أسئلة يجب أن يطرحها البحث العلمي في ضوء الدراسات التي تتحدث عن الهوية الوطنية؛ كالهوية الإماراتية، والمصرية..إلخ، في الوقت الذي لا تخرج هذه الكتابات عن إطار العروبة والإسلام، وبعض مظاهر التحديث. لكن هذه مكونات عامة للهوية العربية، ولا تشكل خصوصية الهوية.
وكما ذكرت مراراً، فالهوية العربية الحديثة لا تتشكل إلا بعد قيام الدولة العربية الحديثة، التي تتشكل هويتها من البنى الثقافية العميقة ومن منجزات الحداثة. لذلك لا أتردد في القول: إننا نعيش في ضوء هويات مزورة لا تعبر عن الواقع والمستقبل. مزورة هويتنا ما دامت لا تلحق بعصرها.
لقد فجرت العولمة أزمة الهوية في المجتمع العربي بدليل ما نشاهده من صراعات الهوية في لبنان والعراق والسودان والصومال..إلخ. البلاد العربية مهددة بحروب الهوية، بـ(من نحن)؟ سؤال طال البحث فيه، ولا يفسر إلا بأزمة بنائية وحضارية وفوات تاريخي منقطع النظير.
لقد سقط العرب في الدرس التاريخي، لم يتعلموا من التاريخ، ولم يقرؤوه، علماً بأنهم عاشوا التاريخ بوصفه محنة، لكن دون وعي تاريخي. وعي التاريخ هو صناعته والاستجابة لتحدياته. خسروا الأندلس وفلسطين والعراق الشهيد وأجزاء أخرى كثيرة، والحبل على الجرار، كما يقال، لكن ذاكرتهم التاريخية ضعيفة ووعيهم أضعف، وفلسفتهم هي الحفاظ على أي شيء، مهما كان هذا الشيء، لكن لم يخطر على بالهم أن هذا التراخي والتراجع المستمر، قد يقضي على كل شيء.
قضية التخلف التي يعاني منها البناء الاجتماعي العربي كبيرة جداً، إنها الاستبداد، والحجر على العقل. لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض دون حرية. أسباب أزمة الهوية كثيرة، أهمها:
أولاً ) غياب التنوير. يتساءل كانط ( Kant ): ما التنوير؟ "التنوير هو خروج الإنسان من قصوره، ذلك القصور المسؤول عنه ذاته. القصور هو عجز الإنسان عن استخدام عقله دون توجيه الآخرين. هذا القصور مسؤول عنه الإنسان ذاته، لأن سبب ذلك لا يعود إلى عيب في العقل، وإنما يكمن في القرار والجرأة في أن يستخدم عقله دون قيادة الآخرين"[(67)]. (كن شجاعاً، واستخدم عقلك) هذا شعار التنوير.
التنوير هو الإنسانية، أو الإلهي في نوعنا، كما يقول يوهان غوت فريد هيردر ( Herder )[(68)]، هو حرية العقل والإنسان ومحاربة كل أنواع الطغيان والاستبداد، ولا تقوم إنسانية الإنسان إلا بالحصول على حقوقه، أو ما أسماه أندرياز ريم (1749- 1807) بالحق في التنوير[(69)]، ويعرف حقوق الإنسان بالحق في التنوير "إذا منع الشعب من التنوير، فله الحق في الثورة". "كما نقول: الشعب هو المسؤول عن قصوره، نقول أيضاً عن الحكومة، بأنها هي المسؤولة عن كل ثورة... لأنها لم تحترم حقوق الإنسان"[(70)]. لكن إذا كان الحاكم متنوراً، وعاش الشعب في سلام وتحت قوانين العدالة، فلا حاجة إلى الثورة[(71)].
الحق في التنوير يعني حقوق الإنسان والمواطنة وتحرر العقل البشري من الوصاية. فمن دون ذلك، يخسر الإنسان إنسانيته وهويته. وبهذا فأزمة الهوية هي أزمة العقل والمواطنة والحرية والتحديث.
ثانياً ) غياب التنوير هو السبب في إخفاق عملية التحديث واستمرار الهويات القديمة. التنوير أساس أي تحديث. والتحديث ثقافي وعقلي واقتصادي وسياسي واجتماعي، هو تجديد للهوية وقيامها على أساس المواطنة وحقوق الإنسان والصناعة. الهوية هي حق الإنسان في التنوير. التنوير هو أنسنة التحديث.
