تخطي إلى المحتوى

الحداثة وما بعد الحداثة

20% خصم 20% خصم
السعر الأصلي $7.75
السعر الأصلي $7.75 - السعر الأصلي $7.75
السعر الأصلي $7.75
السعر الحالي $6.20
$6.20 - $6.20
السعر الحالي $6.20

ما مدى صدقية القيم التي بنتها الحداثة؟ وما مصير الفلسفة والحضارة التي قامت عليها؟ هل أعلنت إفلاسها؟ في الكتاب رأيان يتحاورات مع اختلاف وجهة النظر.

المؤلف
التصنيف الموضوعي
غلاف نوع التجليد
بلكي نوع الورق
368 الصفحات
17x24 القياس
2012 سنة الطبع
9789933362485 ISBN
0.3 kg الوزن
أمازون رابط النسخة الإلكترونية على أمازون
نيل وفرات رابط النسخة الإلكترونية على نيل وفرات

الحداثة

وما بعد الحداثة

الدكتور عبد الوهاب المسيري

حينما ذهبت إلى الولايات المتحدة للدراسة عام 1963م كان من حسن حظي أنني ذهبت إلى جامعة رتجرز، إذ كانت مجلة البارتيزان ريفيو Partisan Review قد انتقلت لتوها إلى هذه الجامعة، وكانت حينذاك من أهم المجلات الفكرية، يرأس تحريرها البروفسور وليام فيليبس، وهو مثقف أمريكي تخلى عن توجهاته الماركسية، ومع هذا ظل مؤمناً بالوظيفة الاجتماعية للثقافة والأدب وبالقيم الإنسانية والاجتماعية التي تُعد مكوِّناً هاماً للماركسية. ولحسن حظي أيضاً كان البروفسير فيليبس يدعوني إلى الحفلات التي كانت تعقدها المجلة والتي كان يحضرها كبار المثقفين الأمريكيين في منطقة نيويورك، وكان من بينهم دانيال بِل وإريفنج هاو ولسلي فيدلر وغيرهم. وكنت مثل كثيرين من أبناء جيلي في العالم العربي أؤمن بالعقلانية والاستنارة ومركزيتهما في التراث الحضاري الغربي، وانطلاقاً من ذلك كنا نؤمن بمقدرة الإنسان على تغيير واقعه وعلى تجاوز ظروفه، فالإنسان - كما تعلمنا من الاستنارة الغربية - إنسان عاقل، ولذا فهو مركز الكون.

ولكنني لاحظت أنني كنت كلما تحدثت عن تلك الأفكار والرؤى الإنسانية العقلانية، كان حديثي يقابل بالابتسام والسخرية المهذبة ممن كنت أتحدث معهم. فاهتمام كبار مثقفي الولايات المتحدة، كما اكتشفت حينذاك، كان يتركز على موضوعات مثل اللاوعي والأساطير، والانتحار والمخدرات، والاغتراب واللذة الجنسية، والشكل الذي لا مضمون له أو المضمون الذي لا يمكن لشكل أن يحتويه (ولكن كانت هناك بطبيعة الحال حركة اليسار الجديد، التي انخرطت في صفوفها، والتي كانت تدافع عن الإنسان والعدالة. ولكن جماهير هذه الحركة ومثقفيها، بالرغم من كثرتهم، وبالرغم من نجاحهم في نهاية الأمر في إيقاف حرب فيتنام، ظلوا خارج ما يسمَّى (التيار الرئيسي للفكر الأمريكي)).

وقد قابلت في إحدى الحفلات التي كانت تعقدها البارتيزان ريفيو سوزان سونتاج Susan Sontag، الكاتبة الأمريكية اليهودية المدافعة عن السحاق (هي ذاتها كانت مساحقة رغم أنها كانت قد تزوجت وأنجبت ولَداً على ما أسمع)، وكانت آنذاك تُعدُّ من أهم الكُتَّاب، فقد اكتسح كتابها ضد التفسير (بالإنجليزية: أجنست إنتربرتيشن Against Interpretation) الجميع عند صدوره فاشتريته وقرأته بشغف.

