مقدمة
من تعاريف الإنسان الكثيرة أنه (حيوان اجتماعي)، ومع أن هذه الصفة لا ينفرد بها الإنسان وحده، وإنما هي صفة غريزية يشترك فيها معظم الحيوانات على اختلاف أنواعها، سواء منها ما يدب على اليابسة أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء، فإنها أوضح ما تكون في الإنسان، وأعقد ما تكون في الإنسان.
من المفترض أن نشأة الحياة الاجتماعية منذ نشأة البشر، والتزاوج الذي تكونت منه الأسر هو نواة الحياة الاجتماعية الأولى بين الزوجين، ثم بينهما وبين أولادهما، ثم بين الأسر القريب بعضها من بعض، ثم بين أفراد المجتمع السكاني الواحد. كانت الحياة بسيطة جداً في البدء، وليس للناس ما يطمحون إلى الوصول إليه إلا الغذاء والكساء، وكان الغذاء بسيطاً ومتوافراً في الطبيعة يصل إليه كل إنسان بمفرده، وكذلك كان الكساء. ثم لما كثر الناس من جهة، وتقدموا فكرياً وعملياً من جهة ثانية، وتكونت لديهم بعض الخبرات من جهة ثالثة، فصنعوا بعض الأدوات لاستعمالها في قضاء أغراضهم، وابتكروا بعض الطرائق لاستغلال خيرات الأرض، تعددت مطالبهم وتنوعت حاجاتهم. واختص كل فريق من الناس بعمل من الأعمال؛ سواء في الصناعة أو في الزراعة، يُنتج كل منهم سلعة من السلع، ثم يتبادل هو وغيره نتاج أعمالهم، فيأخذ ما يحتاج إليه من سلع الآخرين، ويعطيهم ما يفيض عنه من إنتاجه.
ونجم عن اختلاف الجهد الذي يبذله الأفراد في صنع أعمالهم وإنتاج سلعهم، وعن اختلاف كمية الحاجات التي يتطلبها كل فرد ونوعيتها، وعن حاجة بعضهم إلى سلع متعددة، نجم عن هذا كله أن نشأت فكرة تحديد قيمة السلع، وأن تقوم فئة من الناس بدور الواسطة بين منتجي السلع ومستهلكيها، وهكذا نشأت بعض طبقات المجتمع: الصناع والزراع والتجار. ونجم عن ذلك وجود مصالح متبادلة أحياناً ومتضاربة أحياناً أخرى؛ فالإنسان بدأ يشعر بحاجته إلى أخيه الإنسان، ليساعده على القيام ببعض الأعمال التي لا يستطيع إنجازها وحده، ولكنه من جهة أخرى يسعى لمنافسة غيره ليزيد من مكاسبه، وهكذا تكونت الصداقات، أو حدثت الخلافات والعداوات.
وكان لابد من أجل العيش بسلام، من الاتفاق على طرائق التعامل بين الناس، وتنظيم الأعمال وتوزيعها، وتحديد واجبات كل فرد وحقوقه، تبعاً للحاجات ونتيجة للتجارب. وكان لابد كذلك من وجود من يحكم بين المختلفين ويوفق بينهم، فتفرغت فئات من الناس للقيام بهذه الأعمال، ونشأت طبقتا الإداريين والقضاة، الذين لا يعملون بأيديهم وإنما يعملون بعقولهم وخبراتهم، ونشأت بذلك نويات الحكومات التي تدير أمور الناس وتسيرها لما فيه مصلحتهم، وتسيطر على الأمور بما تفرضه من أنظمة وتسنه من قوانين. وكان على رأس هذه الحكومات من رشَّحه الناس لهذه الرئاسة لثقتهم به، ولِما وجدوا فيه من كفاءات، أو من استولى على مقاليد الحكم عنوة بقوته، برضا الناس أو من دون ذلك.
