آمنت بربكم فاسمعون
كتاب لطيف يتضمن قصة إيمان المؤلفة التي انتقلت إلى الإسلام بنداء عقلها وفطرتها الصحيحة، وما لقيت في سبيل ذلك من عقبات، وما واجهت من أذى، لتبقى صامدة في طريق الهداية.
كتاب لطيف يتضمن قصة إيمان المؤلفة التي انتقلت إلى الإسلام بنداء عقلها وفطرتها الصحيحة، وما لقيت في سبيل ذلك من عقبات، وما واجهت من أذى، لتبقى صامدة في طريق الهداية.
مقدمة
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 41/53] .
لقد وقفت مراراً عند هذه الآية قبل إسلامي.. بل إني علقت أملي كله بهذا الوعد.. بأن يوماً سيأتي، أرى فيه آيات الله، كما يراها المؤمنون، فتطهّر قلبي من الشك، ولو بعد حين.. فلم أكن أراها كذلك، وكان ذلك أملاً بعيداً، مع أن الآيات الموجودة في الآفاق، موجودة تحت بصر كل إنسان في أي زمان، وتكفي وحدها لأن تثير فينا العجب، حتى ولو كنا كفاراً.. تثير فينا العجب، وتهدي من شاء الله هدايته إليه.. وأما الآيات التي في الأنفس، فهي غامضة أحياناً، تختلف كما تختلف الشخصيات والظروف، لا يراها إلا المؤمن، وبها يزداد إيمانه. ولم أكن أقدرها حق قدرها حتى تكرر السؤال من حولي: كيف آمنت؟ وما الذي جعلك تسلمين؟ وعجزت فعلاً عن الجواب، إلا أن ذلك كان من فضل الله ونعمته عليَّ ورحمته الواسعة لي، لكنني أدركت أن السائلين كانوا يهتمون بهذا البيان تثبيتاً لإيمانهم أيضاً.. لذلك أخذت أتأمل في الماضي، حتى قبل أن أعرف شيئاً عن الإسلام، إلى أن تأكدت أن الله كان يناديني وأنا غافلة، كما يفعل حتماً بكل إنسان، ومهما كان بعيداً عن الهدى، فإن الهدى موجود لمن أراده. والإيمان لا يأتي دفعة واحدة، وإنما يأتي بعد مجموعة كبيرة من الحوادث والانطباعات. ثم رحمة فيما أنزل للعباد، تأكيداً أو إصلاحاً لكل ما استنتجوا من الحياة.
فعلى المؤمن الباحث ألا يهمل آيات الأنفس، ولينفض الغبار عنها، لتحقيق الوعد:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [فصلت: 41/53] .
تقديم
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
هذه قصة بسيطة...
بسيطة في صياغتها، وأسلوبها، وعباراتها!.. لم تقم على شيء من روعة البيان، ولا براعة الأسلوب، ولم ينضبط نسيجها بمنوال ما يسمونه الفن القصصي، ولا دخل في شيء من لحمتها أو سداها خيط خيال، أو طيف تصوير.
ومع ذلك فقد نالني من التأثر الشديد بهذه القصة البسيطة بهذا الشكل ما لم أجده لدى قراءة كثير من روائع القصص لمشاهير الأدباء والكاتبين!.. ولقد انجرفت منها في تيار من العواطف والمشاعر التي تتحكم بمجامع القلب، ما كانت لتستثيرها بين جوانحي أقلام أبدع القصاصين، ولا ريشة أروع الفنانين والمصورين!..
فمن أي سبيل سرى إلى نفسي كل هذا التأثر، من قصة ذاتية، ما أيسر أن يحبك خيراً منها في الصنعة والأسلوب أي طالب ثانوي في الفرع الأدبي؟..
لقد سرى كل ذلك إلى نفسي من خلال سر واحد انطوت عليه قصة هذه الكاتبة، هو: الصدق!.. الصدق في التعبير، والصدق في العاطفة، والصدق في الاعتقاد.
إنك تقرؤها، فلا تشعر إلا أنك تلمس نبضات قلب.. وتندمج بين طيات شعور.. وتخشع لجلال يقين..