كان الكتاب مثيراً وجديداً ومختلفاً تماماً عما كنا نعرفه عن الحضارة الغربية، ولذا حينما عدت إلى مصر عام 1969م، كان أول مقال نشرته هو عرض لهذا الكتاب (حضارة الكامب: دراسة في مذهب نقدي جديد، المجلة كانون الأول (ديسمبر) 1970م). وأشرت في المقال إلى اللاعقلانية الفلسفية التي بدأت تمسك بتلابيب الغرب بل وتهيمن عليه (العمل الفني ليس محاكاة وإنما سحر - الاستجابة الحسية المباشرة للعمل الفني التي تستعصى على التفسير) - (مظهرنا هو وجودنا الحقيقي، والقناع هو الوجه - في عالم الحداثة لا يوجد شكل مفهوم، إذ يفقد الإنسان ما يميِّزه كإنسان ويتساوى الرجل مع الشيء، بل تتحرر الأشياء من الإنسان وتسيطر عليه). وأشرت أيضاً إلى تحول الجنس إلى موضوع أساسي (الرغبة في العودة إلى حالة البراءة الأولى قبل أن يسقط الإنسان في التاريخ - المطلوب هو جنسيات للأدب erotics (إيروطيقا) وليس تفسيراً له hermenutics (هيرمنيوطيقا) - (أرستقراطية حضارة الكامب هم المخنثون، فالإنسان الخنثى لا يمكنه أن ينتمي إلى مجتمع جاد يحكم على نفسه بمعايير أخلاقية اجتماعية). وقد صدق حدسي بخصوص الكتاب، فكثير من مؤرخي الفكر في العالم الغربي يعدون تاريخ صدور هذا الكتاب هو أيضاً تاريخ مولد ما بعد الحداثة.

ومهما كان الأمر، كانت تجربتي في البارتيزان ريفيو (والولايات المتحدة) مغايرة لتجربة كثير من المثقفين العرب الذين ظلوا ينهلون من معين الفكر الغربي الذي كان يدور في إطار الفكر الإنساني (الهيوماني) الاستناري، ذلك الفكر الذي يمنح مركزية للإنسان ويؤكد عقلانيته ومقدرته على تجاوز ذاته وبيئته، دون أن يدركوا لاعقلانية وعدمية الفكر الغربي الجديد، بل وعداءه للإنسان. ولعل إدراكي المبكر لهذا التطور للفكر الغربي قد غيَّر من الصورة الإدراكية التي أنظر من خلالها إلى هذه الحضارة. فقد لاحظت - على سبيل المثال - أن هذه الحضارة ربما تكون قد بدأت بإعلان موت الإله باسم الإنسان ومركزيته، ولكنها انتهت بإزاحة الإنسان عن المركز (بالإنجليزية: دي سنتر decenter) لتحل محله مجموعة من المطلقات أو الثوابت المادية مثل: المنفعة المادية - التقدم - معدلات الإنتاج - قوانين الحركة - اللذة الجنسية: مطلقاتٍ أو ثوابتَ يتم اختزال كيان الإنسان المركب إليها.