ثالثاً ) أزمة الشرعية وعلاقة السلطة بالمجتمع. تفتقر الدولة العربية إلى الشرعية السياسية بسبب اغتصابها للسلطة. الدولة تتسلط على المجتمع، وتفرض وصايتها عليه، وتنتهك حقوقه. الدولة إقطاعية للمستبد وأهله. لذلك ثمة انقطاع بين الدولة والمجتمع، تاريخ الدولة لا يمت بصلة إلى تاريخ المجتمع. الدولة منفصلة عن المجتمع ومعطلة لحركته. في النظم التعددية يضبط المجتمع الدولة من خلال مؤسساته. في مجتمعنا ثمة وصاية شاملة للدولة على المجتمع، وقد بلغت هذه الوصاية مدى لا يمكن تصوره. هذه الدولة الفاشلة والقائمة على الهويات العتيقة هي أحد الأسباب الرئيسة لأزمة الهوية.
رابعاً ) إن انهيار النظم الشيوعية وقيام عقلانية معلوماتية جديدة، أنهى المرجعيات الإيديولوجية والثنائيات المعروفة، وأسقط المنطقة العربية في مرحلة جديدة، لا تبدو سمتها البحث عن الذات، بل حرب الهويات القديمة . في ظل هذه الأوضاع سيكون لدينا نوعان من الهوية: الأولى هوية الواقع المأزومة ( Status quo )، والثانية هوية ما يمكن أن يكون.
أما هوية الواقع، فهي متأزمة ومضطربة، ومنكفئة على ذاتها. هذا التأزم يظهر في حرب الهويات المذهبية والطائفية، وفي عدم بلورة هوية وطنية عربية. يقول أحد الباحثين: إن العلاقة بين الموروث والمكتسبات الجديدة في تشكيل الهوية تنتظم على الوجه الآتي: "لا تخلو العلاقة من أن تكون على أحد من الوجوه الثلاثة أو أكثر: الوجه الأول هو التجاور التكاملي، حيث تتآلف القيم الموروثة مع المستحدثة فلا يقع تنافر أو تضاد بينها، وهو المثال في العلاقة بين المكونين. والوجه الثاني هو التناقض التعايشي، حيث لا ينشأ تركيب أو تآلف بين المكونين، لكنهما يتعايشان من دون أن يلغي أحدهما الآخر. أما الوجه الثالث، فهو الصدام حيث يتنابذ المصدران ويقاوم أحدهما الآخر لتنجم عن ذلك هوية ممزقة. عاشت الهوية العربية في العصر الحديث هذه الأوجه الثلاثة بتفاوت: تعاقبت أحياناً، وتزامنت في أحايين أخرى"[(72)].
هذه الحالة الراهنة للهوية العربية من الصعب أن تستمر في عصر العولمة. فنحن نلاحظ تهافت هذه الأشكال من التعايش وتصدع الهويات القائمة.
خامساً ) الهوية العربية وتحديات المستقبل. "الحداثة الغربية عموماً، والعولمة المعاصرة خصوصاً، وما أفرزته من ثقافة تقنية بصفة خاصة، في طريقها إلى أن تصبح ثقافة عالمية أو كونية شاملة، بكل ما في الكلمة من معنى، أحببنا ذلك أم كرهنا، وافقنا أم رفضنا، فثورة الاتصالات والمعلومات المعاصرة، والاتفاقيات الدولية في السياسة والثقافة والاقتصاد، سوف تحول العالم إلى قرية ثقافية واحدة، ولن تستطيع الثقافات التقليدية أن تصنع شيئاً أمام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وفعاليات قادرة على اختراق الغرف المغلقة والأصقاع البعيدة، ولا تصدها الحدود أو تقف جدران الحماية في وجهها. وإذا كنا قد تأزمنا وجودياً حين واجهنا الغرب الحديث لأول مرة في القرن الماضي، وأصابتنا رجفة خوف على هويتنا الثقافية الذاتية، واستنفرت آليات الدفاع في ذواتنا، فماذا نقول اليوم وثقافة الغرب التي تعرفنا إليها في الماضي ليست شيئاً مذكوراً مقارنة بالثقافة التقنية الجديدة ووسائلها؟ وسائلنا التقليدية في الحماية لم تعد تجدي، فثقافة عصر ثورة الاتصالات والمعلومات لا تعترف بالحواجز، كما أن الثقافة الذاتية... والتي نحاول حمايتها، ليست شيئاً واضحاً وملموساً، كما الثقافة المعاصرة، بل هي شيء هلامي الشكل، قائم على بنية لفظية أو بيانية أكثر منها عملية وعلمية محسوسة، وحتى لو كانت كذلك... فإنها غير قادرة على منافسة مفاهيم الثقافة الوافدة نداً لند"[(73)].