ولعمري إن جميع فنون الصنعة الكلامية، مهما سمت وتضافرت، لن تغني عن حرارة الصدق إذا ما افتقر إليها الكلام، بل لا تعود تلك الفنون إلاّ أثقالاً يمجها الذوق ويضيق بها الشعور. وما أصدق ما قاله الحكماء قديماً: ليست النائحة كالثكلى!..
لا جرم إذن أن ذروة الفنّ الكلامي وغايته، إنما يتمثلان في الصدق، لا فرق بين أن يتهيأ ذلك للإنسان قفزاً، كما هو الحال في كاتبة هذه القصة، أو أن يرقى إلى إبرازه والكشف عنه في سلم من أعمال الصناعة الأدبية وفنونها المختلفة.
إنما السماجة، كل السماجة، في أن تدور صناعة الكلام حول نفسها، دون أن تحتوي على أي مضمون إنساني، يصدق المتكلم في الشعور به، والتعبير عنه. وإنَّ للنفاق ألواناً، ولكن أثقل أنواعه على القلب ذاك الذي يحاول أن يتبرقع بفنون الإثارة والبيان، ومظاهر الصنعة الكلامية والكتابية، ليجعل صاحبه من التمثيل حقيقة لا وجود لها في شيء من قاع شعوره ولا أعماق وجدانه.
كاتبة هذه القصة، امرأة أمريكية، تذوقت منذ صباها طعم حرية العقل، فتعشقتها، ثم اندفعت من هذا المنطلق في طريق شاق وطويل.. كان أوله نقد كل عقيدة دينية تنهض على ضرورات الخضوع للبيئة، والانسجام مع التقاليد، وكان آخرُهُ اعتناق الإسلام من مستوى الفهم له أولاً، واليقين به ثانياً، والالتزام الكامل به ثالثاً.
تلك هي خلاصة القصة.
أما جوانب الأهمية فيها، فكثيرة. ولكني ألفت نظر القارئ منها إلى ما يلي:
أولاً - إن في قصة هذه المرأة مع الإسلام، وكفاحها الذي تحملته في سبيل البلوغ الحقيقي إليه، ما يقطع دابر تلك الحجة الواهية التي تدور على ألسنة كثير من الشاردين والجانحين؛ عندما يقول أحدهم، وهو قابع في أقصى أودية الكسل والخمول: ما ذنب الذين نشؤوا في بيوت أو مجتمعات بعيدة عن الإسلام، بحيث لم يتهيأ لهم أن يفهموه على حقيقته، ولا أن يتلقوا التربية الملائمة لنهجه؟..
لئن كان الواحد من هؤلاء ينشأ في بيت لا يعرف الإسلام ولا يسعى إلى التمسك به، فإن صاحبة هذه القصة نشأت في دنيا من ظلمات الكفر والفجور والانحلال. ومع ذلك فقد توافر لها من الاستشعار بأهمية الخطب وخطورته، ومن الاعتزاز بحرية البحث والنظر، ما أعانها في تمزيق تلك الظلمات كلها، لتقف من ورائها على الفجر الصادق، ولتستنشق عبير النور الخالص، ثم لتفرق بكامل يقينها العقلي بين الحق والباطل.
اصطدمت بعقبات عاتية من حواجز البيئة، ومكائد التبشير، ونوازع الأهل، فاستعلت على كل ذلك وتجاوزته ثم تحررت منه!..
قامت أمامها حواجز العجمة والجهل بالإسلام، فبدأت من حيث يبدأ الصغار في مدارسهم الابتدائية؛ تدرس في «قراءاتهم» وتسير على طريقتهم، تتحمل أقسى درجات الصبر والأناة، دون أي شريك معها أو معين لها، حتى تعلمت اللغة العربية الفصحى، وتخلصت من سجن عجمتها. ثم أقبلت تتعلم القرآن وتتبين عن طريقه حقائق الإسلام.
فأي عذر بعد هذا لشباب نشؤوا في بلاد مسلمة، ينطقون بلغة القرآن، ومن حولهم الكتب الزاخرة التي تعرف بالإسلام، وبين ظهرانيهم المساجد المعمورة بالمواعظ والدروس، أي عذر لهم في أن يغمضوا أعينهم عن هذا الدين ويعرضوا عنه، لمجرد أن بيوتهم ليست بيوتاً إسلامية، أو أن آباءهم لم يعلموهم الإسلام؟..