وبدأت ألاحظ بعض التناقضات الأساسية.. فبينما يتحدثون عن أن الحضارة التكنولوجية ستأتي بالسعادة للإنسان، وأنها ستشيِّد له فردوساً أرضياً، نجد أن الأدب الحداثي في الغرب يتحدث عن (الأرض الخراب) التي خلَّفها التقدم التكنولوجي، وعن عبثية الحياة في العصر الحديث، ونجد علم الاجتماع الغربي يتحدث عن التنميط وسيطرة النماذج الكمية على المجتمع وعن التسلُّع والتشيُّؤ. وإذا ما بحثنا عن نمط عام كامن وراء كل هذه الظواهر لوجدنا أنه هو تراجع الجوهر الإنساني لصالح شيء غير إنساني (الآلة - الدولة - السوق - القوة) أو شيء أحادي البُعد (الجسد - الجنس - اللذة). كما لاحظت أن المنظومة التحديثية بدأت بإعلان الإنسان وانتهت بالقضاء عليه، وكان لابد لي أن أفسر هذا االتحول، فطورت مصطلحي المادية القديمة الصلبة والمادية الجديدة السائلة.

* * *

من المادية القديمة (الصلبة) إلى المادية الجديدة (السائلة)

من الواضح أن إزاحة الإنسان عن المركز وتفكيكه ونزع القداسة عنه ليست مسألة مزاج شخصي أو أزمة نفسية عارضة، وإنما هي ثمرة منظومة حضارية كاملة. ولا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا في إطار تحليل حضاري فلسفي عام. ويمكننا القول: إن النموذج المهيمن علي الحضارة الغربية هو النموذج المادي (ونحن نستخدم كلمة (مادي) هنا بالمعنى الفلسفي، أي الإيمان بأن المادة هي الأصل والمحرك الأساسي للكون. وهي رؤية فلسفية ليست لها علاقة بحب المال، فهناك من الماديين من هم أكثر زهداً من كثير من المؤمنين!). وقولنا إن النموذج المهيمن هو النموذج المادي لا يعني أنه النموذج الوحيد، فالمثقفون الغربيون يدورن في إطار نماذج معرفية أخرى تتحدى النموذج المهيمن، ولكنها مع هذا لا تتمتع بالمركزية نفسها أو الفعالية في المجتمع. وهيمنة النموذج المادي لا تعني أن الجميع في الغرب قد أصبح ملحداً، فقد ظلت الأغلبية الساحقة محتفظة بإيمانها الديني في حياتها الخاصة. ولكن مع هذا ظل النموذج المادي يتحكم في كل جوانب الحياة العامة، وفي كثير من جوانب الحياة الخاصة، وأولاً وأخيراً في الخريطة المعرفية التي يدرك الإنسان العادي العالم من خلالها. وقد مرَّ هذا النموذج المادي بمرحلتين: المرحلة العقلانية المادية الصُّلبة، والمرحلة اللاعقلانية المادية السائلة.

والعقلانية المادية هي الإيمان بأن الواقع المادي (الموضوعي) يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلي وحي أو غيب، وأن هذا الواقع يشكل كُلاًّ متماسكاً مترابطةً أجزاؤه برباط السببية الصلبة، بل والمطلقة. وعقل الإنسان حينما يدرك الواقع فإنه لا يدركه كأجزاء متفرقة متناثرة، وإنما يدركه ككلٍّ متماسك، يتجاوز الأجزاء المتناثرة المتغايرة، ويدرك أن حركة الأجزاء ليست حركة عشوائية، وإنما هي تعبير عن هذا الكل الثابت المتجاوز، ولذا فهي حركة لها معنى وهدف، ولها معياريتها ومعقوليتها، فما يحدث يحدث حسب قانون مطّرد ثابت وليس بالمصادفة العمياء.

وقد ترجمت هذه العقلانية المادية نفسها إلى ما يسمَّى (حركة الاستنارة)، التي ذهبت إلى أن عقل الإنسان قادر على الوصول إلى قدر من المعرفة ينير له كل شيء، أو على الأقل معظم الأشياء والظواهر، ويعمق من فهمه للواقع ولذاته. وكان الافتراض أن هذه المعرفة هي التي تضفي على الإنسان مركزية في الكون، وهي التي ستمكنه من تجاوز عالم الطبيعة بل وذاته الطبيعية، ومن تغيير العالم والتحكم فيه، بحيث يصبح الإنسان إلهاً أو بديلاً للإله أو لا حاجة به إليه.. يولِّدُ من داخل ذاته معياريته (ويصبح ما يريده -على حد قول بيكو ديلا ميرانديلا المفكر الإنساني (الهيوماني) الإيطالي). وهذا هو جوهر النزعة الإنسانية (الهيومانية)، التي تعد - في تصورنا - المرحلة الأولى أو التمهيدية لحركة الاستنارة العقلانية المادية.