تكنولوجيا المعلومات هي فلسفة الخيال، تعيش من الخيال وعليه. هذه الفلسفة تشدنا إلى الأمام، إنها تقذف بنا دائماً إلى المجهول، ولهذا من الصعب أن نصف فنومنولوجيا الإنترنت وأثرها في تكوين الهوية، خصوصاً أن الكثير منا عاشوا طويلاً في سجون الهويات القديمة، فكيف بهم أن يدركوا - وإن أدركوا فلن يصدقوا - ما أحدثته تكنولوجيا المعلومات، وتحديداً الإنترنت، من انقلاب في عالم العمل والفكر والتواصل مع جماعات عابرة للجغرافيا واللغة والتاريخ. لم تعد الهوية رابطة المكان والزمان والثقافة والإنسان، بل صارت هوية فوق الزمان والمكان، ولم "تعد تخدم المصالح، بل تعرّف المصالح"[(74)]. الهوية تعرف المصالح لا تخدمها، وأفهم تحت ذلك أن الهوية هي المصلحة، وكيفية تحقيقها.
الأمم، إذا طلبت الحياة، فلا بد من مواجهة تحدياتها بسلاحها. لكن العرب تخلفوا كثيراً عن الركب والتاريخ، حتى إنهم فقدوا الإحساس بما يجري حولهم، وهذا ما يتمثل في موقفهم من العولمة، فهو موقف مرتبك وخائف، كما كان موقفهم من الحداثة[(75)]. لكن إذا كانت الحداثة قد تركتهم وشأنهم، فإن العولمة أصبحت تحدياً داخلياً.
فالعولمة الخارجية تبعث أخرى داخلية. بكلمة أخرى، إن مجتمعنا لن يكون بمنأى عن تأثير العولمة، على العكس إنه أكثر تأثراً، ذلك أن ثقافتنا أضعف من أن تصمد أمام ثقافة المعلومات، التي تنتشر في مجتمعنا كالنار في الهشيم، خصوصاً أن تكنولوجيا المعلومات أصبحت من مقتضيات الحياة وتشكلها، بعدما حولت أحداث العالم إلى أحداثنا، وأحداثنا إلى أحداث العالم، ما يجري أينما كان وحيثما كان، يخص الجميع. عولمة التغير هي سمة العصر. كل منا يحتاج إلى الجوال والإنترنت. ولهذه التكنولوجيا أبعادها الاجتماعية؛ فهي تؤثر في علاقاتنا وتواصلنا وتشكل عقلنا.
لكن ما نغفله هو دورها في بعث الحركات الاجتماعية الجديدة التي تشكل الهوية الجماعية. والمعروف أن الهوية الجماعية تتشكل من خلال التنشئة والحركات الاجتماعية والثقافية، كما يتضح في مجتمعنا، حيث عرفنا حركتين أساسيتين هما: الدينية والقومية، لكننا نلاحظ الآن ظهور حركات وهويات جديدة كحركة المجتمع المدني والبيئة وحقوق الإنسان والحركات النسوية والأقليات وقيام جماعات افتراضية ذات مصالح مشتركة. كما نلاحظ الآن دور تكنولوجيا المعلومات في الاحتجاج وعولمته[(76)].
فنحن نسمع الآن عن ربيع القاهرة وبيروت و العرب. لن يطول خريف الاستبداد أبداً. مناضلو اليوم ليسوا المثقفين العضويين والبروليتاريين، إنهم مناضلو المجتمع المدني. الحركات الجديدة تطالب بالحرية والكرامة والمشاركة في صنع الحياة، في مجتمعات شرقية ينخرها الاستبداد، وكأنني أرى أن العولمة ستخلص هذه المجتمعات من هذه السجون وتنقلنا إلى ربيع الحرية. نحن أمام ثقافة وتكنولوجيا افتراضية تقوم بدور في تكوين الذات والنحن والفعل. كانت الحركات الاجتماعية السابقة، كالحركة العمالية، بوصفها الشكل الأصلي للحركات الاجتماعية، والحركات الدينية والقومية، هي الحركات التي عرفها عصر الحداثة، وسميت بالحركات الاجتماعية لأنها كانت قادرة على أن تحرك وتعبئ وتنظم الجماهير وتقودها وتعبر عن مصالحها، وكانت من أهم أدوات التغيير السياسي والاجتماعي. فهي حركات اجتماعية قادرة على الفعل والتعبئة الجماعية المنظمة وتتسم بالدوام والاحتجاج وتهدف إلى التغيير، وتشكل الـ (نحن) العمالية والقومية والدينية والشيوعية.
