مقدمة الكتاب عجيبة هي أقدارُ هذا الكتاب، وأعجب منها هذه العلاقة التي تربط ما يحويه من أفكارٍ إلى مهندس الحضارة «مالك بن نبي»؛ فلقد جمعتُ أوَّل ما جمعتُ المقالات الفكرية المعرفية الحضارية، التي صاغتها مرحلةٌ من الحراك ضمن «نموذج الرشد»، وما والاها من قبضٍ وبسط، من قبولٍ ورفض، من إحجامٍ وإقدام؛ ثم لما اكتمل بناءُ المؤلَّف، جاء ما يحويه حول «مالك بن نبي» داعياً إلى فصله في عنوانٍ مستقلٍّ، هو الآن ينتظر النشر في سفرٍ خاصٍّ بحول الله تعالى . غادر بنُ نبي الزمان والمكان، كما غادر سفوحَ هذا الكتاب؛ لكنَّه مع ذلك بقي بروحه المختلفة، وبعقله المميَّز، وبفكره المرجعيِّ، وبهمَّته واحتراقه... بقي ولم يُغادر، فكنتُ كلَّما أقرأ فقرةً أشاهدُ ملامحه ظاهرةً، وأتبصَّر رحِماً وشِيجاً بيننا؛ هو فيه الوالد وأنا الولد، هو المعلِّم وأنا الطالب، هو المرشد وأنا المريد... هكذا، ولد كتابٌ تحت مسمَّى (تيهٌ ورشادٌ)؛ والحقُّ أنَّ بن نبي كتب في الستينيات من القرن المنصرم، سلسلة مقالاتٍ حول الصراعِ الفكريِّ؛ ونشرها في «مجلة الثورة الإفريقية»، وجمعها ثم عاين ترجمتها قُبيل وفاته بعامٍ؛ واختار لها هذا العنوان المثير: (بين الرشاد والتيه)؛ ثم صدرت ضمن حلقات (مشكلات الحضارة). لا تزال هذه المقالات تهدي القارئ المتبصِّر إلى خفايا الفكر، وتحرِّك فيه خبايا القلب، وتُرشده إلى نافِع العلم وصالح العمل؛ كلُّ ذلك بنفَس مؤسَّسٍ على أصول منهجيةٍ فكريةٍ، تنطلق من نظرية «القابلية للاستعمار»، و «العوالم الثلاثة»، و«فكرة التوجيه»، و«حقيقة التغيير»... وغيرها من المفاهيم والنظريات التي لم تفقد فعاليتها، إلَّا أنها لم تلقَ بعدُ من العناية الكافية ما بها تتحوَّل إلى واقعٍ وحركية تليق بمقام الرجل وبحاجة أمَّته؛ عنايةٍ ترقى بنا إلى مصافِّ الشهود الحضاري المنشود. مِن وحي فكر بن نبي إذن، نصوغ جملة من المعالجات الحضارية، نختار لها عنواناً ينبثق من نظرية «القابلية للرشد» المكمِّلة لنظرية «القابلية للاستعمار»؛ ضمن ما عُرف بــ«نموذج الرشد»؛ ذلك النموذج الجمعيُّ، الذي يستعير مِن رواد الفكر والحركة في عالمنا المعاصر معالمه؛ ويُلقي بفتيله وجذوره في محبرة القرآن الكريم، وسنة النبي الحبيب عليه أفضل الصلاة والتسليم. «نموذج الرشد» لا يُقصي شيئاً إلَّا الإقصاءَ نفسَه؛ فهو يرفض «الاختزال»، ويقوم على أسس «اتّباع الأسباب»، و«سداد المسلك»، و«الصدقية» معياراً خُلقياً ومنهجاً؛ أمَّا «سؤال الأزمة» في قاموسه فيرتكز على «جدلية العلاقة بين الفكر والفعل»؛ تلك الجدلية التي كان بن نبي، وغيره من «المفكرين المصادِر» يحملونها همـّاً، ويردِّدونها همَّة؛ فما يحويه هذا العمل يجري مجرى «الاتّباع واقتفاء الأثر»، ولذا ساغ أن يُطلق عليه اسمٌ معبِّر عن المحتوى، وعن المرحلة، وعن بؤرة التفكير، وعن سؤال الأزمة، وهو: «تيهٌ ورشاد». وللنكرة عند النُّحاة معناها البلاغي العميق؛ كونها الأصل والمعرفة فرع عنها، وهي كذلك تفيد العموم والشمول، والمعرفة تفيد التخصيص والتعيين. إلَّا أنَّ بن نبي وظَّف الصيغة المعرَّفة في مرحلة كان «التيه» فيها معرَّفاً مشخَّصاً، وكان «الرشاد» كذلك معلوماً معيَّناً؛ أمَّا مع توسُّع الخرق، وابتعاد الشقُّة عن سبيل الحقِّ، واختلاط الأمور على العاقل اللبيب؛ واستحكام نظريات الفوضى، واللامعنى، وغياب المعيار، والمصلحية المفرطة، وموت الأفكار، ونهاية