أوجه الاختلاف الأساسية بين الشريعة والقانون
هناك نواحي اختلاف جوهرية ثلاث معروفة بين الشريعة والقانون وهي:
1- المصدر: الشريعة من وضع الله، والله هو خالق العباد وهو أدرى بما يصلحهم وينظم شؤون حياتهم في الحال والمستقبل. وقد راعى التشريع الإلهي مبدأ التطور، فجاءت الشرائع ينسخ بعضها بعضاً في غير الأصول المتعلقة بالعقيدة والأخلاق، بل إن النسخ ثبت في الشريعة الواحدة ذاتها، وكانت شريعة القرآن خاتمة الشرائع، وبها من عناصر الديمومة والصلاح والخلود بتقرير المبادئ العامة والقواعد الكلية ما يجعلها منسجمة مع دواعي التطور.
وأما القوانين فهي من صنع البشر، والبشر متصفون عادة بالعجز والضعف والقصور، فكانت القوانين متأثرة بصفات واضعيها، لذا كانت عرضة للتغير والتبديل، وهي تتحول وفق المصالح المتغيرة، فلا قداسة لها ولا خلود، ولا كمال فيها ولا استمرار.
2- الزمان أو التأقيت والدوام: القوانين جاءت متأخرة عن ظهور الجماعة، وملائمة منسجمة معها، فلا تخطيط فيها لمستقبل، وإنما هي مؤقتة، تتغير بتغير حال الجماعة وأنظمتها والمبادئ التي تروج بينها.
أما الشريعة فتنظم شؤون الحياة في الجماعة، ولكن قواعدها تختلف عن قواعد القانون فهي مشروعة مقررة على سبيل الدوام والاستمرار. وهذا يقتضي أمرين:
أولهما- ألاَّ تتخلف قواعد الشريعة عن مستوى الجماعة، وإنما تظل محتفظة بسموها ورقيها.
وثانيهما- أن تشتمل على صفة المرونة بحيث تنسجم مع متطلبات الجماعة، مهما توالت الأزمان، وتقدمت الأحوال، وتطورت أوضاع الحياة وتنظيماتها.
والبرهان العملي على هذا أن القوانين المدنية والجزائية المستمدة من الفقه الإسلامي أثبتت صلاحية الفقه الإسلامي للتطبيق، مع مضي أربعة عشر قرناً على وجوده واكتماله وكفايته.
غير أن المشكلة تكمن كما يبدو في عداوة الشريعة والإعراض عما جاءت به، والإمعان في تقليد الآخرين حتى نوصف بالتمدن في زعم بعضهم، ولكن بالرغم من كل مجاملات الغرب على مدى ربع قرن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأفول نجم الاستعمار، هل تغيرت أوصاف الاتهام بالرجعية والتخلف والوحشية والهمجية والسخرية؟
ونحن نعيش هذا الظرف، وكل يوم يطلعنا تصرف الساسة والمفكرين الغربيين على ألوان من الإذلال والاحتقار، فالقضية إذن ترجع إلى التفوق والقوة، والتقدم الآلي، لا إلى النظريات والأفكار والأنظمة والقوانين.
3- الهدف والتوجيه: القوانين متأخرة عادة عن الجماعة وتابعة لتطورها، ثم استخدمت القوانين أخيراً في توجيه الجماعة والتخطيط لها، كما فعلت روسية وتركية وألمانية وإيطالية وغيرها التي وضعت لأغراض معينة.
وهذا الذي وصلت إليه القوانين في تطورها هو ما بدأت به الشريعة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فإن الغرض من التشريع الإسلامي إنما كان ولا يزال موضوعاً بقصد تنظيم الجماعة وتوجيهها، وإيجاد نواة الدولة المثالية، وإقامة المجتمع الفاضل، لذا كانت نصوصها أسمى من مستوى العالم الذي عاصرته، ودأبت معه على أن تكون رسالته رسالة توجيه له، وتصحيح لأخطائه وأخذ بما هو الأفضل والأكمل الذي ترمي الشريعة إلى تحقيقه فإنها بنيت على السمو والكمال.
