أخي القارئ الكريم
قد تقول حين يقع هذا الكتاب بين يديك وتعرف مؤلفه: ما لهذا الدخيل يتكلم فيما لا شأن له به؟ وما للطبيب واللغة والكلام عن اللغة؟ وقد تكون محقاً في قولك لو أن اللغة اختصاص ككل الاختصاصات من طب وهندسة واقتصاد وزراعة وصناعة..، ولكن اللغة ليست كذلك، بل هي كالهواء، من اختصاص الكيميائي البحث في تركيبه، ومن اختصاص الفيزيائي البحث في حركته وتياراته، ومن اختصاص البيئي البحث في نقائه وفساده، ولكن من اختصاص الناس جميعهم الاهتمام بكل هذا؛ لأنهم جميعاً يستنشقونه وعلى صلاحه يتوقف صلاح صحتهم وبقاء حياتهم، ومن واجب كل الناس كذلك حفظه نقياً صافياً. وهكذا اللغة، منطوقة كانت أم مكتوبة، يستعملها الناس كافة، ولا يستطيعون الاستمرار في حياتهم وأعمالهم من دونها. فبواسطتها يُعرِّف التاجر ببضاعته، ويشرح المعلم درسه، ويشكو المريض ألمه، ويفصح الشاري عن رغباته، ويعرض السياسي أفكاره، وينشد الشاعر شعره، ويطرب المغني سُمّاعه، ويبث المحب عواطفه، ويدعو المؤمن ربه. بواسطة اللغة تكتب العقود بين الناس، والمعاهدات بين الدول، وتنقل الأفكار بين البلدان، وتنشر الأخبار بين الأمم، بها يعرف تاريخ الشعوب الغابرة، وتدون حوادثها الجارية وتطلعاتها القادمة.. وعدا هذا كله وفوق هذا كله، إن اللغة وعاء يحفظ تراث الأمة الناطقة بها، وانتشارُها دليل قوة هذه الأمة، واحترامُها بل تقديسُها والحفاظ عليها والدفاع عنها دليل تقدم الأمة وواجب كل فرد من الأفراد الناطقين بها.
واللغة العربية لغتنا التي نفخر بها، تفضل كثيراً من اللغات المستعملة في العالم، وعدد الناطقين بها كبير وهم العرب، وعدد الذين يستعملون جزءاً منها، ولكنهم لا يتكلمونها، كبير جداً، وهم المسلمون. وهي من بين مئات اللغات العالمية إحدى اللغات الست المعترف باستعمالها في المحافل الدولية، وهي للعرب وللمسلمين منهم خاصة لغة الدنيا والدين معاً؛ لأنها لغة كتابهم المقدس وأحاديث نبيهم الكريم.
ومع كل هذا يلاحظ المتتبع في أيامنا هذه استهتاراً شديداً بلغتنا، بالعزوف عن استعمالها، والبعد عن إتقانها، والتقصير في تعلمها وتعليمها، وهدم بعض أركانها، والدعوة إلى تعديلها أو تبديلها. ويظهر لذلك ضعف اللغة أينما تستعمل؛ في التخاطب والتدريس، وفي الندوات والمحاضرات وفي الإعلام، وكيفما تستعمل؛ نطقاً أو كتابة نثراً أو شعراً.. يشارك في صنع هذا كله بعض العرب جهلاً أو تآمراً، وأعداء العرب والإسلام حقداً أو تعصباً.
وإذا كانت اللغة من أول مقومات الأمم ودعاماتها، وإذا كنا حريصين على الإبقاء على أمتنا عزيزة بين الأمم، فمن واجبنا بذل كل جهد للحفاظ على لغتنا سليمة معافاة، ولا يكون ذلك إلا بالقناعة الراسخة لدى كل من يعنيه الأمر، بوجوب تغيير هذا الواقع، وبالإرادة القوية والعزم الأكيد على تحقيق هذا التغيير، بالتعاون مع البقية الباقية ممن يتقنون اللغة ومازالوا ملتزمين باستعمالها، وهم بحمد الله كثر، ومنتشرون في كل المرافق المعنية بهذا الشأن الحيوي المهم.
بعد ما قدَّمت، أظنك الآن، أيها القارئ الكريم، تجد لي عذراً في إقدامي على البحث في موضوع قد يبدو بعيداً عن اختصاصي. وأنا لن أعتدي على علماء اللغة، ولن أعلل الأسباب وأحلل النظريات، ولن أدخل في تفاصيل فلسفية، ولن أتكلم على اللسانيات وفقه اللغة، فليس كل هذا من شأني ولا من اهتمامي، ولا من شأن كل الناس ولا من اهتمامهم، فلهذا أربابه الذين لم يقصروا في تأليف الكتب الطويلة والقيام بأبحاث دقيقة وجميلة يستطيع من أراد الاطلاع عليها تتبعها في مظانها. وكل ما يهمني وأنا العربي، ويهم الناس وهم العرب - ونحن جميعاً نستمع إلى وسائل الإعلام المختلفة والمحاضرات والندوات، ونقرأ بعض ما يصدر من كتب أو جرائد ومجلات - أن نسمع كلاماً صحيحاً لا يخدش الأذن، وأن نقرأ كلاماً فصيحاً ليس فيه قذى يخرش العين ويوتر الأعصاب.
وأنا أرى في كل إساءة إلى اللغة إساءة إلى كل الناطقين بها ومنكراً يجب تقويمه، وأرجو أن يكون فيما سأقدم إسهام في تقويم هذا المنكر، وفيه ما ينفع الناس ويرضي الله.
هذا الكتاب صرخة إنذار لأبناء العربية
المؤلف يرى اللغة المقدسة في خطر. تجتاحها العجمة والعامية، ويزهد بها أهلها لأسباب متوهّمة، يُعرضون عنها ويُعرِّضونها للضياع، في حين تحرص الأمم على لغاتها وترتفع بها، وتخدمها.
المؤلف يبحث في الأسباب، ويشير إلى مكامن الداء، ثم يصف الدواء.. وليس بدواء عسير، ولا صعب المتناول، وإذا لم تأخذ الأمة به ضاعت.
المهم في الكتاب أن المؤلف طبيب مشهور معروف، يحرص على لغته مثل حرص اللغوي والأديب النحوي.. لأنه مخلص في انتمائه للّغة التي نزل بها القرآن.