أما اليوم فالملاحظ تراجع الحركات العمالية والقومية، وظهور أحزاب وحركات جديدة، ذات هوية ومطالب سياسية أكثر منها طبقية، واحتجاجية وسلمية أكثر منها دموية، وحتى الحركات الدينية الجديدة فقد غيرت خطابها، حتى صار أقرب ما يكون إلى الخطاب الديني الذي ساد في أميركا الجنوبية في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان يتبنى الدفاع عن حقوق الإنسان والمجتمع ويحارب الاستبداد. كلنا يعلم دور رجال الدين فيما عرف بالكنيسة الحرة في أميركا الجنوبية، والتي تمردت على سلطة البابا، يرافق ذلك كله نزوع نحو الأنا، وما أسميته سابقاً بإيديولوجيا الأنا، وأسماه ( Lasch ) كرستوفر لاش بالنرجسية الثقافية[(77)]؛ أي تمركز الشباب حول ذاتهم وهويتهم الفردية ورفضهم للتوجهات غير المادية، وعزوفهم عن القضايا الاجتماعية والسياسية. عصر النرجسية، حب الذات، هو عصر اللبرالية والأسواق والحضارة الغربية، التي تنمي أسواقها روح الأنا، وتبعث ما أسماه سيغموند فرويد باضطرابات الشخصية النرجسية.
هذه النرجسية الثقافية نتاج التحديث وخسارة الأسرة لوظائفها في التنشئة الاجتماعية. والمؤكد أن تكنولوجيا المعلومات ستعمق هوية الأنا، وجيل الأنا، ومجتمع الأفراد ( Ulrich Beck ).
وهكذا، فإذا كانت الحركات الاجتماعية عملاً جماعياً منظماً، قادراً على تعبئة الناس، ويتسم بالديمومة والاحتجاج وذا أهداف سياسية، فإن تكنولوجيا المعلومات تؤدي هذا الدور، فالإنترنت غيرت أشكال التواصل والحياة والمجتمع، فمن خلالها تنظم اللقاءات والمحادثات والاجتماعات والاحتجاجات الافتراضية والتي تؤدي إلى نشأة حركات اجتماعية جديدة وقيامها[(78)]، وأجنح إلى القول إن تكنولوجيا المعلومات هي التي تشكل الذات التاريخية العالمية الجديدة، التي تصنع الفعل الاجتماعي. لم يكن بوسع ماركس التنبؤ بما يحدث الآن، وهو أن التكنولوجيا تقوم بالدور الأساسي في تكوين الذات التاريخية الفاعلة.
نذكر هذا لنشير إلى التحديات التي تواجه المجتمع: تحديات تتعلق بتحقيق وحدته القومية، وأخرى تتولد عن الحركات الاجتماعية الجديدة في مجتمعنا.
يدخل العرب الألفية الثالثة في حالة من تصدع الهوية. العالم ينهض، يتعولم، وهم منقسمون. جيران العرب: تركيا وإيران وإسرائيل يحاولون اللحاق بالعولمة وبناء هوية جديدة. تركيا تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وإيران توظف كل إمكانياتها لبناء جمهورية إسلامية معولمة، أما إسرائيل فهي دولة معلوماتية.
أما على المستوى العربي فالتخلف يأكل نفسه ويحرق من حوله. أصبحنا ظاهرة غريبة في العصر، وكل ما أخشى أن تصبح اللبننة والعرقنة والصوملة وتجزئة المجزأ هي حالنا. فبدلاً من التعاون وبناء المستقبل العربي، نلاحظ عدة أشكال من الصراع؛ الأول بين النظم العربية، فهذه لم تعد قادرة على التعاون بعضها مع بعض والثاني بين الدولة والمجتمع. هذا الصراع الباطن والظاهر، سببه غياب الديمقراطية.
المـقدمة
لا يخفى على الملاحظ لمسيرة المجتمع الإنساني أن لكل عصر روحه وهويته. روح العصر وهويته عنصران متلازمان، ويستمد كل عصر روحه وهويته من القوى التي ساهمت في صناعته. هذا إذا فهمنا تحت روح العصر القوى الفاعلة فيه، وتحت الهوية إيديولوجيا العصر. بهذا تختلف العصور باختلاف القوى الفاعلة فيها وهويتها، كأن يجري الحديث عن العصور الوسطى، بروحها الدينية، وعصر التنوير بروحه الفلسفية، والعصر الحديث بروحه القومية، وعصر العولمة بروحه اللبرالية.