تاسعاً- مميزات الشريعة عن القانون
تبين مما سبق أن شريعة الله تمتاز عن القوانين الوضعية بمزايا ثلاث هي:
1- السمو: الشريعة تمتاز بأن قواعدها ومبادئها أسمى من مستوى الجماعة، وأن فيها عناصر ومبادئ ونظريات تكفل لها هذا السمو على مرور الزمان، ولعل أبرز مثال لهذا: ما قرره الإسلام في نطاق الدساتير من احترام مبادئ الحرية والكرامة الإنسانية والعدل والمساواة في القضاء والمعاملات، بالإضافة إلى نظريات العقد والضمان والضرورة وغيرها.
2- الكمال: الشريعة غنية بالأحكام التفصيلية والمبادئ والنظريات التي تحقق مصالح البشر وحوائجهم في كل زمان، فهي تمتاز عن القوانين الوضعية بالكمال والكفاية الذاتية دون حاجة إلى تقليب وجهات النظر وإطالة المناقشة، ولعل أوضح مثال لهذا النقص والعجز في القوانين: أن مبادئه ونظرياته ما تزال دون مستوى الشريعة، ولم يكتمل بعضها إلا بعد أن مرت البشرية بتجارب قاسية استفاد منها العلماء وقرروا نظرياتهم بناء عليها، وانتهوا إلى حيث بدأت شريعة الله.
3- الخلود والاستمرار: من المعلوم أن القوانين متغيرة متبدلة متباينة في العصر الواحد نفسه بين دولة وأخرى، فهي غير دائمة، ولا منسجمة بعضها مع بعض في كثير من الأحيان.
أما شريعة الله تعالى فجمعت بين الحسنيين؛ فهي دائمة خالدة مستمرة في نطاق المبادئ العامة والقواعد الكلية التي لا تقبل التغير، ولا تستدعي التبدل، وتنسجم مع كل متطلبات الناس، وهي أيضاً غير جامدة ولا متحجرة، وإنما تظل محافظة على صلاحيتها المستمرة وتجاوبها مع مصالح الناس وحاجاتهم في نطاق المعاملات الاقتصادية، وأوضح مثال لذلك: غنى الشريعة في علم أصول الفقه بالمبادئ الأساسية للاستنباط على وفق المصلحة، مثل العرف العام والمصلحة المرسلة والاستحسان وسدّ الذرائع.
عاشراً- عامل الحداثة والتطور والحضارة الجديدة
لا ننكر بحال أننا نعيش في عصر استجدت فيه أمور ومسائل كثيرة بسبب معطيات الحضارة الحديثة، والادعاء بأن للفقه الإسلامي حكماً فيها مجرد مكابرة واضحة، ولكن تجميد الفقه الإسلامي وإبعاده بسبب هذه القضايا والمشكلات المعاصرة هو أيضاً اعتداء عليه، وافتئات على سلطان الشرع الذي له الحاكمية المطلقة على كل شيء في الحياة. فها هو الإمام الشافعي رحمه الله يرى أنه ما من نازلة إلا وللإسلام حكم فيها بالحل أو بالتحريم.
ومن المعلوم أن الفقه قسمان: عبادات ومعاملات.
أما العبادات فليست الأحكام الشرعية فيها قابلة للتطور ولا يؤثر التطور فيها فهي أحكام تعبدية ولا يعوق الحضارة الحديثة تطبيقها والالتزام الكامل بها. أما ما أحدثته وسائل المواصلات من تقدم مذهل في الجو والفضاء فيمكن إبداء الحكم الشرعي المناسب فيها كالجمع بين الصلاتين تقديماً أو تأخيراً قبل الصعود إلى الطائرة، والأخذ بميقات البلد الذي تحلق الطائرة فوقه للصلاة وبدء الصيام وإنهائه، والاتجاه نحو الأرض في سفن الفضاء يعد اتجاهاً نحو القبلة، واعتبار المركبات الفضائية مثل السفن في التوجه نحو القبلة إذا كانت دائرة حول الأرض، وعلى أي حال إذا تعذرت الصلاة في مثل هذه الوسائل، فيصلي المصلي إيماءً، ثم يعيد صلاته إذا شاء، أو لا يعيدها قياساً على حالة المريض الذي اشتد به المرض فلم يستطع التحرك، كما أن رواد الفضاء لا يستطيعون الحركة غالباً.
