تقديم
لقد آن الأوان أن ندرك أن الملاحم الكبرى في حياة الأمم لا تكتبها المعارك، ولا السياسات المتحذلقة، لا تكتبها سوى الفلسفة التي تعبر خير تعبير عن أمتها، بعيداً عن استعارات العقائد واستيراد الأفكار أو إبهارات الأدب والشعر.
وقوة الفلسفة البرغماتية التي تنتشر اليوم انتشار النار في الهشيم، بعد أن دمرت الاشتراكية ودولها العظمى في الاتحاد السوفياتي وأوربا الشرقية دون طلقة رصاص، فضلاً عن ذيول تلك الإمبراطوريات في الشرق والعالم الثالث، قوة هذه الفلسفة في ضعف إيديولوجيتها، ضعفاً جعلها لا تصاغ بشكل إيمان أو عقيدة دوغمائية، بل على شكل مناخ يمتد إلى معظم جوانب حياة الإنسان التي يتعرض لها.
فلا شيء أكثر مدعاة إلى السخرية من شخص من العالم الثالث اعتاد على سيطرة الأحزاب على مسيرة حياته، يسأل حين يصل إلى (أمريكا) عن مكان فرع الحزب البرغماتي في أول مدينة يصلها، لكي ينضوي تحت لوائه، على أمل أن ينال ما كان يناله في بلاده من امتيازات الانضواء؟!
وسبب هذه البلية المضحكة أنه اعتاد على البيعة - بكل ما تعنيه هذه العبارة - ولم يعتد على الإقرار؟
فالبيعة في تراثنا عبارة تعني الشراء: بايع فلان فلاناً مبايعةً عقد معه البيع[(1)]. وهو يعني إخراج المبيع عن الملك، وهنا حين حصوله مع الحاكم يعني إخراج المبايع عن ملك رقبة نفسه، وهو بيع مكروه إلا حين الدخول في الإسلام، إذ ليس من حق أحد سوى الله تعالى ملك رقبة أي إنسان، ما لم يكن القصد ترويضه حتى يفهم الإسلام، ثم له الحق أن لا يبايع أيضاً.
أما الإقرار الكنسي ( Confession of Faith فهو اعتراف بالكنيسة التي يريد المسيحي أن يتبعها، وهو الذي عدلته البروتستانتية منذ (لوثر)، إلى آخر كنيسة انشقت في أمريكا عن البروتستانتيات مع (المورمون)، ومن بعدهم ممن تُسمى بالمسيحيات العلمية.
وهذا الإقرار الكنسي مبني في أساسه على ظن واقعة ( Fact û الإنجيل؛ أي العهد الحديث، هو عهد بين الله والبشر، يصحح ما حوَّره اليهود في العهد القديم؛ أي التوراة، دون إلغائها، وكل ما فيهما يقيني لا داعي لأي تساؤل حوله!.
لكن الذي طرأ على مصداقية هذه الواقعة وحولها إلى (أمر واقع De Facto منذ غاليليه، الأخطاء العلمية الموجودة في العهد القديم، مثل أن الأرض منبسطة، وهي محور الكون والتي يدور الفلك حولها.
وقد كان بالإمكان تجاوز هذا الأمر لولا الوقائع ( Facts الأحفورية، التي أثبتت، أو على الأقل شككت، بأن الخلق بدأ بآدم، من خلال الحرفية التي برزت بها نظريات التطور الدارونية، فلم «تحل سنة 1900م حتى كان ثلاثة أرباع السكان البيض في أمريكا يعتقدون أن الإنسان ما هو سوى عضو من ملايين الأعضاء الحية الكائنة في العالم، والتي تطورت جميعها من مصدر أساسي واحد، وأن هذه الكرة الأرضية ترجع بتاريخها إلى ملايين من السنين لا إلى ألوف كما كان»[(2)] الاعتراف أو الإقرار الكنسي يشيع الاعتقادات.
ولعل الوقائع ( Facts التي قدمتها العلوم الحديثة هذه، حين امتدت إلى باقي المعارف الإنسانية الحديثة «كالقانون، والتاريخ، والاقتصاد، والفلسفة، وعلم النفس، والاجتماع، والفن»[(3)]، أوجدت مناخاً فكرياً، وإن لم يكن باستطاعته التخلي عن دينه الذي يجمل كل خصائص الشعب ذي العرق الأبيض وينظم حياته، اتجه بعد تقليص سلطة الدين بفصله عن الدولة كما حصل منذ عصر النهضة، نحو اقتصار الاعتراف الكنسي على الوظيفة الاجتماعية للكنيسة، بدل وظيفتها المتعالية ( Transcendental وسيطاً بين الله والبشر، مما جعل الناس تهمل اللاهوتيات الميتافيزيائية الكنسية، وتدعم في الوقت ذاته الوظيفة الخيرية والتعليمية والاجتماعية لها.