وهذه الرؤية الاستنارية رؤية شاملة للكون يطلق عليها عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر اصطلاح (ديانة عالمية) (بالإنجليزية: وورلد رليجان world religion) بمعنى أنها تزود الإنسان برؤية شاملة للكون، فهي تحاول أن تجيب عن معظم - إن لم يكن كل - الأسئلة المباشرة والجزئية الخاصة بتفاصيل حياته، وكذلك عن الأسئلة النهائية والكلية الخاصة بأسباب وجوده ومسار حياته ومآلها، كما تزوده بأنساق معرفية وأخلاقية وجمالية يدير من خلالها حياته، أي إنها ديانة كاملة. هذه الرؤية الاستنارية تولِّد في الإنسان ثقة بالغة بنفسه وبمقدراته، وتزيد من تفاؤله بخصوص حاضره ومستقبله. ويمكننا أن نسمي هذه الرؤية (الاستنارة المضيئة). وعندما يتحدث معظم الدارسين (خاصةً في بلادنا) عن المادية وعن الحضارة الغربية يشيرون عادةً إلى هذه الاستنارة.

وقد نجحت الفلسفة العقلانية المادية في أن تقضي إلى حدٍّ كبير على الأساس الديني وغير المادي للمعرفة والأخلاق (خاصةً في مجال الحياة العامة) بأن جعلت المادة المتغيرة وقوانينها هي المرجعية الوحيدة والركيزة الأساسية لأي رؤية للواقع. ولكنها، رغم ماديتها الصارمة هذه، أسست نظماً معرفية وأخلاقية تستند إلى نقطة ثبات مثل العقل والطبيعة البشرية والقوانين العلمية... إلخ. وهي مطلقات مادية توجد داخل عالم المادة، خاضعة لقوانين الحركة المادية، إلا أنه يُزعم مع هذا أنها تتمتع بقدر من الثبات يجعلها تنفصل عن المادة المتغيرة وعن صيرورة النظام الطبيعي، كما أنه يُفترض فيها أنها تستند إلى وجود كلٍّ مادي يتجاوز الأجزاء، وإلى مركز تدور حوله الأشياء. كل هذا يعني أن الفلسفة العقلانية المادية طوَّرت رؤية ميتافيزيقية شاملة. ونحن نطلق على هذه الرؤية المادية - التي تدور حول مركز - (المادية القديمة)، أو (المادية في مرحلة الصلابة).

ولكن ثمة تناقضاً أساسياً في النسق الفلسفي العقلاني المادي (القديم)، كشفه بعض المفكرين الماديين فراحوا يتهمون هذا النسق بعدم الاتساق مع نفسه، وطرحوا حوله العديد من الأسئلة الوجيهة - في تصوري -، من بينها ما يلي: أليس العقل الإنساني هو الدماغ، وهذا الأخير إن هو إلا مجموعة من الخلايا المادية شأنه شأن كل ما هو مادي؟ لماذا تُنسب للعقل إذن المقدرة على تجاوز الأجزاء وإدراك الكليات والإفلات من قبضة الصيرورة؟ أليس هو ذاته جزءاً من المادة المتغيرة، وما ينطبع عليه هو أحاسيس مادية متغيرة، وليست ظواهر مترابطة متماسكة لها معنى؟ وإذا كان العقل كذلك، فالذات الإنسانية ليس لها وجود مستقل عن العالم المادي، ولا يمكنها تجاوزه.