وأما المعاملات فإنها مبنية على مراعاة المصلحة، فيراعى فيها ما تقتضيه المصلحة والأعراف غير المصادمة لنص تشريعي، ويلاحظ ما تتطلبه السرعة في عمليات النقل البحري والجوي، ويعمل بالقاعدة الشرعية: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) أي تغير الأحكام المصلحية والقياسية والمبنية على العرف، لا تغير الأحكام النصية أو الأساسية أو الجوهرية، فهذه لا تقبل التغير بحال.
وكون الفقه جزءاً من الدين لا يمنع تطور بعض أحكامه، فيوضع للمعاملات القواعد والأحكام المناسبة لتطورها.
ولا شك أننا عند دراسة القانون بالأساليب الحديثة استفدنا من حسن التنظيم فيه وجودة العرض له، ويمكن عرض الفقه الإسلامي على طريقة مناهج الكتب الحديثة في التأليف في ميدان القانون وغيره.
وهنا يأتي دور الاجتهاد الجديد، فقد قرر علماء الأصول أنه إذا وقعت حادثة جديدة، نظر المجتهد، لا المثقف العادي، ولا المتخصص الممتاز في غير أحكام الشريعة أو الدين، نظر في نصوص القرآن أولاً، ثم في نصوص السنة، ثم في إجماع العلماء ثم في القياس، فإن وجد حكماً مناسباً للحادثة في هذه المصادر قضى به، وإن لم يجد عمل بالدائرة التي هي أكثر سعة من القياس وهي العمل بالرأي المبني على مبادئ الشريعة وروحها العامة، فيأخذ بما أفاض فيه العلماء في بحث المصالح المرسلة والاستحسان والعرف ونحو ذلك، وضمن ضوابط هذه المصادر، ولا يعني الأخذ بالاستصلاح العمل بالرأي المحض الذي يرى قائله وجود مصلحة فيه، وإنما يجب أن تكون المصلحة من جنس مصالح الشرع ومقاصده كالحفاظ على المقاصد الخمسة الضرورية، وهي حفظ الدِّين والنفس والعقل والنسل أو العرض، والمال.
لماذا يُطالب بتطبيق الفقه الإسلامي في الحياة؟ ولماذا يجب جعل الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للقوانين؟
يبحث هذا الكتاب في كيفية تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في القوانين الخاصة بالدول الإسلامية . وقد بين أوجه الاختلاف بين القوانين الوضعية والشرعية، وعرَّف ميزات القوانين الشرعية عن القانونية. وذكر كيف يتم تحديثها وتطويرها بحسب مستجدات الحياة الحضارية.
كما درس كيفية تقنين الفقه الإسلامي ليتناسب مع القوانين النافذة في العقوبات والمعاملات والأحوال الشخصية في عدد من البلاد العربية كالمملكة السعودية والكويت ودولة الإمارات وقطر والبحرين وسورية ومصر.
والكتاب ينطلق من أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للقوانين في البلاد العربية؛ لأن الشريعة ذات مصدر إلهي خالد، ينسجم مع حياة المسلم وسلوكه.
يبحث هذا الكتاب في الجهود المبذولة لصياغة قوانين مستمدة من أحكام الفقه الإسلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة خاصة وفي بعض الدول العربية عامة.
قســـــم المؤلف كتابه إلى بحثين؛ الأول في " حكم وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية"، والثاني في " التقنين: عيوبه ومزاياه".
تناول في البحث الأول إحدى عشرة نقطة؛ فتحدث فيها عن العمومية الخالدة للشريعة الإسلامية، وكمال الدين وتحقيقه الانسجام في سلوك المسلم وحياته ، وتحقيق معنى العبودية لله، ووجوب الحكم بما أنزل الله وما يتعلق بذلك، وأوجه الاختلاف بين الشريعة والقانون، وعامل الحداثة والتطور في الحضارة الحديثة، ومدى جدوى النص في الدساتير أن الشريعة الإسلامية مصادرها الأساسية؟
وتناول في البحث الثاني " عيوب تقنين الفقه الإسلامي ومزاياه" عدداً من النقاط، فبحث في ظاهرة تقنين الشريعة الإسلامية في الدول العربية عامة ودول الخليج خاصة، وقوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية، ثم توقف عند جهود التقنين في كل من المملكة العربية السعودية وفي دولة الإمارات العربية المتحدة وفي رأس الخيمة وفي قطر والبحرين .
كتاب فقهي قانوني