ما من إنسان أوتي نعمة العقل والتفكير، إلا وهو يملك مقومات التحرر من سلطان أي بيئة وتقليد، فهذه نعمة وهبها الله لسائر عباده المكلفين.
وما من عاقل إلا ويعلم أن أمر الإيمان بالله والدينونة له، ومعرفة ما قد كلفنا به، مسألة خطيرة تتعلق بمصير كل إنسان.
فكل من أتيح له أن يسمع بنذير هذا الدين وندائه، فإن خطورة الأمر تقتضيه أن يتتبع النداء ويصغي إلى النذير، وأن يتبين حقيقة الأمر عن كثب.. ولئن كلف ذلك أمثال هذه الأخت الفاضلة أن تجتاز دنيا من ظلمات الكفر والضلال وتقتحم عقبة إثر أخرى، وهي لا تملك خلال ذلك كله إلا حرية عقلها، فما أيسر أن يكلف ذلك آحاد المسلمين عندنا مجرد الانعتاق عن سلطان بيوتهم، والتحرر من تقاليد بيئاتهم.
ثانياً - لقد قرأت في كل سطر من سطور هذه القصة، معنى قول الله عز وجل وهو يوضح مستقر الإسلام من كيان كل واحد من بني الإنسان، مؤمناً كان أو كافراً، مشرقاً أو مغرباً: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30/30] .
ولقد أصغيت من خلال سطور هذه القصة إلى نداء الحقيقة، ينبعث هداراً قوياً من واقع هذه الأخت المؤمنة، يسمعه كل متأمل حر: ألا إن هذا الدين ليس صنعة إنسان، ولا اختراع دولة، ولا ميراث أمة!.. إنما هو حقيقة ربانية تنزلت من لدن قيوم السماوات والأرض، ذاك الذي بيده نواصي هذه الخليقة، وإليه مردّ الناس أجمع، فلن تنكسف شمسها مهما تصاعدت إليها أتربة الأرض، ولن يُطفأ نورها مهما اتجهت إليها أفواه نافخة وأوداج منتفخة.
فطرةٌ غرسها في أعمق أعماق النفس الإنسانية خلاقها العظيم ومبدعها الحكيم!..
ولئن لم يشعر بها الكائدون والمعاندون؛ فذلك لأنهم حجبوا عنها بسكر شهواتهم وأهوائهم، ويوشك أن يشعروا بها عند أيّ هزة تصيبهم أو بلاء يحدق بهم.
وإلاّ فمنذا الذي هيج هذه الأخت إلى تفهُّم الإسلام ثم اعتناقه، وكل من حولها من الناس مثبط أو مبشر أو مضلل؟.. منذا الذي صاح بها في أعماق نفسها أن تبحث عن الحقيقة، بل منذا الذي أشعرها أن ثمة حقيقة يمكن أن تعثر عليها إن هي جدّت في البحث عنها والسعي إليها؟.. على أن الأمر ليس أمر هذه الأخت وحدها، بل هو شأن المئات بل الآلاف، في أنحاء أوربة وأمريكة وآسية، كلهم جادّون في البحث، متجهون إلى الإسلام، مهطعون إلى الداعي.. داعي الفطرة الإسلامية المنبعثة من أعماق نفوسهم الإنسانية.
أتريد أن تسمع معي صوت هذه الفطرة، صافية من كل شوب، نابعة حتى من فؤاد لم يتبصر بحقائق الإسلام بعد؟
إذن فتعال أقتطع لك من قصة هذه الأخت، العبارات التالية، وهي تصف حالها إذ وضعت مولودها الأول في مسقط رأسها بأمريكة، بعيداً عن زوجها المقيم بدمشق، وذلك قبل أن تدخل الإسلام وتعلم شيئاً من أحكامه وتفاصيله:
"ها أنا ذا أحضنك لأول مرة يا بني، بعيداً عن والدك، فقد أدخلوه في الجيش، فأرسلني لأضع عند أبي العجوز، الذي لا يزال يحزن لشأني رغم تأكيدي له أنني بخير.. وسنعود قريباً أنا وأنت إلى دمشق..
لقد سميتك محمداً، فإنه اسم أبيك وجدك، وهو كذلك اسم نبيك إذ خرجتَ إلى الدنيا مسلماً مطمئناً..