وهكذا نجا الدين المسيحي من اهتزازات مسلماته ووقائعه ( Facts التي دمرتها المعرفة العلمية الحديثة، وأساس هذه النجاة في إقرار كنسي اجتماعي عام وجديد: يُخرج وظيفة الكنيسة عن معالجة الأرواح لتخليصها من الجحيم، إلى معالجة مشاكل الفقر والجهل والمرض، من منطلق أن الحكم العام على الدين في (أمريكا) شأنه شأن أي حكم عام على أي نشاط إنساني، صار على نتائج سلوكه لا على ما به من ثيولوجيات نظرية مبهرة.
هكذا صار الإنجاز لا الاعتقاد دعامة الشخصية الأمريكية المعاصرة، وحين وجد ما يدعم هذا التوجه من الإنجيل بقول المسيح عليه السلام: «من الثمر تعرف الشجرة... بكلامك تتبرر وبكلامك تدان» [متى: 12/35]، صار الأمريكي متمسكاً بإقراره الكنسي الأداتي هذا، الذي أصبح يشكل معظم إيمانه المسيحي ( Instrumentalism .
وهذه الأداتية ( Instrumental امتدت إلى باقي المعارف الإنسانية، التي أصبحت تعني في المجال العلمي أن كل نظرية يجب أن تعامل باعتبارها أداة، تنتج تقانة سيطرة ما، على ما تعالج من أمور ( As ADevice ‚ ولا قيمة عملية لأي نظرية لا تنتج تقانة سيطرة ما.
ولعل نظير هذا في الفكر الإسلامي قوله تعالى: {} [الصف: 61/2-3] .
لكن البيعة، بمعنى الإقرار لغير الله ولغير رسوله بالطاعة، استعباد(*)، وقد وجهت الفكر الإسلامي باتجاه الاعتقادات لا الإنجازات، لكن التماثل قريب بضرورة صلة القول بالفعل.
وقربه يجب أن لا يعني «تماهيه» كما تتسلل البرغماتية من خلال هذا القرب إلى صلب عقائدنا، الخالية أصلاً من أي تعارض مع العلم والوقائع ( Facts العلمية، فالقرآن الكريم لم يأتِ بأي «اسم إشارة» يخالف أي واقعة علمية، وضمير الغائب فيه أكبر شاهد على ما أقول، وإلى هذا يجب التنبيه.
أما ما أنا بصدده الآن فهو وضع الخلفية الفكرية والاجتماعية لما سمي بعد ذلك (بالبرغماتية) في أمريكا، لأهمية هذه الفلسفة بمعنى المناخ الفكري الزاحف على كل العالم، لا عالمنا الإسلامي وحده، لكي نحدد أبعاده، وإيديولوجياته التي تغزونا في عقر دارنا فنتنفسها مع كل بدعة تقنية نستعملها من تصميمهم الأداتي، والذي يوجهنا نحو الأداتية - دون أن ندري - لكن حسب منطلقنا الخاص وهنا المشكلة.
ففي اللحظة التي أخرج الاعتراف الكنسي الأمريكي الكنيسة من دائرة معالجة الأرواح إلى دائرة معالجة المشكلات الاجتماعية، فرض المناخ الأداتي على الكنيسة الإيديولوجية الأداتية تماماً، لكن بصورة أقوى مما فرضه عصر النهضة عليها من اعتزال السياسة، بفصل الدين عن الدولة.
وبهذا يمكنني أن ألمح زيادة في قرب مودتهم لنا، بعد أن تجردت معظم كنائسهم عدا الأصولية (البوشية) منها من صليبيتها العدوانية، تصديقاً لقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ *} [المائدة: 5/82] . وعلى يد هؤلاء بحثنا في العلوم وأخذنا الشهادات، ومع هؤلاء كنت أعلم في الجامعات الأمريكية بالولايات المتحدة، ومن هؤلاء كنا نتعلم.
