من مقدمة الكتاب
يتناول الكتاب جانباً مهماً من التاريخ العلمي والثقافي لدمشق في القرن الرابع عشر الهجري الذي جرت فيه أحداث جليلة متغيرة في الحركة العلمية والثقافية، يحسن أن يتناولها بحث مفرد يصفها، ويذكر ما لها وما عليها.
على أنني لما فرغت من ترجمة كتاب «التعليم في سورية» الذي ألفه بالفرنسية الدكتور خالد قوطرش رحمه الله، وكان قدّمه أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في جامعة بول فاليري بمونبيلية وجدت فيه نقصاً واضحاً في موضوعِ عنوانهِ، على أهمية ما قدّمه من معلومات.. وإلى ذلك أشرت في مقدمة الترجمة التي صدرت بها صفحات الكتاب؛ ذلك لأنه أغفل جوانب لا ينبغي إغفالها ضمن البحث الذي تناوله..
ووجدتني – وقد رفعت قلمي عن الكتاب بعدما وضعت نقطة النهاية – أسأل عن مدارس أنشأها في دمشق أهل العلم، قدّمت للمواطنين خدمات جُلّى، وخدموها في أوقات صعبة قدر جهودهم. فرأيت أن الكتاب تجاهلها. ووجدتني مسؤولاً عن البحث فيها، ما دمت أشتغل في تاريخ مدينة دمشق المعاصر والحديث.. وفاء للرجال الذين أخلصوا للعلم وحملوا مسؤوليته أمام الله.. فيجب أن يُذكر كل بعمله، ويُشكر له ويبيّن إحسان المحسن . وهذا في زمن كانت المدارس الرسمية الثانوية والإعدادية والابتدائية قليلة جداً في مطالع القرن العشرين وأشهرها الثانوية الوحيدة المعروفة باسم مكتب عنبر وكان إلى جانبها مدارس ابتدائية ورشديّة .
وكان التدريس الشائع في دمشق يقوم على حلقات الشيوخ الذين استمر بهم العلم، منذ أن دخلها المسلمون، فأحيوا مسجدها بالقرآن والقراءات، وكان أول من أقرأ به أبو الدرداء، رضي الله عنه، وزوجته أم الدرداء الصغرى ، ثم تتابعت حلقات العلم فيه حتى كان عند كل عمود من أعمدته عالم يقرئ الناس..
ثم انتشرت حلقات العلم في مساجد دمشق وفي بيوت العلماء والخاصة، وكانت مقصودة من الآفاق، يؤمها الطلاب للأخذ عن الشيوخ واستجازتهم لم تنقطع أبداً.. يبذل فيها العلماء من مهجهم لا يسألون فيها أجراً.. وربما تقاضوا رواتب من الأوقاف الكثيرة التي توفر لهم الحياة الكريمة. ويبقى الطالب يتنقل بين الحلقات.. ويحصل كذلك على منافع من الوقف.
وعُرف بالطبع كتاتيب منتشرة في الأحياء، يساق إليها الصبية، يأخذون عن المؤدب مبادئ القراءة، أو ما كان يسمى «فك الحروف» ويعلمهم القرآن تلاوة أو حفظاً بحسب الحال. ثم إذا تخرج الصبي في الكتّاب انتقل إلى حلقات الشيوخ، أو فارق المعلم إلى مهنة أسرته.
وأول من أحدث نقلة في الكتاتيب من الأهالي، فأنشأ مدرسة بالمعنى المختلف عن الكتّاب هو الشيخ محمد عيد السفرجلاني ثم الشيخ أحمد دهمان.. وسنشير إليهما إن شاء الله في خضم هذا البحث.
ومع انتشار الأمية وشيوعها كان كثيرٌ من الأهالي المتنبهين يقصدون المدارس لتعليم أبنائهم؛ وقد أشار إلى هذا عبد العزيز العظمة بقوله: «المدارس الحكومية تغصّ بالطلاب والطالبات، لا تستطيع قبول كل من يقصدها لضيق الأبنية، فيعود أكثرهم خائبين، ترفضهم إدارات المدارس، وهم لا يقلون عن النصف ممن ساعدهم الحظ، ودخلوا المدرسة» .
على أن كثيراً من الأهالي كانوا يرغبون لأولادهم أن يحصلوا على الشهادات للالتحاق بالوظائف التي كان دخلها يوفر لهم حياة كريمة جداً .
ولهذا قامت ضرورة ملحة لافتتاح المدارس الأهلية الابتدائية والثانوية التي سنأتي على ذكرها.