وواكب كلَّ هذه التبدلات، ومنذ اللحظة الأولى، إلى جانب سعي الناس لتوفير حاجياتهم وانصرافهم إلى أعمالهم، التفكيرُ في الكون والوجود، وعزا الناسُ إلى ما في الطبيعة وما يظهر في السماء، وما يجري على الأرض، التأثيرَ في أعمالهم فأكبروا الشمس والكواكب، وخافوا البرق والرعد، وخشوا البحر والليل، وأرهبتهم الزلازل، وأفزعتهم الصواعق، وسرّهم ضياء القمر، وأنعشهم جو الربيع، وأبهجتهم مناظر الطبيعة الخلابة، ووجدوا في هذا كله من القوة والجبروت، أو من الجمال والبهاء، ما دفعهم إلى الخوف منه، أو السعي للتقرب إليه، وسمّوا كلاًّ من هذه القوى أو المظاهر إلهاً عبدوه، وجعلوا يقدمون إليه الهدايا أو القرابين، وظهر منهم أشخاص ادَّعوا قدرتهم على إيصال مطالب الناس إلى الآلهة المتعددة من جهة، وإيصال بركات هؤلاء الآلهة إلى الناس ورضاهم عنهم، أو إبلاغهم سخطهم عليهم لتقصيرهم من جهة ثانية.
وأنـزل الله، في الأزمنة الموغلة في القدم كذلك، الأديانَ السماوية بواسطة الأنبياء والمرسلين، الذين قالوا جميعهم بوجود إله واحد هو صانع كل القوى والظواهر، التي خاف منها الناس أو التي أحبوها، ودعوهم جميعاً إلى عبادة هذا الإله وحده دون غيره. وظهر من تابعي هذه الأديان السماوية أشخاص مهمتهم نشرها، وتعليم الناس أصولها وما أمرت به وما نهت عنه. وهكذا نشأت في المجتمع طبقة جديدة هي طبقة الكهنة من جهة وطبقة رجال الدين من جهة ثانية، كانت لهم في بعض الأزمنة قوة كبيرة، سيطرت على نحو واضح أو من وراء ستار، على مقدّرات بعض الشعوب. ووضعوا لأعمالهم وسلوكهم الديني وصلاتهم بالناس قواعد خاصة تسمى (الطقوس)، التي اختلفت باختلاف الشعوب. ومع أن منها ما لا يعرف منشؤه ولا الغاية منه فإنها مازالت محترمة ولا تتم (البركات) إلا بها. وهي تشمل لباس الكهنة ورجال الدين وحركاتهم، وما ينطقون به من كلام في المناسبات المختلفة كالولادة والزواج والسكن الجديد، والوفاة والسفر والبيوع وغيرها..
هذا تسلسل ما حدث، أو ما يفترض منطقياً أنه حدث في مجتمع ما، ولكن الأمر لم يقتصر على هذا، بل نشأت في الوقت نفسه مجتمعات أخرى مجاورة أو بعيدة، عاش كل منها في قطعة من الأرض، وكانت العلاقة بين المجتمعات المختلفة في البدء بسيطة على الغالب، لا يتدخل أحدها في شؤون الأخرى، وكان القاطنون في أحد المجتمعات يستطيعون الذهاب إلى المجتمعات الأخرى لزيارتها أو الإقامة فيها، ونقل البضائع إليها أو حتى العمل فيها، دون حسيب أو رقيب. ولكن تعقد الأمور واختلاف المصالح، أو الاختلاف على مناطق رعي سكان كل مجتمع أو عملهم، انتهى إلى إيجاد أنواع من الاتفاقات والأحكام لتنظيم هذه العلاقات؛ تحدِّد الحدود وتضع أساليب تبادل السكان والبضائع، وأدى ذلك إلى إبرام اتفاقات ومعاهدات مختلفة الأغراض السياسية والتجارية والثقافية وغيرها. ولكن اعتداء أحد المجتمعات على الآخر، دعا إلى تخصيص فئة من أفراد كل مجتمع للدفاع عن حدوده ومصالحه، وهكذا نشأت الجيوش ونشأت بنشوئها في كل مجتمع طبقة جديدة هي طبقة (العسكر). ونتيجة الحروب التي نشبت بين الشعوب المختلفة، ومحاولة كل طرف من الأطراف المتنازعة الغلبة على خصمه بكل الوسائل، وإفراط بعضهم في ذلك لإلحاق الأذى الماحق بخصمه، وخشية من استعمال الخصم وسائل مماثلة أو أكثر أذى منها؛ فقد وضعت قوانين للحرب، كما وضعت قوانين للسلم، ومهما يكن من أمر التقيد بها وتنفيذها أو عدم التقيد بها أو تجاوزها، فإنها موضوعة وهي نوع من أنواع العلاقات الاجتماعية على كل حال.