الهوية معطى تاريخي متغير بتغير العصور، وتعرّف دائماً من خلال روح العصر والمجتمع. روح العصر روح اجتماعية، وقد تجلت بشكل ديني وقومي وما بعد قومي، بمعنى أن المجتمعات الإنسانية تحقق ذاتها وهويتها من خلال هذه القوى التاريخية المختلفة. ثمة انسجام بين روح الأمم وهويتها. لكل عصر هويته، ولا تنفصل هوية الأمة عن هوية العصر؛ فالانفصال يعني التخلف عن الزمان، والخروج من دائرة الفعل التاريخي.
وقد تجلّى هذا الانسجام في الدولة القومية الحديثة بوصفها تطوراً اجتماعياً طبيعياً، ينطلق من الأسرة وينتهي بدولة الأمة. الهوية تعبير عن التكوينات الاجتماعية التاريخية. وجدت الأمة نفسها في هويتها، وعرّفت نفسها من خلال خصوصيتها وتميزها. الهوية تعبير عن انسجام الجماعة مع مكوناتها التاريخية والاجتماعية، لكن هذه المكونات تتغير، وبتغيرها تتغير الهوية. ليست الهوية تكويناً ثابتاً، بل تاريخياً، ليس متغيراً فقط، بل صانعاً للتغير. الهوية تصنع التاريخ. أكثر من هذا، إن ديناميكية المجتمع وحيويته، تقاسان بمدى ديناميكية هويته. وخموله يقاس بجمود هويته؛ بقدر ما تكون المجتمعات خاملة، بقدر ما تكون هويتها ساكنة، وهذا ما نلاحظه على مستوى الهوية ما قبل الحديثة، أما الهوية التاريخية، فهي التي ترى في صنع الواقع تحدياً يومياً، وبقدر ما تصنع الهوية التاريخ، بقدر ما تتغير. هنا تبدو الهوية أقرب ما تكون إلى الإيديولوجيا، التي لا تتغير بتغير الواقع فقط، بل تتقدم الواقع، فهي ليست ملحقة بالواقع، بل الواقع ملحق بها. الهوية هي الانتماء إلى ثقافة وعقل وتراث وعلوم مجتمع وعصر ما، وعلاقة هذه الثقافة بالمجتمع.
وقد ظهرت في علم الاجتماع تعبيرات ومصطلحات كثيرة، قريبة من مفهوم الهوية، كمفهوم العقل الجمعي (دوركهايم)، وروح الشعب ( Volksgeist ) عند الكثير من علماء الاجتماع والفلاسفة. ويرجع معظم هذه المفاهيم والمصطلحات إلى نهاية القرن التاسع عشر، عندما كان المفكرون يرون أن دولة الأمة هي نهاية التاريخ.
العولمة تقطع مع هذا التطور، وتقيم المجتمع على أسس غير اجتماعية. ما هو اجتماعي يتراجع لمصلحة ما هو غير اجتماعي. ويعني هذا أن الهوية بوصفها تعبيراً عن مجتمع الأمة والتعريف به والانتماء إليه، تتعرض لتحديات كبيرة، تنتهي إما إلى تمزيق الأمة وهويتها وتفتيتهما، وإما إلى تجاوز الهوية القومية إلى ما بعد القومية.
ويصدق هذا على كثير من الدول ممّا عرف بالعالم الثالث؛ فهذه تعاني من تفكك الهوية والوحدة الاجتماعية بسبب إخفاقها في إنجاز دولتها القومية وحداثتها، أما بالنسبة إلى المجتمعات الصناعية المتطورة، فإن العولمة تعبر عن مرحلة من مراحل التطور الرأسمالي المعلوماتي.
وبهذا فالعولمة حركة تاريخية، لا يمكن الهروب منها؛ لأنها تؤسس لعالم جديد. كانت القومية وطناً وهوية، أما اليوم، فالعولمة تشكل الأوطان والهوية.
موضوع الهوية لا ينفصل عن القومية والعولمة والثقافة. القومية إيديولوجيا عصر الحداثة، أما العولمة فهي روح عصر جديد، يتشكل ويشكل هوية المجتمعات والإنسان في سياق تاريخي، مختلف تماماً عما سبق، أهم سماته ذلك الطغيان التكنولوجي وخروج التكنولوجيا على الإنسان. فإذا كانت الحداثة مصبوغة بروح دينية مدنية - إلى حد ما - ضمنتها إيديولوجيا فلسفة التنوير وتأكيدها مركزيةَ العقل والإنسان وكرامته، فإن العولمة اخترقت هذه المبادئ[(1)] بعقلها التكنولوجي، وإيديولوجيتها اللبرالية، ورأسماليتها المتوحشة.