وسبب هذا الانفتاح الكنسي تراجع قوة الكنيسة في الغرب بفصلها عن الدولة والسياسة أولاً، منذ عصر النهضة، ثم بردعها عن تجاوز دورها الاجتماعي والتعليمي والإحساني، وعن دائرة معالجة الأرواح باعتبارها وسيطاً بين الله والبشر إذ تدعي وحدها قدرتها على تخليصهم من نار جهنم، أي بردعها عن التبشير بوقائع أثبت العلم وهميتها.
فالحفاظ على الكنيسة لكن مع الحد من سلطانها، فتح الباب على مصراعيه لشيوع (الأداتية)(*) في المجتمعات الأمريكية البيضاء، وقد قادت هذه الأداتية الأمريكيين البيض إلى التوسع؛ سواء نحو الغرب الأمريكي الشمالي، على حساب الهنود الحمر وما رافق ذلك من لاأخلاقيات التعامل معهم، وإلى التوسع في الجنوب على حساب الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية باحتلال البروتستانت للمكسيك وكاليفورنيا، (فمارك توين) مثلاً اشترك في حركة التوسع نحو الغرب، ولم يكن كغيره من الأدباء الأمريكيين مجرد قصاص يحكي أدباً رفيعاً، كذلك سافر إلى أوربا والشرق الأوسط وزار (سورية وفلسطين ومصر) مندداً بهؤلاء الأبرياء خارج حدود أمريكا ممن لا يعرفون معنى (الأداتية)، لكي ترتفع بمستواهم الساذج في الخلاف حول من دينه أفضل من سواه؟
أما معارضو هذا التيار الأداتي الجارف، فقد كانوا أمثال الشاعر (ويتمان) من الصوفية، التي لا مكان لها إلا في حلقات ضيقة مثقفة، مازالت تتمسك بالميستية ( Mysticism )(*) باعتبارها جانباً تحبذه الرهبانية الكنسية، ولا يتعارض مع التوجه العام ضد تدخل رجال الدين في السياسة، ولا بإقصاءاتهم العملية الأداتية، التي أعطت الشعب الأمريكي كله التقنية العالية والعمارة الكولونيالية الضخمة، ثم موسيقا (الجاز) الخاصة بالأمريكيين، وما تبعها من موسيقا الروك الشهيرة، وهكذا اتجهت الحضارة الأمريكية الأداتية نحو كل أصناف القوة والضخامة والخصوصية التي سمحت بتراكم الثروات، وزيادة البذخ والرخاء، وذلك باستخدام المعرفة أداةً للرخاء ليس إلا.
لذلك يرى القادم إلى أمريكا من أوربا حضارة متشابهة، لكن الفرادة الأمريكية بالضخامة والفخامة بالمباني وناطحات السحاب والبيوت الكولونيالية المترفة، والسيارات الفارهة، حتى وجبات الطعام تقدم هناك بحجم ضعف وجبة الطعام الأوربية، وقد دفعت (الأداتية) بالحاجة إلى عدم إضاعة الوقت بتحضير الطعام بالمنزل، ولكي تدور عجلة الاقتصاد بسرعة بين الطبقة الوسطى، أقول: دفعت العمارة الأداتية إلى تصميم مطابخ صغيرة بمنازل الطبقات الوسطى، فظهرت المطاعم ذات الوجبات السريعة، التي تعمم اليوم على كل العالم، وأساسها إجبار الناس على الأكل خارج المنزل، لكي تدور عجلة الاقتصاد بسرعة عبر حركة السيولة بين الناس[(4)]، فيختزل الوقت الضائع في (أداء) العمل قدر الإمكان لمزيد من الإنتاج، وهذا مثال من ضمن أمثلة الإجبار الأداتي، وهو الإنتاج الذي ضخم القوى الصناعية في عصر الصناعة، الذي ساهمت الأداتية الأمريكية في ترسيخه، بسباق صناعي ثقيل بين القوى العالمية الكبرى، منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى ثمانينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي أطلق عليها (ألفين توفلر) اسم الموجة الثانية العالمية، التي أدت إلى تحول السلطة من يد الإقطاع إلى يد القوى الصناعية ( Powershift ‚ فظهرت الأداتية في أمريكا نظير الشيوعية في الشرق الأوربي والآسيوي، وتبلورت بالمناخ البرغماتي الذي سآتي على تفصيله. وكل هذا حصل قبل خضوع القوة والثروة للمعرفة في الموجة الثالثة التي نعيشها في القرن الواحد والعشرين اليوم الذي سماه عصر الكوغنيتاريا ( Cognitaria الذي أنهى عصر البلوريتاريا ( Pluritaria )[(5)]، بما في عصرنا من اقتصاد صناعي عالي الرمزية، في عصر العولمة الذي «تختفي فيه الحدود القديمة، وتهتز فيه بنية المعرفة كلها»[(6)]، ذلك أن عصر المعرفة اليوم مع العولمة يشكل خطراً على السلطات الاقتصادية والصناعية والمالية والسياسية «أخطر من كل النقابات العمالية أو الأحزاب السياسية المعارضة، فالثورة المعلوماتية ستنتهي إلى الإقلال من الحاجة إلى رأس المال»[(7)]، والتخلف والتقدم اليوم مرتبطان بمدى فتح المجال المعلوماتي في الدول التوتاليتارية مثلاً، إذ «كيف يمكن لاقتصاد ما أن ينشط في بلد تستطيع شركة الهاتف - التي هي الدولة - أن ترفض تركيبه للناس، أو تبقيهم عدة سنين في انتظاره؟»[(8)].