في هذا العرض الشديد التبسيط لتعريف العلاقات الاجتماعية ومبدأ نشوئها وتطورها، نرى أنها على درجات وعلى أنواع؛ فهي علاقات بين الأفراد المنتمين إلى طبقة واحدة أو طبقات متقاربة في المجتمع الواحد، وعلاقات بين المنتمين إلى طبقات مختلفة في المجتمع نفسه، وعلاقات بين المجتمعات المختلفة، ولكل نوع من هذه العلاقات تسمية خاصة؛ فهي: (الأخلاق أو السلوك) بين الأفراد في المجتمع نفسه، وهي (الطقوس) في العلاقات الدينية، وهي (الأعراف أو التقاليد أو المعاهدات أو المراسم) بين المجتمعات المختلفة. وقد تواضع كل مجتمع على مر العصور على نوع من هذه العلاقات، حتى أصبحت تؤلف جزءاً من حياة أفراده؛ فطريقة السلام وطريقة الكلام، وأسلوب الجلوس والقيام، وحتى تناول الطعام، وكذلك طريقة التعبير عن الرغبات وطريقة التفاعل حين الأزمات والتصرف في مختلف المناسبات، كل ذلك له ضوابط وقواعد، يجب أن يعلمها الناس ويتبعوها بدقة. والتعامل بين الطبقات المختلفة في المجتمع الواحد، له كذلك ضوابط وقواعد، فهناك سواد الشعب وهناك الطبقات المتميزة، التي تختلف ويختلف تأثيرها باختلاف الشعوب؛ ففي الهند مثلاً يقسم الناس بحسب الديانة الهندوكية إلى أربع طبقات، تختلف باختلاف منشئها من الإله (برهْما) الذي خلقها من جسمه: «لصلاح هذا العالم وفلاحه، خلق الإله الأعظم برهما الفرق الأربع من وجهه وذراعيه وفخذيه وقدميه»[(1)].
وقد عهد إلى البراهمة، وهم المخلوقون من وجه برهما، بقراءة الويد (أحد الكتب المقدسة لدى الهنادكة) وتعليمه، والقيام بأعمال عبادة يكيه (نوع من الطقوس الدينية) لأنفسهم ولغيرهم، وخصَّهم بإعطاء الصدقات وقبولها. وفرض على الكشتري، وهم المخلوقون من ذراعي برهما، خمسة أمور هي: المحافظة على الرعية، ودفع الصدقات، والقيام بعبادة يكيه، وقراءة الويد، وعدم الميل إلى نعيم الدنيا. وفرض على الويش، وهم المخلوقون من فخذي برهما، سبعة أمور وهي: حفظ الحيوانات ورعيها، وإعطاء الصدقات، والقيام بعبادة يكيه، وقراءة الويد، والاتجار، والتعامل بالربا، والاشتغال بالزراعة. وفرض الإله الأعظم على الشودر، وهم المخلوقون من قدمي برهما، أمراً واحداً وهو: أن يقوموا بإخلاص تام بخدمة هذه الفرق الثلاث[(2)].
وفي أوربا في القرون الوسطى كانت طبقات الشعوب أربعاً: النبلاء والإقطاعيون ورجال الدين وعامة الشعب، وفي الشعوب القديمة، والعرب من جملتهم، عرفت طبقتا السادة والعبيد. وجاء الدين الإسلامي فجعل الناس سواسية؛ كلهم أحرار وكلهم عبيد الله وحده لا شريك له، وعالج مشكلة العبودية بطريقة تدريجية حكيمة عظيمة، حين شجع على تحرير العبيد في معظم المناسبات التي تعرض في حياة الناس؛ كالتكفير عن سيئاتهم أو أخطائهم أو الشكر لله على نعمة أسبغها عليهم، وغير هذه المناسبات، وتنبهت الشعوب الأخرى تدريجياً لإلغاء الرق، ولكن بعد مئات السنين.