أنت أمانة بين يديّ، ولا أملك أن أكفل مستقبلك.. ليتني كنت مؤمنة فأتوكل على الله.. ليتني قادرة على أن أجعلك مؤمناً، أن أحدثك وأنت نائم، فتسجَّل عندك كلمة تبقى معك إلى أن تكبر، كلمة تثبتك. ولم أحفظ من دينك إلا ما كنت أسمع المؤذن يقول، لأقوله في أذنك..".
واحتضنت الأم طفلها، وأخذت تتلو ألفاظ الأذان في أذنه بسائق من الفطرة التي تعتلج في أعماقها، دون أن تعلم بأن ذلك سنة موروثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم !!..
هل يمكن أن تسمع أذناك صوت الحقيقة الإسلامية الكامنة في أعماق كل نفس، بأقوى مما ينطق به هذا المشهد الأخاذ في هذه القصة؟..
ألا، ويل لكل من ائتمنه الله على مولود، ليرعى فيه نواة الفطرة الإسلامية، فضيع الأمانة، وسعى سعيه لخنق هذه الفطرة واجتثاث أصولها. ثم مضى وهو يظن أنه استبدل بالفطرة نقيضها، وأسكت صوت الحقيقة عن بلوغ مداه!..
ثالثاً - لقد تملكني شعور مؤلم ممضّ، ما أظن إلاّ أنه يتملك كل من سيقرأ هذه القصة بإمعان وتدبر، أن تنظر فتجد هذه الأخت (وهي نموذج للكثير من أمثالها) غامرت ببذل كل جهد، وضحَّت بكل حظ من حظوظ النفس، في سبيل أن تعتنق الإسلام عن دراية وعلم، وتطبقه عهداً لا تخونه ولا تقصر فيه. فطابت لها الهجرة عن الوطن، وتجرعت غصة البعد عن الأهل والأقارب، ثم استسهلت كل صعب في سبيل أن تتعلم اللغة العربية الفصحى، ولا تقتنع باللغة الدارجة التي اكتسبتها من الجيران والصديقات، إلى أن تعلمتها، فوصلت بها إلى شغاف الهدي القرآني والنور النبوي..
على حين أنك ترى في مقابل ذلك حالاً عجيبة لكثرة من الناس، نبتوا فوق أرض إسلامية مقدسة، تظلهم حياة إسلامية وارفة، أمامهم موائد شتى للمعارف الإسلامية النيرة، لا تحجبهم عن تذوقها عجمة، ولا يفتقرون لتفهمها إلى لغة، ولا يحتاجون للوصول إليها إلى هجرة عن وطن أو مفارقة لأهل.. وعلى الرغم من توافر ذلك كله لهم تراهم يركلون النعمة بأقدامهم، ويطمسون أبصارهم بأيديهم، كي لا ترى شيئاً من بصيص النور الذي أمامهم، وينقذفون هنا وهناك بحثاً عن سبيل يصدهم صداً عن حقائق الإسلام الساطعة، وبراهينه النيرة! يلهثون سعياً وراء تقليد الضائعين، ولا يعتبرون بحال الآلاف منهم، وهم يستنجدون بالإسلام وهديه، ويقتحمون للوصول إليه كل شدةٍ وتهلكة!!..
لقد رأيت في هذا العام لفيفاً من الشباب تجمعوا في بيت الله العتيق، من شتى أنحاء أوربة وأمريكة، انتجاعاً للمعارف الإسلامية، وشوقاً إلى أن يروا بيت الله العتيق، فيجددوا في ظلاله بيعتهم الصادقة لله عز وجل.. وقد نالهم في سبيل الوصول إلى ما وصلوا إليه كل لون من ألوان الشدائد، وقد كانوا بغنى عن ذلك كله، لولا ظمأ إلى التشبع بالحقيقة الإسلامية هاج في أكبادهم!.. فلقد رأيتهم في بيت الله الحرام، وقد لبسوا العمائم، وأطلقوا اللحى، وارتدوا ألبسة الإسلام التي هجرها المسلمون اليوم ضعفاً وتقليداً، يعكفون على دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية المختلفة، لا يستبدلون بالسعادة التي وصلوا إليها، أضعاف ما استدبروه من زخرف الدنيا ومتاعها!!..
رأيت هذا، ففاضت العين مني: أسى!..