التاريخ، والبوهيمية الجديدة... كلُّ ذلك أوجب الانتقال إلى صيغة النكرة: «تيهٌ»، في حال الهدم والفساد، وأوجب البحث عن الأصل والشمول والعموم: «رشادٌ»، في حال البناء والصلاح. يأتي هذا الكتاب ــ إذن ــ مكمِّلاً، لما بدأه أستاذي بن نبي، ومَن معه من هُداة الأمَّة وروادها، وهم كثر، والحمد لله. ******** ولا أملك أخيراً إلَّا أن أحيِّي رجلاً لطالما تحينت الفرصة لأقول له (أو بالأحرى عنه) كلمة حقٍّ لا تبرح ولا تريم؛ ذلك الرجل الذي عرَّفني بالفكر الراشد في صمت الحكيم الموقِن، وفي حركية الصادق المؤمِن؛ إنه أستاذي محمد عدنان سالم ، ومن خلاله «دار الفكر» الخالدة؛ التي لها فضل على كلَّ مثقف بِلغة الضاد، متَّبع للسبيل الوسط. تلك الدار العامرة التي نشرت لأعلام كُثر، منهم: بن نبي، وبيجوفيتش، والمسيري، والبوطي، ومحمد خاتمي، وشوقي أبو خليل، وجودت سعيد، وجيفري لانغ... منهم من لقي ربه، ومنهم من ينتظر، وما بدَّلوا تبديلاً. ******** ولا أملك إلَّا أن أحيل إلى معنى سرمديّ، وفي فؤاد كلِّ قارئ كريم حُرقة تدفعه ليتجاوز ذاته، وضميرٌ يوقظه ليرشُد فكراً وفعلاً، ويقينٌ في الله تعالى لا يتزعزع في اقتراب النصر، وحسن ظنٍّ في قدره الكريم أنَّ مع العسر يسراً، وأنَّ مع العسر يسراً. يقول مالكٌ، عليه شآبيب الرحمة: «من حُسن الحظِّ، أنَّ زمان المغالطة والمزاح قد انتهى؛ لأنَّ عهد المحنة قد حان، ولعلَّها تنضُج ضمائرُنا. فالشكر للقدَر على المصائب تُصيبُنا، إذا كان بها صلاح أمرنا»( ). محمد باباعمي الجزائر، 7 جمادى الثانية، 1437هـ 16 مارس، 2016م
هل فكرة "بذور الرشد " بما بُذل ويبذل فيها من جهد فكري وإمكان مادي معتبر؛ هل ستحمل بذور عصر جديد للتفاعل مع كلام الله تعالى " بنية العمل " تفاعلاً " جمعياً جماعياً" مؤسساً على " سؤال الأزمة " مدركاً لثقل المهمة ، مؤيَّداً بحبل من السماء؟ الم تكن الحرية فارقا بين ادم عليه السلام، قبل الامتحان، وأبينا ادم عليه السلام، بعد الامتحان؟ أو لم تكن فرقا جوهريا بينه وبين الملائكة حين أسجِدوا له ؟ ألم يعترضوا على ذات الحرية ؟ هذه بعض التساؤلات التي يحاول المؤلف الإجابة عليها في كتابه هذا متقصيا فيه طريق المفكر الإسلامي مالك بن نبي، ومكملا ، في الوقت نفسه، ما بدأه هو ومن معه من هداة الأمة.
غادر مالك بن نبي المفكر الإسلامي العظيم عالمنا.. ولكنه بقي بروحه وعقله وفكره وهمته واحترامه.. غادر، وترك كماً من الأفكار التي تحلل أسباب تأخر العالم الإسلامي، وتتوجه نحو طريق نهوضه ورشاده، وما تزال مقالاته تحرك القارئ المتبصر على خفايا الفكر، وترشده إلى نافع العلم. هذا الكتاب يتقصّى فيه مؤلفه طريق ذلك المفكر العظيم ، فيتناول من معين فكره، ويتتبع رشاده، ويكمل ما بدأه هو ومن معه من هداة الأمة. يطرح مؤلف هذا الكتاب سؤال العلم وسؤال العمل؛ وهما سؤالان مهمّان، يعالجهما في كتابه على طريقة بن نبي. ثم يتناول موضوعات الحضارة والثقافة والمعرفة.. يشخصها التشخيص الحي، لينتقل إلى موضوع الحركية في الفكر والفعل، وليدفع إليهما الدفع المناسب نحو دور التربية في بناء الإنسان. فيبين خطرها، ويضعنا في موقف حساس، هو موقفنا تجاه الآخر.. كيف يجب أن يكون؟ وماذا يجب أن نتصرف ؟ لنحضر أنفسنا للإجابة عن سؤال الله تعالى الذي قال ?وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ?. كتاب يستحق القراءة بتمعن وتدبُّر .