وحين جاءت الحواسيب وصارت هي التي تتكلم، سقطت سلطة الدولة هذه، مثل سقوط سلطة إعلامها على الناس بالأقمار الصناعية، وسقوط سلطاتها على المصارف الدولية التي تقرر قيمة إنتاجها؛ أي سعر صرف عملاتها، فلم يبق سوى السقوط السياسي والحربي بسيطرة سياسة القطب البرغماتي الواحد على العالم، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، فما هي هذه القوة التي انتقلت من التقديس الديني المسيحي إلى التقديس الأداتي، إلى البرغماتية الفلسفية التي تنتقل اليوم بالعولمة إلى كل منزل بالكون، دون أن يشعر سكانه بمناخها الاقتصادي الذي يطال لقمة عيشهم، قبل مناخها السياسي الذي يفرض نفسه على دولهم وهي صاغرة؟!
ومن عكس فلسفة هذا المناخ لأول مرة وعرف به؟ بعد أن أصبح المهم أن «من تعرف» أهم من «ماذا تعرف»[(9)] لتوافر المعرفة بأدق الأمور للكل اليوم، وبعبارة أخرى إن القوى الخفية التي كانت تتحكم بالعالم والتي أشار إليها (برتراندرسل) بقوله: «ونحن نعاني من القوى غير الشخصية العظمى التي تسيطر على حياتنا اليومية، فتسبب بقاءنا عبيداً للظروف ولو أننا لم نعد عبيداً بحكم القانون»[(10)]، هي اليوم وبكل وضوح: برغماتية العولمة! فكيف ذلك؟
الفلسفة الأمريكية والعولمة
تنتشر الفلسفة البرغماتية الأمريكية انتشار النار في الهشيم ؛ لأنها تتمتع بخصائص تجعلها تمد أذرعها إلى حياة الإنسان بكل جوانبها. فهي تدخل في السياسة والاقتصاد والأخلاق والموسيقا والفنون والآداب والسينما والطعام (الوجبات السريعة).
إنها الفلسفة البرغماتية التي صبغت الحياة الأمريكية بطابعها منذ تأسيسها على يد شارل بيرس ووليم جيمس إلى وقتنا الحاضر.
فما الأسس التي بنيت عليها هذه الفلسفة؟ ولماذا امتد تأثيرها إلى أنحاء العالم؟ وكيف ولدت الفلسفة الأداتية من رحم البرغماتية؟ و كيف أصبحت منهج حياة العديد من القادة والناس، فكانت الوسيلة التي دفعت بأمريكا إلى التطور العلمي السريع والتوسع نحو الغرب الأمريكي على حساب الهنود الحمر، ونحو الجنوب على حساب الكنيسة الكاثوليكية، مع ما رافق كل هذا من أخلاقيات وسلوكيات؟
هذه الفلسفة سُخِّرت لتكون منهاجاً للعولمة، فأصبح لها مصطلحاتها ومفاهيمها العابرة للقارات والمتجددة في العديد من مدن العالم اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً.
يغوص المؤلف في هذه الفلسفة ويستخرج منها أهم مقوماتها وأسسها التي بنيت عليها، ليقدمها لنا – في هذا الكتاب الصغير الحجم العميق الغور- بأسلوب ضم ما سبق بسلاسة ووضوح.