أما بخصوص الموضوع، فقد ذهب هؤلاء المفكرون إلى أن الكل المادي الثابت المتماسك المتجاوز ذا الغرض هو مجرد وهم إنساني، فكيف يمكن للكل أن يكون مادياً والمادة أجزاء؟ وكيف يمكن أن يكون ثابتاً؟ والمادة في حالة حركة وصيرورة؟ وكيف يمكن أن يكون متجاوزاً والمادة لا تعرف التجاوز؟ وكيف يمكن أن يكون ذا غرض خاضع لسببية صلبة والمادة حركة بلا هدف ولا غاية؟

بل إن الأمر ازداد اتساعاً. فقد أدرك الماركيز دي صاد، المفكر (الاستناري)، في مرحلة مبكرة، أن الطبيعة محايدة، غير مكترثة بالإنسان، لا يمكنها أن تمده بمنظومات معرفية وأخلاقية، كما كان الظن والزعم، ولذا فقد كان يتلذذ بتعذيب النساء اللائي كان يعاشرهن ليتغلب على عدم اكتراث الطبيعة وحيادها. وقد بيَّن داروين أن الطبيعة هي عالم الفوضى، غابة ليس لها قانون، أو إن كان ثمة قانون فهو القوة. ثم ظهرت النظرية النسبية ونظريات عدم التحدُّد و(الكوانتم)، والتي تبين للإنسان أن الذات لا تدرك الواقع بشكل دقيق، وأن (الواقع) نفسه متغيِّر متحوِّل لا يمكن الوصول إليه.

وهكذا تم ضرب الإنسان أنطولوجياً (فالإنسان إن هو إلا مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية لا يختلف في سلوكه عن سلوك أي حيوان أعجم، ولذا فهو لا يستحق أي مركزية في الكون)، وإبستمولوجياً (فإدراك الإنسان للواقع ليس عقلانياً، وإنما تحكمه مصالحه الاقتصادية وأهواؤه الجسمية). وتم تسديد ضربة قوية لفكرة الواقع الموضوعي والمطلقية المعرفية والأخلاقية؛ إذ لا ثبات في الطبيعة أو المجتمع أو الذات الإنسانية، وإنما هو تغيُّر مستمر وصراع دائم، أي إن كلاًّ من الطبيعة الإنسانية والمادية قد تم تقويضهما كنقطة ثبات بحيث لا يمكن للأنساق الفلسفية والأخلاقية أن تستند إليها.

ثم طرح هؤلاء الشكاكون الماديون السؤال الجوهري التالي: كيف يمكن أن نؤسس أنساقاً أخلاقية (تتسم بالثبات وبالمطلقية وبالتجاوز) بعد القضاء على الأخلاق المسيحية والتقليدية، وبعد سقوط كل شيء في قبضة الصيرورة؟ وكيف يمكن أن نفترض وجود معرفة يقينية بالعالم الخارجي وهو في حالة حركة وتغيُّر دائمين؟ إن الأنساق الأخلاقية الثابتة والمعرفة اليقينية تستدعي فكرة الأصل النهائي الثابت (ربانياً كان أم مادياً)، ويشكل عودة للغيبية والثنائية (الدينية) التقليدية بعد أن أخذت شكلاً جديداً، ويمثل سقوطاً في (ميتافيزيقا التجاوز metaphysics of trnscendence) رغم المادية المعلنة المزعومة. ذلك أن افتراض وجود مثل هذه الثوابت يتناقض والرؤية العقلانية المادية الصارمة، التي لابد أن ترد الكون بأسره إلى مبدأ واحد كامن في الطبيعة/المادة لا يتجاوزها، وهذا المبدأ في حالة حركة دائمة، مبدأ مادي محايد، لا يعرف الخير أو الشر، أو القبح أو الجمال، أو الضحك أو البكاء، ولا يصلح أن يشكل أساساً لأية فلسفات تجاوز. ولذا اتهم هؤلاء المتشككون المادية القديمة بأنها (ميتافيزيقا مادية)، أو (إنسانية (هيومانية) ميتافيزيقة)، أو حتى (مثالية مادية) (والعياذ بالله!). كما بيَّنوا أن المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية المادية ليس لها أي أساس مادي كما تدَّعي، فهي من إفراز عقل إنساني يخدع نفسه بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ، لأنه يبحث عن الطمأنينة، ويود أن يطبع الثبات على الواقع. ومن ثَمَّ، فعلى الإنسان أن يقبل وضعه باعتباره كائناً زمنياً مكانياً، محدوداً بحدود الزمان والمكان، خاضعاً لحتميات الطبيعة، وأن يكف عن الثرثرة عن التجاوز والقيم والقانون والسببية. ونحن نطلق على هذا الاتجاه (المادية الجديدة) أو (المادية في مرحلة السيولة) و(اللاعقلانية المادية).