ولقد أشار نعمان القساطلي إلى انتشار المدارس بدمشق، فقال: مدارس المسلمين كثيرة.. ونفقتها على أهل الإحسان .
وكانت المدارس بدمشق عموماً على ثلاثة أصناف: المدارس الرسمية التي أنشأتها الدولة، والمدارس الأهلية التي تعدّ رديفاً لها، ومدارس الطوائف غير المسلمة، ومدارس أجنبية أو ما تسمى تبشيرية .
أما المدارس الرسمية، فليست من موضوع هذا الكتاب، وربما تناولتها كتب أخرى، تخصصت بها وتحدثت عنها بشيء من استفاضة .
ويبقى كتابنا هذا عن جهود الأهالي في نشر التعليم الخاص خلال القرن الرابع عشر الهجري، وما يقابله من سنوات القرن العشرين الميلادي، وهذا يحتاج إلى وقفة من أجل دراسة ما أحدثه الأهالي من مدارس وبيان قيمتها، وما يمكن أن يستفاد من تجربتها، بعدما انقضى القرن العشرون بصخبه وضجيجه ومشكلاته وحوادثه الفظيعة.
وجاء القرن الواحد والعشرون وقد تغيرت الحياة بكل معانيها فظهرت مدارس ذات نمط جديد، وجامعات مختلفة ورؤى ذات طبيعة خاصة، فإذا الحياة غير الحياة، وإذا الناس غير الناس.. وهذا ليس من اهتمامات هذا الكتاب؛ إذ اقتصر على ما أشرنا إليه.
وقبل أن نعرّف بهذا الكتاب في أبوابه وفصوله نقول: قامت المدارس الأهلية لغاية هي سدّ النقص في التعليم الرسمي كما أشرنا، وشعور أهل العلم بالحاجة إليها.. ولذلك كانت تلك المدارس تحمل رسالة مقدسة، لعلها قامت بها خوفاً من سؤال الله تعالى يوم القيامة وخدمةً للبلد، من خلال شعور وطني. فهل تحمل المدارس الأهلية العديدة -وقد اشتد عليها الطلب اليوم في هذا القرن الخامس عشر الهجري - هل تحمل رسالة مثل تلك الرسالة ؟ هذا سؤال مفتوح، يحتاج إلى جواب.
يتناول الكتاب جانبا مهماَ من التاريخ العلمي والثقافي لدمشق في القرن الرابع عشر الهجري الذي جرت فيه أحداث جليلة متغيرة في الحركة العلمية والثقافية، ويتحدث بإيضاح عن المدارس الأهلية التي أنشأها في دمشق أهل العلم، في زمن كانت المدارس الرسمية قليلة جدا.
كتاب هام جدا في مجاله،جدير بالاقتناء.
ولست أكتم اليوم سروري بكتاب الصديق الدكتور نزار أباظة، لأنني وجدته من أقرب الكتب وأصدقها في وصف الواقع الذي عرفته. لقد ذكر فيه مؤلفه كل ما عرفه أو وصل إليه علمه، بصدق وأمانة. كان يبحث ويتعب، ويتصل ويسأل، للحصول على ما لا يعرف، ليكون عمله أقرب إلى الواقع والكمال، وأصدق في الوصف والحكم، ولئلا يبخس أحداً حقه، حتى جاء كتابه وصفاً صادقاً للصورة الفسيفسائية التي ضمها المجتمع السوري، في وحدة وطنية مؤتلفة على اختلاف مؤسسيها، وتباين اتجاهاتها، واختلاف انتماءاتها.
لقد أعطى المؤلفُ قارئَ الكتاب فكرة واضحة عن الجهود التي بذلت في ميادين التربية والتعليم، وإنشاء المؤسسات التعليمية. حتى أصبح لا يغيب عن الكتاب إلا مالم يستطع الكاتب أن يصل إليه.
إن الكتابة في التاريخ أمانة، فالذي لا يستطيع أن يعطي الأمانة حقها لأي سبب من الأسباب، فليصرف نفسه عن الكتابة فيه، وليوجِّه قلمه وجهةً أخرى، أو فليصمت، لأن الشريف لا يقول إلا ما يدعوه إليه الشرف من صدق وأمانة، وإذا دعي إلى الشهادة أدّاها بحقها، ومن لم يفعل فآثم قلبه.
لقد أحسن د. نزار أباظة حين رأى تقصير غيره، فاستدرك ما فات، وقوَّم القصد، فجاء كتابه أكثر صدقاً وأمانة، وأوضح صورة، وأشمل استيعاباً.
الأستاذ الدكتور مازن المبارك