أنا الثالث في ترتيب العائلة، تكبرني أختان هما (سارا) و(زينات)، وأكبُرُ أختاً ثالثة محبَّبة لدينا جميعاً، اسمها (شريفة)، وكذلك أخاً أصغر بلغ الفطام منذ شهور، وهو يحبُو لإيجاد مكانه في سرب عائلتنا الفقيرة.
كلُّنا مع والدي ووالدتي؛ أي سبعة (أنفار) نقطن داخل (القَصْدير)، ولا أقول نسكُن؛ لأنَّنا لم نعرف السكينة يوماً... تُحيط بنا المياه القذرة من كلِّ جانب، ولا نعرف للغاز الطبيعي ريحاً ولا لفحاً. أمَّا الكهرباء فعندنا خيطٌ واحد منها، يُشعل مصباحاً يتيماً، مع آلة الحلاقة التي يستعملها والدي، والتلفاز الصغير الشهير... ومع ذلك، فهو يكلِّفنا الكثير من المال، يـزيد إلى عنائنا عنـاء، ويضيف إلى شقائنا شقـاء...
كانت الهند سنة 1984م في صعود اقتصاديٍّ كبير، تُريد اللحاق بالعمالقة السبعة، وتُنافس الصين واليابان، بكلِّ ما أوتيت من قوَّة، حتى لو كان ذلك على حساب سعادة مواطنيها. لا يهمُّها أن يلحق المسلمين أذىً، ولا أن ينالهم خير؛ ذلك أنَّها تراهن على (الهندوس البراهمَة)، الذين يُعتقد أنَّهم صفوةُ الخلق، وأنهم ملحقون بالآلهة، وأنَّ من حقِّهم أن يأخذوا مال (الهندوس الشودر) أصحاب الطبقة الدنيا والعبيد، ومن مال المسلمين الأغيار...
فكانت الدولة تمدُّ هؤلاء (البراهمة) بوسائل الحضارة: من مدارس، وأموال، ومصانع، وفُرص للتعليم، وإمكانات للتوظيف والسفر... وتحرم غيرهم حرماناً قاسياً مفضوحاً.
كنت - لكلِّ ذلك - أعتقد دائماً أنَّ ما وقع لـ(بوبال) لم يأت عفواً، بل بتخطيط جهنَّميٍّ بالتواطؤ مع آلة جهنمية، يقودها (البوليس العالمي) ومن لفَّ لفَّه... فكان مصنع مجموعة "يو سي سي" ( Union Carbide Corporation ) كفيلاً بتوضيح صورة هذا التواطؤ، وكشف عوَاره، في أعين من يملك أدنى قدر من العقل والفكر والنظر...
لا أعرف إلى اليوم، كيفَ أربط بين تاريخين بارزين من تاريخ الهند الحديث: يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول)، ويوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام ألف وتسع مئة وأربعة وثمانين...
أمَّا الأوَّل فيمثِّل يومَ اغتيال (أنديرا غاندي)، وتولِّي ابنها (راجيف) منصبَ رئيس الوزراء خلفاً لها، وهو في سنِّ الأربعين فقط، سنِّ والدي يومها.
أمَّا اليومُ الثاني، فهو يوم حدوث كارثة (بوبال)... يومُ اصطلائها واصطلائنا بشتى ألوان المحن والوبال...
تقديم
في ثقافتنا..مافيا..!
د.أحمد خيري العمري
لعلي لا أذيع سراً إذا قلت إنَّ هناك "مافيا" تهيمن على الساحة الثقافية والإعلامية العربية - خاصة الأدبية منها..
إنها "مافيا" تتمثل في سيطرة جماعات أو شلل معينة، ومنذ الستينيات في القرن الماضي، على الصفحات الثقافية والندوات والأمسيات والمؤتمرات الثقافية، ومن ثم على الجوائز والألقاب التي تمنح لهذا الأديب أو ذاك، والذي يجب أن يكون جزءاً فاعلاً من هذه "المافيا" أو على الأقل قادراً على التعبير عن توجهاتها..(توجهات ليبرالية غالباً، وهي توجهات صار يتبناها اليوم حتى فلول اليسار الذي كان مسيطراً على "المافيا" كلية فيما سبق).. وهي، بسبب قدرتها على التلون والضبابية، تكوِّن امتدادات داخل وزارات الثقافة العربية، وتكرم ضمناً أحياناً بعض المرضي عنهم من قبل هذه الحكومات، حتى لو لم يتوافقوا مع اتجاهات "المافيا"، فقط لتمرير أسماء أخرى شديدة القرب من هذه "المافيا" دون أن يشترط في ذلك موهبة كبيرة بالضرورة... وليس سراً أنَّ بعض الأسماء الشعرية التي كرِّست وتمَّ تحويلها إلى رموز وطنية وأدبية لا يمكن المساس بها، هي أسماء اعتمدت على نتاجها الأول المتميز لغة وفكراً، في حين كان نتاجها اللاحق أقلَّ تميزاً بكثير.. ومع ذلك فإنَّها (طوّبت) بألقاب رنَّانة ومساحات نقدية كبيرة لم تفرغ لأي أحد من قبل، ولم يفرغ عشرها لأصحاب مواهب كبيرة، لكنهم امتلكوا اتجاهات مغايرة، كل ذلك بفعل سطوة هذه "المافيا" وقوتها..