وإذا كانت العقلانية المادية أثمرت الاستنارة المضيئة، فهذه التساؤلات أدت إلى ظهور (الاستنارة المظلمة). وهذا مصطلح نحته أحد مؤرخي الفلسفة الغربية، ليشير إلى بعض الجوانب المظلمة في الفلسفات المادية، التي تفكك الإنسان ولا تمنحه أية مركزية أو مكانة خاصة أو مزية على الكائنات الأخرى. ويرى هذا المؤرخ أن بعض مفكري عصر الاستنارة، وليس كلهم، قد أدركوا الطبيعة التفكيكية المظلمة للعقلانية المادية: إن الاستنارة المظلمة ليست أمراً مضافاً للاستنارة المضيئة ولا مقحماً عليها، وإنما هي متضمَّنٌة تماماً في المتتالية الاستنارية المضيئة، وأن منطق الاستنارة المضيئة يؤدي إلى الاستنارة المظلمة (تماماً مثلما تؤدي المادية القديمة الصلبة إلى المادية الجديدة السائلة، والعقلانية المادية إلى اللاعقلانية المادية). وقد بيَّن هؤلاء المفكرون أنه إذا كانت أصول الإنسان طبيعية مادية - كما يرى العقلانيون الماديون من دعاة الاستنارة المضيئة -، وأنه تسري عليه القوانين المادية التي تسري على كل الظواهر الطبيعية (أي إنه ليست له أصول ربانية متعالية متجاوزة) - فلا يمكن إذن الحديث عن مركزية الإنسان في الكون، أو عن المرجعية الإنسانية، أو عن مقدرة الإنسان على تجاوز ذاته الطبيعية/المادية، أو عن أن الإنسان خيِّر بطبيعته واجتماعي بفطرته، أو عن أن الذات الإنسانية مبدعة حرة مستقلة، أو عن أن ثمة حقيقة موضوعية مستقرة يمكن إدراكها... إلخ. فمثل هذا الحديث في نظر هؤلاء المفكرين هو مجرد ادعاء زائف من جانب الإنسان، ووهم من أوهام الفكر الإنساني الهيوماني الغربي ليس له ما يسنده في الواقع. ومن الأجدى أن يعرف الإنسان حدوده ومكانته في الكون، وأن يتخلى عن غروره وخيلائه وأوهامه عن نفسه وعن مقدراته، وواجب الفلسفة هو أن تدرس الإنسان في ضوء القوانين المادية الكامنة في الطبيعة وتساعده على تجاوز الميتافيزيقا الهيومانية، وأن يتقبل ما نسميه (ميتافيزيقا الكمون metaphysics of immanence) بل، وفي نهاية الأمر، إلغاء الفلسفة ذاتها، لأن الفلسفة تفترض أن للتفكير في الكليات جدوى. إن الخلل في الفكر الإنساني والعقلاني والاستناري المضيء - من وجهة نظر دعاة الاستنارة المظلمة - أنه يرفض مواجهة النتائج المعرفية والأخلاقية المتضمنة في الرؤية العقلانية المادية الصلبة، ولا يصل بها إلى نتائجها اللاعقلانية المادية السائلة!