ومع السعي لإلغاء الطبقات بمعناها القديم، فإنه من البديهي أن يكون في كل شعب درجات مختلفة من الناس؛ بعضها أعلى من بعض وعلى كل إنسان في أي مجتمع أن ينتبه لطريقة تعامله مع من يعلوه درجة، ولاسيما حين يضطر إلى مخاطبته وتوجيه رسالة خطية إليه مثلاً؛ فيجب أن يبدأ رسالته بما يتناسب ومقامه؛ فهناك ألقاب الرؤساء: صاحب الجلالة، وصاحب العظمة، وصاحب الفخامة، وصاحب السمو، وصاحب السيادة، أو ألقاب أصحاب المقامات العالية: صاحب السعادة، وصاحب الرفعة، وصاحب العطوفة، وألقاب رجال الدين: صاحب السماحة، وصاحب النيافة، وصاحب الفضيلة، وصاحب الغبطة، وهناك في بعض البلدان: الباشا والبيك والأفندي، عدا الألقاب العسكرية المختلفة كالفريق واللواء والعقيد والمقدم والنقيب.
وتختلف القواعد الأخلاقية بين مجتمع وآخر؛ فطريقة السلام مثلاً تختلف بين المصافحة أو مس الأنف بالأنف أو تقبيل الكتف أو تقبيل الجبهة، كما تختلف في المجتمع نفسه باختلاف الأزمنة؛ إذ كان من المعيب مثلاً خروج الإنسان العادي إلى عمله إلا بلباس كامل، مع ارتداء لباس الرأس وربطة العنق، فأصبح رئيس أكبر جمهورية في العالم يخرج حاسر الرأس ببنطال (الجينـز) وقميص قصير الأكمام بلا ربطة عنق. وكان من المعيب على السيدات العاديات الخروج بلباس قصير أو ضيِّق، فأصبحت مثلاً وزيرة خارجية دولة كبيرة جداً جداً تظهر في الاجتماعات الرسمية بلباس قصير جداً جداً (ميني جوب). وفي البلاد العربية والإسلامية كانت الألقاب غير معروفة، فلا فخامة عمر، ولا سمو علي، ولا عطوفة معاوية، وإنما عمر وعلي ومعاوية إضافة إلى أمير المؤمنين، وهي ليست لقباً وإنما هي صفة عملهم، والناس كلهم يخاطبون بأسمائهم أو بأسماء آبائهم أو بأسماء أبنائهم: سعيد أو ابن جبير أو أبو الفضل.....إلخ. ثم عرفت الألقاب في زمن العثمانيين وسرت إلى البلاد العربية واستمرت بعد ذلك، وأضيف إليها الكثير من الاختراعات المحلية أو المنقول من الدول الأجنبية، ثم ألغي بعضها وأبقي على بعض.
أما بين المجتمعات المختلفة، فقد نظمت العلاقات بمراسم تحدد مثلاً طريقة استقبال الضيوف القادمين من بلد آخر بحسب مقاماتهم: من يستقبلهم، ومن أين يبدأ استقبالهم، ومن يرافق الضيف، ومن يُستقبل مع الضيف، ومن يسير في اليمين ومن يسير في اليسار، وكيف تقام الولائم، ومن يدعى إليها، وكيف تقدم الهدايا، وما درجة الأوسمة التي تمنح ومن يقدمها... إلى غير هذا من الأمور التي يجب أن يتقيد الجميع بتفاصيلها.