رأسمالية متوحشة، داروينية جديدة، تدمر كل ما بنته الحداثة من دولة وهوية قوميتين، بكل ما حملته هذه الإيديولوجية من رومانسية وتحقيق لذات المجتمع. القومية باعتبارها روح الأمة ولغتها ودينها وأرضها وثقافتها، داهمتها العولمة في عقر دارها. لقد ولى زمان القومية وجاء زمن العولمة، هذا قانون التاريخ، أو قانون العولمة؛ إمّا الارتقاء والنمو وإمّا الفناء. كما هزمت القومية التشكيلات ما قبل الحديثة من قبيلة وعشيرة، تُهزم القومية أمام العولمة. هذا هو المبدأ الأول للعولمة.
غيرت العولمة هوية المجتمعات الإنسانية، بعضها اندمج في تكتلات أكبر، والبعض الآخر يعاني من تفكك وصراع الهوية. العولمة أنهت عصراً، وفتحت آخر، أنهت عصر الحداثة، وفتحت عصر العولمة، وودعت بذلك مرحلة بدولها ومجتمعها وإيديولوجيتها، بعدما أعطتها بعداً كونياً. لم تعد الدولة والمجتمع يفهمان في السياق الوطني، بل الكوني. كل شيء يحمل صفة الكونية؛ الدولة والمجتمع والفكر والمثقف والجغرافيا والتاريخ. البعد الكوني للعولمة غير هوية الدولة والمجتمع.
كانت الدولة القومية تعبر عن المجتمع القومي، أما العولمة فقد عولمت الدولة والمجتمع والثقافة: الدولة المعولمة هي الدولة اللبرالية، دولة السوق، فهذه لا تعرّف نفسها من خلال الثقافة، بل من خلال اقتصاد السوق. السوق يشكل الهوية. هذا المبدأ الثاني للعولمة. هذا الملاحظ حالياً؛ تكتلات اقتصادية كبرى، تتجاوز الهويات المحلية، ليست الثقافة ما تجمع التكتلات العالمية، بل اقتصاد السوق. أصبحت الثقافة في عصر العولمة سوقاً، تعكس قيم الاقتصاد اللبرالي. اليد الخفية للسوق، بمفهوم آدم سمث، تنظم المجتمع والسلوك وحتى الانتماء. الفضاءات الاقتصادية، التي أنتجتها العولمة، جعلت الهوية المحلية تتغير، أو تسير في طريق الانصهار في كيانات أكبر وأكبر. ولا تنفصل الهوية عن الثقافة، فإذا كانت ثقافة العولمة هي الثقافة اللبرالية، فإن الهوية لا تفهم بمعزل عن هذا التغير. كما عبرت العولمة الحدود، عبرت الثقافات أيضاً، وفتحتها بعضها على بعض.
ثقافة العولمة هي الثقافة المفتوحة على العالم والمستقبل، وكذلك الهوية، أما الثقافة المغلقة فغير صالحة للبقاء. الدول تركض وراء منافعها الاقتصادية أكثر من التأكيد على تفردها عن غيرها. التميز تميز في الإنجاز والتفوق، الهوية الخلاقة هي هوية الإنجاز التي تصنع المستقبل. فالهوية تصنع وتصنع، بمعنى صناعة الواقع وتغييره، وتصنع: أي تتغير على الدوام من خلال الإنجاز. الهوية هنا منجز حضاري، أكثر منه معطى تاريخياً. هذا أهم تغير في مفهوم الهوية المعاصرة، وهو سيولتها وتغيرها على الدوام. لم يعد البشر عبيد تراثهم وتقاليدهم، ولم يعد الماضي ما يحدد الأنا. صارت الهوية تنتج على الدوام من خلال تفاعل خلاق بين الإنسان وعالمه.
هذه الظاهرة حاضرة في واقع المجتمعات المعولمة، أما المجتمعات التي أخفقت في تحقيق وحدتها القومية، فتعاني من أزمة الهوية، ولن تصمد أمام عواصف العولمة العاتية.
