ولم يتفوق في خلق الشجاعة أحد على رسول الله (ص)، حتى كان قدوة في الإقدام والجرأة والبسالة، وقد حضر عليه الصلاة والسلام كثيراً من المواقف الصعبة. وفرّ منها الكماة والأبطال غير مرة وهو ثابت لا يبرح، مقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما من بطل شجاع إلا وقد أحصيت له فرَّة سواه[(156)] قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم، واحمرت الحِدَق اتقينا برسول الله (ص)، فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه»[(157)] وزاد البراء بن عازب عليه «وإن الشجاع منا للذي يحاذي به»[(158)] وقال عمران بن حصين «ما لقي رسول الله (ص) كتيبة إلا كان أول من يضرب»[(159)]. ومما حكي عن شجاعة رسول الله (ص) أنه كان يود الخروج بنفسه إلى العدو [أي في كل مرة] ولكنه يريد تعليم الصحابة رضوان الله عليهم وتدريبهم على قيادة المعارك، فيبعثهم في سرايا. وكان يقول: «والذي نفس محمد بيده، لولا أن يُشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل»[(160)]. ولم يؤخذ على النبي (ص) فراره ولا مرة واحدة، كما قد يحدث لكل جريء مقدام. وقد فرّ كثير ممن معه في أكثر من موقف، وهو ثابت لا يتزحزح؛ وأبلع مثال على ذلك ما حدث يوم حنين، حين هرب الشجعان تحت نبال المشركين التي انصبت عليهم كالوابل، على حين ثبت هو، فما رؤي يوم ذاك أشجع منه؛
مقدّمة اللهم يسر وأعن الحمد لله رب العالمين، وأزكى الصلاة وأتم التسليم على الحبيب المصطفى (ص)، المبعوث أسوة للناس كافة، ولتكون سيرته العطرة تطبيقاً عملياً لما جاء به القرآن العظيم، فيقيم الله بها الحجة على عباده جميعاً. وبعد فما من عَلَم مشهور في تاريخ البشرية وصفت حياته ودقائق أحواله كرسول الله محمد بن عبد الله (ص)، حتى قيل: إنه الرجل الوحيد الذي ولد تحت الشمس، وعاش تحت الشمس، ومات تحت الشمس.. من استهلال ولادته عليه الصلاة والسلام، حتى توسده قبره الشريف. وهو الرجل الوحيد الذي سُجّلت أقواله بتفاصيلها وأحصيت عليه كلماته، ولوحظ سكوته، ووُصف رضاه وغضبه، وعُدت أيامه.. عايشه أصحابه ساعة فساعة في إقامته وسفره، بل عرفوا ما كان يصنع في بيته وبين أهله من تصرفات صغيرة أو خطيرة.. فنقلها من عرفها لمن لم يقف عليها، ثم حفظها الصحابة ورعوها.. ثم دوَّنها من بعدهم في الكتب على نحو تحروا فيه الدقة. وبعدُ أيضاً فقد رأيت لزاماً عليّ وأنا أكتب في سيرة النبي (ص) أن أفرد جزءاً لهذا الذي نقله الصحابة رضوان الله عليهم في وصف شمائله عليه الصلاة والسلام، ليكتمل تتابع تلك السيرة العطرة. وقد توفَّر هذا الجزء منها على وصف النبي عليه الصلاة والسلام في خَلْقه الشريف الذي نقله الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين نقلاً دقيقاً، وفي خُلُقه الكريم الذي رفعه الله به في الصفات المميزة التي بهرت من ينظر فيها نظرة المتأمل، ويتشرف بها من يدانيه فيها. وهي صفات نزل مدحها في صريح القرآن العزيز {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} [القلم: 68/4] . وتناول هذا الجزء كذلك صورة النبي (ص) في كتاب الله تعالى من خلال آيات باهرات اختصَّ بها عليه الصلاة والسلام لشرفه عند مولاه عز وجل وعظيم فضله. ويلحق بهذا البحث ما امتن به رب العزة على نبيه (ص) من المعجزات الباهرات الكثيرة.. فتوقف عندها وتناولها، وتوقف عند أعظم المعجزات على الإطلاق، وهي معجزة القرآن الكريم التي بقيت على صدر الدهر، تتحدى الزوال والتحريف، لتشهد على هذا النبي الذي ختم الله به الرسالات بعد أن أوفت البشرية على رشدها، وليكون هذا القرآن دليلاً على هذا الرشد. وهي معجزة لا تقارن البتة بسائر المعجزات التي قامت لحاجة ما، ثم انقضت. وفي الكتاب صورة لبلاغة النبي (ص) وفصاحة منطقه وارتقاء حديثه الذي غيّر أسلوب العرب في التعبير عن الأفكار، لتصير سهلة المتناول، تجتمع فيها الكلمات القليلة، فتدل على المعاني الكثيرة، وبذا نقل النبي عليه الصلاة والسلام لغة العرب نقلة رائعة في أساليب الصياغة الفنية. وفي الكتاب أيضاً وصف لعبادة النبي (ص) وتبتله لربه، وقيامه بين