هذه "المافيا" امتدَّ تأثيرها إلى جمهور القراء كما هو متوقع بطبيعة الحال، وتعرَّض الجميع إلى ما يشبه غسيل الدماغ الذي خلق نوعاً من التوجه الليبرالي الذي يسمح للتوجهات الليبرالية أن تعبِّر عن نفسها بكل طريقة وبأكثرها مباشرة ووضوحاً، دون أن تتهم بالمباشرة وبخرق القواعد والمواصفات الأدبية، في حين أننا سنجد هذه التهم جاهزة لتوجه إذا ما عبرت هذه الرواية عن توجهات أخرى غير ليبرالية، وبالذات إذا كانت هذه التوجهات إسلامية..
أيعود ذلك إلى براعة التسويق للمنتج الليبرالي، أم إلى إتقان الكتاب المنتجين له، أم إلى كون الليبرالية صارت تعامل كما لو أنها كانت من بدهيات الحياة التي لا تناقش، في حين يعامل كلُّ توجه فكري آخر على أساس أنه إيديولوجيا، وأن الزج به في رواية أو عمل أدبي خطيئة لا تغتفر؟!
وهكذا يحق للكتاب والكاتبات "التنظير" و"الخطابة" بخصوص حرية المرأة وحقوقها -على سبيل المثال- دون أن يشعر أحد أنهم قد سقطوا في المباشرة والتنظير، أو أنهم قد أساؤوا إلى قواعد الأدب..
أمَّا إذا عبَّر كاتب أو كاتبة عن توجه مختلف، عن ارتداء فتاة للحجاب، عن التزامها بالعفة مثلاً، فسيتهم فوراً بالسقوط في الوعظ والمباشرة، وسيصنف ما يكتبه خارج دائرة الاهتمام النقدي، وقد يقابل بالتجاهل التام..
وأنا هنا لا أنكر أن بعض الكتاب الإسلاميين (على قلتهم أصلاً) قد بالغوا جداً في تقديم "شخصيات" معقمة بلا صراع مع شهواتها أو حتى محاولة ترويض لها، لكن بالمقابل فإنَّ الكتاب الليبراليين قد بالغوا أيضاً في تقديم شخصيات "معقمة" بالمعنى السلبي للكلمة، أي إنها منحازة تماماً إلى شهواتها دون أي صراع.. دون أن يتهموا بأنهم يقدمون مواعظ ليبرالية ويقدمون تحريضاً لقرائهم.. ودون أن يسأل أحد لم يعتبر هذا من الأدب الواقعي الذي يستحق التصفيق، إذ يسرد لنا الكتاب قصص انحراف أبطالهم وسقوطهم بالتفاصيل الدقيقة للأمر، دون أن يفعل الشيء ذاته بالمقابل مع كتاب آخرين يحاولون سرد قصص التوبة والهداية.. علماً أنَّ مجتمعاتنا تزخر بالنوعين من القصص، فكما أن هناك ضياعاً وانحرافاً، هناك أيضاً توبة وهداية وعودة إلى الدين والقيم الأخلاقية..
أمر آخر تم غسل أدمغتنا به من قبل "المافيا" تلك، وهو أنَّ الأدب يجب أن يعزل عن أي معيار أخلاقي، وهكذا لا يحق لنا أن نصدر أي حكم على عمل أدبي إلا بناء على قواعد أدبية مطاطة وفضفاضة، تتغير باستمرار بحسب تغير النقاد أنفسهم.. ومن الناحية المبدئية لا أنكر أن أسلوب العمل الأدبي وموهبة الكاتب أو الكاتبة قد لا تستلزم انسجامه أو انسجامها مع معاييرنا الأخلاقية، لكن ما فرضته "المافيا" كان يتجاوز ذلك إلى فرضية أنَّ عدم الانسجام مع المعايير الأخلاقية والتمرد عليها هو شرط أساسي من شروط الإبداع، وهكذا صار أنصاف الكتاب وأرباعهم يتبارون في سرد مذكراتهم الجنسية (أو ربما خيالاتهم الناتجة عن إحباطاتهم الجنسية!) وتتلقف نتاجاتهم "المافيا" الأدبية -الإعلامية بالتبجيل والمساندة والتصفيق، ويدعم بعضهم ليفرض على الساحة ويتحول إلى علامة من العلامات الأدبية التي لا تمس ولا تواجه بالنقد، مع أنَّ الموهبة الحقيقية له قد لا تكون بهذا الحجم..
ولا أنكر هنا وجود تقاعس عند الكتاب الإسلاميين الذين إما انساقوا إلى المبالغة في تقديم الشخصيات المعقمة كما سلف، أو أنهم صدّقوا أن الأدب لا بد أن يتناقض مع المعايير الأخلاقية، فانسحب من النتاج والإبداع الأدبيين بعض من لا أشك في عمق موهبتهم وندرتها..