نشأت الشرائع والقوانين والأعراف منذ آلاف السنين كما يبدو، وتطورت مع تطور الناس وسجلتها بعض المجتمعات بوسائلها التي كانت تعرفها، وأول ما وصل إلينا على نحو كامل تقريباً شريعة حمورابي (1782-1750ق.م) في بلاد الرافدين، وإن كان قبلها بضع شرائع وصلت غير كاملة؛ مثل قانون أوركاجينا (2355ق.م)، وقانون أورنامّو (300 سنة قبل حمورابي)، وقانون لبيت عشتار (1885-1875ق.م)، وقانون أشتونا (200 سنة قبل حمورابي) وكلها في بلاد الرافدين، ولا أدري شيئاً عن الأمم القديمة كالصين، ولا شك أن لها قوانين وشرائع لما لها من حضارة عظيمة، وكذلك الحضارة المصرية القديمة. ومن القوانين والشرائع التي وصلت كاملة الشريعة الهندوكية (منوسمرتي) (1000-600ق.م) طبعاً عدا الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل والقرآن. وتغطي معظم هذه الشرائع كل مشاكل الحياة اليومية والعلاقات الأسرية والعامة، وطرائق المعاملات المختلفة وواجبات كل إنسان وحقوقه... ومع اتفاق معظم الشرائع على ما هو حسن وما هو قبيح، وما هو مسموح وما هو ممنوع، نجد بعض الاختلافات في مسائل مهمة: فالربا مثلاً غير محرم في الديانة اليهودية إلا بين اليهود أنفسهم، والتعامل بالربا مع غير اليهود لا يعد سيئة:«لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بها، للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا؛ لكي يبارك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها تملكها»[(3)].
والربا في الشريعة الهندية أحد موارد الرزق الحلال: «تأتي الأموال بسبعة طرق مشروعة وهي: الإرث واللقطة أو الهبة والشراء، ومال الغنائم والإقراض بالربا وأجر العمل، وقبول هدايا العلماء»[(4)].
والزنا محرم في معظم الشرائع والديانات، ولكنه محلل أحياناً في شريعة الهنادكة: «يجوز للمرأة - بالإذن- إذا عدمت الأولاد أن تواقع أخا زوجها أو أحد أقاربه بالطرق المشروعة؛ بغية الحصول على أولاد. إن الذي يعهد إليه بمواقعة أيّـم عليه أن يدهن بدنه بسمن، ثم يقترب منها ليلاً وهو صامت، وله أن ينسل منها ولداً واحداً فقط. بيد أن بعض الأحبار العالمين بالأحكام يرون أن نسل ولدين من مثل هؤلاء النسوة جائز أيضاً لا إثم فيه»[(5)].
إن الكلام في العلاقات بين المجتمعات المختلفة لا يعني الناس كثيراً؛ لأنها لا تؤثر في حياتهم، وإنما يهتم الناس بالعلاقات الاجتماعية في مجتمعهم؛ فهي تؤثر في مختلف نشاطاتهم أينما كانوا في الدار وفي العمل، وفي المدرسة وفي السوق. وتقاس حضارة الشعوب بمدى تمسكها بهذه الأخلاق الاجتماعية، وتتمثل في سلوك الإنسان في حياته اليومية في الدار بين زوجه وأولاده، وفي العمل بين زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه، وطريقة تعامله مع أهله وجيرانه والناس على اختلاف درجاتهم، وتصرُّفه حين يعرض له طارئ؛ كخلاف مع جار أو إساءة من صديق، أو حين تتبدل حاله كأن يُكَلَّف بمنصب رفيع، أو يكون فقيراً فيغتني، أو على العكس أن يكون غنياً ويمنى بخسارة فادحة. إن تصرفات الإنسان في مختلف حالاته وفق المقاييس التي تواضع عليها مجتمعه، هي التي تُقدَّر بها أخلاقه، فيقال: إن فلاناً خلوق أو إنه ذو سلوك حسن، فيحبونه ويحترمونه، أو يقال: إنه سيئ الأخلاق سيئ السلوك، فيكرهونه ويجتنبونه.