يديه في جوف الليل مبتهلاً بصيغ من الدعاء لم يُسبق إليها قط، فيها ذوب قلبه الشريف (ص)، وحسن تعبده لمولاه، والتجائه إليه وجميل الاعتراف بفضله ومنّه عليه، يلخص فيها قوله عليه الصلاة والسلام: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟»[(1)]. وأخيراً فالكتاب عاش مع النبي (ص) في حياته اليومية التي يمارسها من خلال صفته البشرية عليه الصلاة والسلام؛ في مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته، ونظافته وصحته ومرضه، وسوى ذلك مما يعيشه الناس، والكيفية التي مارسها (ص) في كل ذلك. وإذ أرفع القلم المتذلل عن هذا الجزء ليخامرني إحساس عميق في مستكنة قلبي أنني لم أوفِّ سيدي رسول الله (ص) حقه من نقل الصورة، وأنني غير مستطيع أن أعبر بكلماتي الواهنة العاجزة عن حقيقته عليه الصلاة والسلام.. وأنَّ نصوصاً كثيرة يمكن أن تندرج تحت عناوين الكتاب، ولكنني بذلت جهدي مشفوعاً بالمحبة. أما الجديد في الكتاب فهو محاولة جمع مفردات الموضوع من الأسفار المتفرقة؛ فبعض الكتب يقتصر على وصف صورة النبي (ص) الحسية والمعنوية، وكتب أخرى تبحث في البلاغة النبوية، وأبحاث غيرها تتناول معجزاته (ص). ومن الباحثين من تفرد بالحديث عن القرآن الكريم وإعجازه. فجاء هذا الكتاب بجمع كل أولئك وأضاف نصوصاً تشهد على ما ذهب إليه. ثم حاول أن يعرض مادته عرضاً قريب المأخذ بأسلوب سهل فيما أزعم. على أن الذي شجع على كتابة هذه السلسلة من السيرة منذ صدر جزؤها الأول وتابعها بعد ذلك المتابعة الحثيثة، فضلاً عن مناقشة كل جزء قبل صدوره والحوار حوله إنما هو أستاذنا الأستاذ محمد عدنان سالم، المدير العام لدار الفكر العامرة التي احتضنت أعمالي، وتشرفتُ بالانتساب إليها، فله شكري بما يستحقه من محبته لرسول الله (ص) وسعيه لتقديم السيرة النبوية بالصورة التي ينبغي أن تقدم فيها. أحسن الله إليه وإلى كل محب للنبي عليه الصلاة والسلام. اللهم ارزقنا حلاوة في قلوبنا من محبة سيد الأنام واجعلنا على صراطه المستقيم، حتى نلقاه وهو قرير العين بنا شافعاً لنا، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. دمشق/ربيع الآخر 1433هـ 16 آذار/مارس 2012م
كيف هو النبي صلى الله عليه وسلم من بين الرجال؟ أي رجل كان؟ ما صورته الحسيّة التي خلقه الله عليها؟ ما كانت عليه أخلاقه وشمائله؟ ما صفاته التي أثبتها له القرآن؟ كيف كان تعامله مع الآخرين؟ كيف كانت حياته اليومية في طعامه وشرابه وملبسه ونومه وتعبده وتضرعه إلى الله تعالى؟ كيف كان كلامه؟ ما معجزاته في طبيعتها وحقيقتها؟ هذا ما تناوله الكتاب في سبيل الحديث عن شخص النبي عليه الصلاة والسلام ووصفه والتعريف به التعريف الدقيق لتجلية الصورة لكل من يريد أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم.
يتحدث هذا الكتاب عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه وصفاته الخَلّقية والخُلُقية، وحياته اليومية وعباداته ومتعلقاته ومعجزاته. ينقسم الكتاب بعد المقدمة إلى ثلاثة أبواب؛ الأول تحت عنوان "شخصية النبي صلى الله عليه وسلم"، وتناول فيه المؤلف صفات النبي صلى الله عليه وسلم ووظائفه وصورته الحسية وأوصافه المعنوية في أقوال الصحابة وفي القرآن، فضلاً عن فصاحته عليه الصلاة والسلام. وخصص المؤلف الباب الثاني للحديث عن "الحياة اليومية للنبي صلى الله عليه وسلم"، في نظافته وطيبه وطعامه وشرابه ولباسه ونومه، وما إلى ذلك. ثم تحدث عن عبادته عليه الصلاة والسلام وأذكاره ودعائه. وختم الباب بمتعلقاته صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى نوقه وأفراسه وبغاله وأسلحته وراياته. وجاء الباب الثالث للبحث في "معجزات النبي صلى الله عليه وسلم" فقسمها إلى ثلاثة أنواع؛ معجزات لحاجة معينة وضرورة، ومعجزات إكرام من الله تعالى، ومعجزات إخبار بالغيب وأنباء المستقبل. وختم الباب بالحديث عن المعجزة الباقية، القرآن الكريم؛ فتكلم عن إعجازه البلاغي، وإعجازه في الإخبار بالغيب وعن الأمم السابقة، وإعجازه بالتحدي.. وفي الصفحات الأخيرة قدم المؤلف وصفاً للقرآن الكريم..