العولمة تؤسس لعصر جديد، محركه اقتصاد المعرفة، ومشروعه المستقبل والمجتمع المفتوح. صناعة المستقبل ونهاية التراث بوصفه ذاكرة جماعية. هذا هو المبدأ الثالث. وما دامت العولمة مشروع المستقبل، فإن أبرز سماتها هي نزع التراث، وقيام مجتمعات دون ذاكرة تاريخية، مصابة بمرض فقدان الذاكرة " مجتمعات ألزهايمر" Alzheimer Society [(2)]. لا تتذكر الماضي والأمجاد، لكن لديها ذاكرة المستقبل. ذاكرة المستقبل وصناعته هما هاجسها. المستقبل حاضر أبداً في فلسفتها. هذا هو المبدأ الرابع. الرهان على المستقبل، لا على الماضي. من لا يفكر في المستقبل، لا ينتمي إلى عصر العولمة. المستقبل يعرّف الهوية ويصنعها. تاريخ المجتمع لم يعد ماضيه، بل مستقبله. من لا يكسب المستقبل، يخسر كليهما. التعلق المرضي بالماضي دليل على أزمة الهوية.
العولمة واللبرالية صنوان: هما يصنعان الهوية، معنى هذا أن الهوية بنت زمانها، هي التعريف بـ(الأنا) والـ (نحن)؟ لكن الـ (نحن) لم تعد اليوم جماعة ثقافية متجانسة، بل تكتلات اقتصادية ما بعد قومية، تعيد صياغة هويتها وفقاً لمصالحها، روح العصر، تطبع روح المجتمع. الأمم تعيش في العصر أو خارجه. ليس هناك ما يجمع تركيا مثلاً مع أوربا سوى المصلحة. المجتمعات صارت لا تعرّف نفسها عن طريق الأصل الواحد، بل المصالح والقيم المشتركة. المصلحة والأهداف المشتركة يكونان مجتمع العولمة وهويته[(3)]. مفهوم المجتمع الذي عرّف نفسه من خلال الدولة، لم يعد صالحاً. العالم المعولم حالة غير اجتماعية[(4)]. إذا كان البعد الاجتماعي القومي قد شكل مجتمعات الحداثة، فإن مجتمعات العولمة لم تعد تعرّف اجتماعياً. المجتمع عند بك ( Beck ) في كتابه (مجتمع الخطورة/ Risikogesellschaft ) هو مجتمع الخوف الجماعي والخطر البيئي العالمي[(5)].
اجتاحت اللبرالية الجديدة كل حصون الدولة القومية، التي قامت على أساس السيادة الوطنية والثقافية، وعرّفت نفسها من خلال رابطة الدم والانتماء الثقافي، كانت الدولة القومية دولة الهوية الثقافية، لذلك نلاحظ أن أكثر ما يتعرض الآن للخطر هو الهوية الثقافية، وهذا صحيح. لكن ليس ظاهرة عامة، بل ظاهرة تميز المجتمعات التي لم تجدد ثقافتها وهويتها، ولم تحقق وحدتها القومية؛ أي أخفقت في بناء حداثتها. هذه الظاهرة؛ ظاهرة الخوف من العولمة، لا نلاحظها إلا هناك، حيث قامت حداثة ناقصة، وحيث ألبست البنى ما قبل الحديثة من قبيلة وعشيرة، ثوب الدولة، وقامت دولة القبيلة أو الطائفة.
وأفهم هنا تحت الهوية الانتماء إلى العصر، ولذلك فإن المجتمعات التي تخلفت عن تجديد هويتها وزمانها، تعاني من قلق الهوية، والسبب هو أنها لا تملك هوية العصر، ولا تفكر بعقله، وعاجزة عن المشاركة في صناعته. وأكثر من ذلك إنها تعاني من تخلف البناء الفكري والمجتمعي وعدم التكيف مع العصر، ومن التشظي وظهور هويات قديمة؛ إثنية ومذهبية. إن الجمود الثقافي هو السبب فيما نلاحظه من ظواهر ما قبل حديثة، وفي عدم تطوير هوية دولة ومجتمع حديثين، فالدولة هنا، ليس لديها عقلية الدولة ( Staatsraeson )، بل عقلية العشيرة والطائفة. وفي مثل هذه الأحوال يتراجع مفهوم الوطن والمواطنة. الناس يفكرون في انتماءاتهم الضيقة، لا في الوطن. الوطن والمجتمع ينتهيان عندما يتراجع الحس الوطني، ويسود الحس المذهبي والطائفي.
هذا القمع التاريخي - لأن من يسير ضد حركة التاريخ لا يقمع البشر فقط، بل التاريخ أيضاً - يشوه بنية المجتمع، ويفسد نسيجه الاجتماعي، ذلك أن الهوية بوصفها حالة ثقافية لا تنمو إلا في ظل الحرية. الناس لا ينتمون إلى جلاديهم وقاتليهم.