أتكون هذه حال الغرباء عن الإسلام ودياره، ويكون حال أكثر المسلمين عندنا هو الانهماك الأعمى في محاربة الإسلام والكيد لحقائقه الساطعة؟..
إن هذا لعجيب حقاً!!
ولكن الأعجب منه أن يندفع أولئك الغرباء، إلى الإسلام، ويعتنقوه بكل طمأنينة وإخلاص، دون أن يحجبهم عن إشراقه هذا الواقع المخزي الذي يعاني منه كثير من المسلمين!..
الأعجب منه أن يملك أولئك الإخوة الغرباء، القدرة على التمييز بين حقيقة الإسلام وواقع المسلمين، فلا يصدهم عن الإسلام واقع أهله، ولا يحملهم التقززُ من مخجلات أوضاعهم على التعقد النفسي من الإسلام الذي ينتسبون إليه!..
ولكن من يدري!.. لعل المسلمين اليوم لو كانوا أعزاء بإسلامهم، لتسابق الناس إلى الإسلام أفواجاً من كل حدب وصوب، ولاصطبغ كل من أوربة وأمريكة بالإسلام خلال بضع سنوات!.. بل هي الحقيقة التي لا يرتاب فيها أي عاقل متبصر لوقائع الأمور.
وهذا هو السرّ في أن عقلية كل من الاستعمار الأوربي والأمريكي لا تبالي أن تنشط الحركات الإسلامية في ربوعها، إذا ما اطمأنت إلى أن الإسلام مهيض الجناح في ربوعه، وأن معظم المسلمين معرضون عن إسلامهم، يحاربونه بأيديهم.
ولكن، فليعلم الجميع أن ديناً أقام الله عماده بيده، وفطر عليه أفئدة عباده، لن يوقف من مدِّه أو يخْفِض من سلطانه كيد مستعمر أجنبي، ولا حقدُ مسلم غبيّ، ولسوف يأتي اليوم الذي يتحقق فيه مصداق قول ربِّ العالمين:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 41/53] .
وبعد، فهذا بعض من جوانب الأهمية في هذه القصة، أما الجوانب الأخرى فيمكنك أن تقف عليها عندما تمضي في قراءتها بتدبر وإمعان.
إنها قصة فتاة أمريكية، غدت بعد ذلك أماً لمن أسمته: محمداً.
وهي لم تكتبها إلا عبرةً ودرساً لأولادها، وعندما جاء من يستأذنها في النشر، لتكون العبرة بها أتم وأشمل، أبت إلا أن تسجل على القصة إلى جانب اسمها الأصلي كنيتها التي اعتزت بها وجعلت منها بديلاً عن اسمها القديم: أم محمد.
وكأني بها لا تريد أن ينفصل اسم محمد صلى الله عليه وسلم عن كيانها، ولا تريد أن تنسى الساعة التي أسمت فيها وليدها الأول محمداً، وأهدت إليه، في جوف الظلام الذي كان يحيط بها آنذاك، قبساً من ضياء الفطرة الإسلامية، اقتطعته من أعماق مهجتها المتوهجة بنور الإسلام، حتى قبل أن تدخل رحابه، وتقطع على نفسها وحياتها البيعة الصادقة له.
وشاء الله أن يكون ذلك القبس، سلسلة الكلمات النورانية التي تتعالى فوق المآذن وتتكرر على أسماع المسلمين خمس مرات في كل يوم وليلة..
فيا أختي المهاجرة في سبيل الله؛ أقول لك بلغة دموعي، قبل بيان قلبي ولساني: تقبل الله منك جهادك وهجرتك في سبيله، وجعل من الكلمات القدسية التي انسكبت من فمك في أذن مولودك الصغير، شعلة وضاءة تنتشر من خلال سطور هذه القصة في كل بيت من بيوت المسلمين، وفي كل قلب لا تزال فيه بقايا من جذوة الإيمان ونبضات اليقين.
أذاقنا الله جميعاً لذة معرفته، وسعادة القرب منه، وأعاننا على التخلص من عفن الشهوات والأهواء التي تحجبنا عنه، حتى نخلص إلى دار القرار بسلام، والحمد لله ربِّ العالمين.
دمشق 28 صفر 1399
محمد سعيد رمضان البوطي
27 كانون الثاني 1979