.........

لقد استمدت الحداثة جذورها من فلسفة الأنوار التي أعلنت مركزية الإنسان وفردانيته، وأكدت أن عقله المادي يحوي في داخله ما يكفي لتفسير ذاته وبيئته والكون المحيط به من دون حاجة إلى وحي أو غيب، وأن هذا التفسير يشكل كلاً متماسكاً يتجاوز أجزاءه المتناثرة.

ولقد نجحت هذه الفلسفة العقلانية المادية - إلى حد كبير - في إقصاء البعد الروحي للإنسان (في مجال الحياة العامة).

ولم يلبث النسق المعرفي المادي للحداثة أن أفرز تساؤلات عميقةً آلت بها إلى ما بعد الحداثة التي فككت الإنسان، وأنكرت مركزيته، وأسلمته إلى العدمية، فبعد تراجع الجوهر الإنساني لصالح الآلة والسوق والقوة، على يد (الحداثة)، تم اختزاله إلى شيء أحادي البعد (جسد، جنس، لذة) على يد (ما بعد الحداثة).

هل انتهت المنظومة التحديثية بالإنسان إلى إزاحته عن العرش بعد أن كانت قد بدأت بتنصيبه؟!

ما مدى صدقية القيم التي بنتها الحداثة؟ وما مصير الفلسفة والحضارة التي قامت عليها؟! هل أعلنت إفلاسها؟!

ذلك ما سيشرحه الكاتبان في تحليلهما للخبايا الكامنة في هذين التيارين الفكريين، وفي الدور المتاح للثقافات الأخرى، لكي تدلي بدلوها في تقديم البديل.

الحداثة وما بعد الحداثة - حوارية - د. عبد الوهاب المسيري - د. فتحي التريكي

يتناول هذا الكتاب حوارية بين كاتبين مشهورين، حول الحداثة وما بعد الحداثة، ويكتب كل منهما بحثه وتعقيبه على بحث الآخر مستقلاً.

ويتناول أولاً الخلفية الحضارية للغرب وفلسفته الاستنارية المضيئة والمظلمة، وعقلانيته المادية التي تلغي روحانية الإنسان وحاجته إلى الوحي، وتبين مركزيته وفردانيته، وتسلحه بإفرازات النسق المعرفي للمادة، إلى العدمية والتفكك، وترجع جوهره الإنساني لصالح الآلة والسوق والقوة، ولتختزله بعد الحداثة إلى شيء أحادي البعد (جنس جسد لذة).

ويوضح إشكالية انفصال الدال عن المدلول، وظهور الصور المجازية الإدراكية وتطورها، ويتهم كتابات مفكري ما بعد الحداثة أنها ألاعيب افظية وأشباح فلسفية مخيفة لا تدرك.

ويدرس منطلقات ما بعد الحداثة: الأنطولوجيا والمعرفة والمعنى والوحدة والتماسك والتجاوز، ورد الإنسان الصلب إلى الحيوان السائل.

ويبين ارتباط ما بعد الحداثة بنظرية وحدة الوجود وباليهودية وبالصهيونية، وبالنظام العالمي الجديد، الذي ينفي هدف التاريخ، ويوصله إلى نهايته عند تحقيق غايته.

ويتناول ثانياً تعريف الحدث والهوية وما بعدها، ويبحث قضايا وحدة العقل والحرية والتعقلية، والعولمة، ومعضلة الثقافة، والعنف والإرهاب، وصدام الثقافات، وثقافة العولمة، ويدعو إلى الحياة المشتركة بين الجميع.

ويورد بعد تعقيب كل باحث على الآخر، تعاريف بمصطلحات الكتاب.