المؤامرة خطيرة لأسباب كثيرة؛ أولها أنها تعتمد على توظيف مجلس الأمن ولجنة التحقيق الدولية، ثم المحكمة ذات الطابع الدولي، وثانيها أنها تقدم شرعية دولية موهومة على أنها الشرعية الدولية التي يجب الامتثال لها، مع أن الولايات المتحدة تنتهك أبسط قواعد الشرعية الدولية، ولا تقيم وزناً للأمم المتحدة وقراراتها، وتبحث عن بديل للمنظمة الدولية التي تتباطأ في الاستجابة للإملاءات الأمريكية، ولكنها حريصة على استغلالها والاستفادة من منصتها.
تلك صفحات التزمت فيها التحليل القانوني الصارم لتكون جزءاً من الحقيقة في تاريخ النضال العربي ضد مخططات الاستهداف الأجنبية، وحتى تكون عوناً للقراء في التعرف على الحقيقة وسط الغيوم الممتدة التي تظلل قضايا الأمة في هذه المرحلة الدقيقة.
والله غالب على أمره.
السفير الدكتور عبد الله الأشعل
القاهرة في 16 كانون الثاني/ يناير 2006
الأبعاد القانونية للمؤامرة على سورية
يسعى هذا الكتاب إلى إثارة مجموعة من القضايا حول أسباب الأزمة التي عصفت بسورية بعد اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، ففي عام 2005 بعدما اغتيل الحريري بدأت التداعيات ضد سورية. فهل كانت هناك مؤامرة مبَّيتة ؟ ما أبعاد هذه المؤامرة؟ وما أدواتها ومن نفذها؟ ومن يستفيد منها؟ صدرت سريعاً سلسلة من القرارات عن مجلس الأمن الدولي، وبعدما نفذت سورية انسحابها من لبنان، لم تتوقف الأحداث بل صعدت أمريكا وفرنسا من حملاتهما اعتقاداً منهما أنهما حققتا إنجازاً ضخماً للبنان. وأصبحت الساحة مهيأة لتصفية الحساب مع سورية.
شكل مجلس الأمن لجنة لتقصي الحقائق، وأتبعها بلجنة تحقيق دولية، فصدر قرار 1595، وعين القاضي ميليس رئيساً للجنة، مُدِّد للجان التحقيق مهمتها عدة مرات، وعُين قاض آخر هو سيرج برامارتز. فهل كان المطلوب تلبيس سورية الاتهام بجريمة قتل الحريري؟.
بقي السؤال الكبير مطروحاً.. لماذا كل هذا الحقد على سورية؟ هل كان لمعرفة من قتل الحريري؟ أم للمواقف السورية القومية من العراق وفلسطين وحزب الله ؟.
لقد استخدم قانون محاسبة سورية كمطرقة من أجل تعديل مواقفها لما تريده الإدارة الأمريكية.
وحزمة القرارات الدولية التي صدرت بحق سورية دليل على ذلك، رغم غياب مثل هذه المتابعات عن إسرائيل مع انتهاكها الدائم للشرعية الدولية.
المؤلف الأستاذ الخبير بالقانون الدولي عبد الله الأشعل يفند هذه القرارات والسياسات، ويقدّم لنا صورة أخرى أكثر وضوحاً عما يقف وراء الأحداث.
الأبعاد القانونية
مستخلص
- يتحدث هذا الكتاب عن المحاولة الأمريكية لجعل سورية كوكباً عربياً جديداً يدور في الفلك الأمريكي، باستخدام مجلس الأمن وقراراته، من خلال أبواب ثلاثة.
- يشرح الباب الأول قيام الولايات المتحدة بصياغة شرعية دولية جديدة، تحيل الأمم المتحدة أداةً تسبغ ثوب القانونية والشرعية الطاهر على الطموحات الأمريكية، مناقشاً القرار (1559) ومبيناً تداعياته وشرعيته، وأنه شكَّل سابقة في القانون الدولي، مقارناً بين الوجود السوريّ في لبنان والاحتلال الإسرائيلي، وجوهر الفرق بين الانسحاب على أساس الطائف والانسحاب على أساس هذا القرار.
- الباب الثاني يفصِّل القول في تاريخ لجان التحقيق الدولية، ثم يفرد الحديث عن الطبيعة القانونية والسياسية للجنة التحقيق في اغتيال الحريري، ومحاولتها فرض الوصاية على لبنان وسورية، محللاً تقريرها الأول مستنتجاً تشبعه بروح اتهام سورية التي كانت سائدة عام 2005م.
- ومع تحليل قراري مجلس الأمن (1636 – 1644) يناقش المؤلف تقرير اللجنة الثاني بقسميه، مبيناً أنه جزء من خطة الاستهداف الكبرى ضد سورية، مردفاً ذلك بتبيين بدائل المحاكمة في قضية الحريري، ليخلص إلى توضيح ملاحظاته القانونية على نظام المحكمة.
- يختم المؤلف الباب الثاني بأن واشنطن ستختار، وهي تتعامل مع الحالة السورية، بين النموذجين العراقي والليبي، وأن على العالم العربي أن يتخلص من انفصام الشخصية في تعامله مع قضاياه الكبرى، في إطار الربط بين المشهد اللبناني السوري والمشهد الفلسطيني، وربط الأزمة اللبنانية بالأزمة النووية الإيرانية مؤكداً أن الأزمتين مصلحة إسرائيلية تديرها الولايات المتحدة.
- أما الباب الثالث فيضم مجموعة من الوثائق؛ أولاها: النص الكامل لتقرير ميليس الثاني، وثانيتها: وثيقة الوفاق الوطني اللبناني المعروفة باتفاق الطائف، وثالثتها: معاهدة الصداقة السورية اللبنانية.