ويحكم على حضارة الشعب، كما قلنا، بمدى تمسك أفراده بهذه الأخلاق، وهي في أساسها واحدة في كل الشعوب عدا النادر مما ألمحتُ إليه قبل قليل؛ فالصدق والأمانة والإيثار وإتقان العمل كلها من الأخلاق الحميدة، والكذب والخيانة والأثرة والغش كلها من الأخلاق الذميمة، وجميع الشعوب متفقة على ما هو حميد وما هو ذميم، وجميع الأديان تحث على التحلي بالأخلاق الكريمة، والبعد عن السيئة، وجميع الناس متفقون على أن الشعوب بخير ما تَمَسَّك أفرادها بالأخلاق؛ لأنها تؤكد التآلف بين الناس، وتمنع الخصومات، وتحفظ النظام، وتحق الحقوق، وكل هذا قوة تمنع تسرب الفساد والفوضى والظلم، ومن هنا كانت الأخلاق إحدى الدعائم الأساسية التي يقوم عليها بنيان الأمة التي ألمح إليها الشاعر بقوله:
وإنّما الأمـم الأخـلاق مـا بقيـت
فـإن هُمُ ذهبـت أخلاقهـم ذهبـوا
ومن هنا أيضاً نفهم سعي الدول القوية إلى إفساد أخلاق الشعوب الضعيفة ليسهل استيلاؤها عليها، كما فعلت إنكلترة في نشر استعمال الأفيون في الصين، في أوائل القرن الماضي (وهو ما عرف بحرب الأفيون)، وكما تعمل الكثير من الحكومات الآن في نشر الفساد على اختلاف أنواعه حتى في بلادها نفسها؛ ليسهل على الحكام السيطرة على شعوبهم وتسييرها وفق رغباتهم، وهي خطة صهيونية وردت في بروتوكولات حكماء صهيون التي أنقل بعض المقاطع منها فيما يلي:
«لذا يجب علينا أن نقضي على كل الأديان، وأن ننـزع من عقول الكوييم[(6)] الاعتقاد بالله وبالروح، وأن نحل محلها صيغاً حسابية وحاجات مادية»[(7)].
لقد خدعنا وزيَّفنا وخبَّلنا وأفسدنا أخلاق شبان الكوييم بتعليمهم نظريات نعلم أنها خاطئة، ولكننا نحن الذين أوحينا بها إليهم[(8)].
«ولكي نمنع الجماهير من أن تتخذ، مستقلة، أي قرار، فإننا نلهيها بالألعاب ومشاهد الترفيه والأهواء ومراكز الثقافة الشعبية.. وهذه الملاهي سوف تصرف أذهان الجماهير بشكل نهائي عن القضايا التي تجبرنا على الدخول معها..... وكل ذلك يكون عن طريق أناس لا تكون لنا بهم صلة ظاهرة»[(9)].
فما هي هذه الأخلاق التي نتحدث عنها؟ وما مدى صحة ما يقال فيها؟ هذا ما سأحاول البحث فيه في الصفحات القادمة، سائلاً الله التوفيق.
مستخلص
هذا هو الجزء الثاني من سلسلة ((أدركوا الدعائم)) خصصه المؤلف لموضوع الأخلاق بعد حديثه في الجزء الأول عن اللغة.
بدأ المؤلف كتابه بمقدمة عن تطور المجتمعات الإنسانية، تلاها مبحثان؛ الأول بعنوان ((مظاهر من المجتمعات))، والثاني خصصه للحديث عن ((الأسباب والتقويم)).
في المبحث الأول أدرج عدداً من الموضوعات لنماذج أخلاقية سلبية تحت عناوين؛ أم الأخلاق، أخذ وعطاء، هذا ولد، أنا حرّ، المناطق سعادة، بين الصلاتين، أولاد تسعة، مستعجل، ما أبت الجبال حمله، في الدرك الأسفل، أسنان المشط، خير الأمور، من أكبر الكبائر، كلاهما إثم، أساس الملك، مقلاة، فن وذوق وأخلاق، وكالة بلا بواب، ما الرأي، الغضب، الكسل، الطمع، الحسد.
وبعد هذه النماذج الأخلاقية المنحرفة التي عرضها المؤلف توقف عند مبحثه الثاني الذي قسمه إلى قسمين، فتحدث في القسم الأول عن الأسباب التي تؤدي إلى تدهور الأخلاق، ورآها في الفقر والجهل والظلم، وفقد القدوة والصحبة السيئة، ووسائل الإعلام والاتصالات، وحب التقليد والفراغ والجِدة وفقد الحساب، وفقد الوازع. أما القسم الثاني فخصصه للتقويم، وأرجعه إلى أمرين أساسيين؛ محاسبة النفس ووجود القدوة.
ثم أنهى الكتاب بخاتمة أشار فيها إلى عموم الأخلاق الخيّرة التي تأمر بها الأديان على اختلافها.