الاستبداد يفتت الهوية، لا يبنيها، يفرق ولا يجمع، دينه الفساد والظلم. دولة الفساد لا تعمر، بل تدمر. زمن الاستبداد وقت ضائع من حياة الأمم. يعرف التاريخ دولاً عاتية ومستبدة، لكن لا يعرف استبداداً لم ينهر - في الغالب - بنهاية مفجعة.
العولمة تعيد بناء المجتمع العالمي والهوية، تلك ظاهرة وحقيقة تاريخية، أصبحنا أبناء عالم واحد، إما أن نساهم في صنعه أو ننعزل. الخصوصية الجامدة التي مارسناها على مدى قرن من الزمان، ولم نفهم تحتها سوى محاربة مكتسبات الحداثة والانغلاق، دمرت أحلامنا في دولة العرب، ودولة المسلمين، ولم تخلف سوى نظام الطوائف والاستبداد الذي لا ينفصل عن هذه الخصوصية الجامدة. فحيثما تتجمد الهوية، يتجمد الفكر، ويطغَ الاستبداد. صار الاستبداد هويتنا وخصوصيتنا. سبب هذه الخصوصية هو أننا لا نستقي أفكارنا من الواقع المتغير، بل من تراث الماضي أو من فكر الآخر ( الغرب )، مما أدى إلى الشرخ الكبير بين الهوية والواقع.
كما لم ترحمنا الحداثة، فلن ترحمنا العولمة. أخفقنا في بناء هويتنا ودولتنا الواحدة في عصر الحداثة؛ لأننا شغلنا أنفسنا بالدفاع عن هويتنا، لا بصناعتها، ومعاداة الغرب، لا التعلم منه، فكانت النتيجة هي تلك الهوية العربية المتصدعة. هوية الأمة هي دليلها نحو الحاضر والمستقبل. وإذا كانت الحداثة هي عصر الخصوصية القومية، وتركت للمجتمعات أن تعيش ذاتها وهويتها الخاصة، فإن العولمة تجتاح الخصوصيات والحدود، وتضعها أمام خيارين، إمّا بناء هوية فاعلة على المستوى العالمي، وقادرة على تفعيل خصوصيتها، وإمّا الانكفاء والدمار.
بناء على ما سبق أتناول الموضوع على الوجه الآتي:
1- ما العولمة؟
2- ما الهوية؟
3- ما أثر العولمة في الهوية؟
4- الهوية العربية وتحديات المستقبل.
ما العولمة؟ وما الهوية؟ وما أثر العولمة في الهوية؟ وما أسباب أزمة الهوية العربية؟ كيف يواجه العرب تحديات الهوية في عصر العولمة؟ هل أخفقت الدولة العربية في بناء هويتها الوطنية والقومية؟ هل العروبة والإسلام تكوينات حضارية متلازمة؟ هل الثقافة والدين من مكونات الهوية؟
أسئلة مهمة يطرحها كل من ينتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية، ذلك أن عصر العولمة اجتاح الهويات، وأعاد صياغتها بما يتناسب مع طبيعة العولمة. فهل نحن قادرون على تحديد هويتنا الثقافية دون نزاعات وصدامات؟
فجّرت العولمة أزمة الهوية في المجتمع العربي، بدليل ما نشاهده من صراعات الهوية في لبنان والعراق، ومصر والسودان، والصومال والمغرب... إلخ. فالبلاد العربية مهددة بحروب الهوية،.
من نحن؟ سؤال طال البحث فيه، ولا يُفسر إلا بأزمة بنائية وحضارية وفوات تاريخي منقطع النظير.
هذه الإشكالية هو ما يبحث فيها الكتاب، ويحاول أن يقف من خلال البحث على أسباب أزمة الهوية في الوطن العربي. أهو غياب التنوير؟ أم إخفاق عملية التحديث؟ أم غياب الشرعية السياسية؟
ويستشرف الكتاب كذلك التحديات المستقبلية بالنسبة للهوية العربية؛ لقد كان لاجتياح العولمة بعقلها التكنولوجي، وإيديولوجيتها الليبرالية، ورأسماليتها وداروينيتها الجائرة أثرها في تدمير كل ما تبنته الحداثة.
كما يوضح الكتاب فكر العولمة وأساليب عملها، والآليات التي أثرت فيها على صعيد الاجتماع العربي، ويتناول النتائج التي تمخضت عن دخول العرب عصر العولمة، وأثر كل ذلك في الهوية العربية والإسلامية.