و مما روجته "المافيا" أيضاً، أنَّ اللغة الأدبية يجب أن تكون غامضة وألاّ يقال شيء بوضوح على الإطلاق، وإنما "يشفر" ويستخدم رموزاً تعبيرية ولغوية، وإلا عد ذلك مباشرة، ولا بأس إن لم يفهم القارئ المغزى المقصود من ذلك، أو فهم بالاستعاضة عن طريق قراءة مقال نقدي عن الرواية، تشرح لهم مثلاً أنَّ البطلة التي قضت الرواية بأسرها متنقلة من سرير إلى آخر هي رمز فني وأدبي عميق للوطن المستباح!!.(ونحن الذين ظلمنا الكاتب وتخيلنا أنه يستخدم هذه المواضيع لدغدغة غرائز القراء).
سطوة "المافيا" تمكنت من إعادة صياغة "ذوق" لنخبة كبيرة من الجمهور الذي تشكل ذوقه الأدبي على الرمزية الفارغة، وعلى الخوض في الجنس وموضوعاته باعتبارها نقلاً للواقع كما هو.. (كما لو أنَّ الواقع لا يحتوي على بشر يتناصحون بوضوح ويقاومون شهواتهم بقوة..).. وهكذا صار الجمهور القارئ (قليل النسبة أصلاً لأسباب لا داعي لنبشها الآن)- بل حتى الجمهور الملتزم بالقيم الدينية - يتعجب ويستنكر لو أنه قرأ رواية أو عملاً أدبياً فيه حوار ديني، مع أنَّ حياة القارئ نفسه قد تضم حوارات من النوع نفسه وأكثر بكثير، لكن ما إن يصل الأمر إلى الأدب والرواية حتى نتوقف، لأنه يمس قواعد ذهبية افترضتها "المافيا" المسيطرة على الأدب الرفيع وغير الرفيع..
والأمر في النهاية يرتبط برؤيتنا حول تعريف الأدب وتوصيفه الوظيفي: هل هناك غاية من الأدب؟ أيفترض به أن يثري تجربتك؟ أن يزيدك وعياً؟ أن يزيدك صلابة؟..أم أن يزيد من حيرتك ومن ضياعك ومن كثرة الأسئلة بلا أجوبة في حياتك؟..
لا أقصد أبداً أن تكون الرواية نشرة توجيهية في الوعظ والإرشاد، لكن لا يخرق قواعد العمل الفني والأدبي أن يتضمن قيماً أخلاقية أو ألاّ يدعو لتحطيمها على الأقل. لتكن الرواية عملاً فنياً فيه من الجمال والصدق ما يجذب القارئ، لكن دعونا لا نصدق ما تريدنا "المافيا" أن نؤمن به من أن ذلك يجب أن يضم أيضاً كل ما يحطم الأخلاق والقيم..
هناك عاملان أساسيان لتحقيق ذلك والوصول إليه:
أولاً: أن يعمل المبدعون من أصحاب القيم الدينية على تحطيم كلِّ القواعد النقدية المشار إليها، إذا كان الإبداع تحطيماً للقواعد النقدية فلتحطم هذه القواعد أول ما تحطم، ليستخدم المبدعون كل ما أوتوا من خيال وموهبة في تقديم عمل فني يعبر عن قضاياهم وعن قيمهم دون السقوط في المباشرة الفجة، ودون الخوف الشديد من وجود عبارات واضحة تعبر عن قضيتهم في الوقت نفسه..
ثانياً: على مثقفي التيار الإسلامي جميعاً أن يتساندوا في دعم الأعمال الأدبية التي تطرح قضاياهم، نشراً وترويجاً ودعماً لأصحابها، ليس تعويضاً عن الإهمال الذي تتعرض له هذه الأعمال من قبل التيار النقدي السائد فحسب، ولكن لأنَّ نجاح الكثير من الأعمال المكرسة وأسماء أصحابها لم يكن إلا بفضل دعم مماثل كما سبق، ومن ثم فإنَّ نجاح أعمال أدبية بتوجهات أخرى يتطلب تكوين جبهة مضادة، أو حتى "مافيا" مضادة، تعمل من أجل قيم نؤمن بسموها وعلوها..
سيكون هناك أعمال أدبية متفاوتة الجودة، وهذا طبيعي جداً، فمن بين آلاف الشعراء في عصره يوجد شكسبير واحد ومتنبي واحد.. الحصى هي القاعدة، واللولؤ هو الاستثناء..النتاج العادي هو القاعدة، والإبداع هو النادر، لكن تكوين تيار أدبي ودعمه ابتداء سيمهد لظهور أسماء مبدعة حقيقية، ويمهد لظهور أعمال مبدعة كبيرة..
أين تقع رواية "بوبال" من هذا كله؟..
أزعم أنها قد تجاوزت بكثير فخ المباشرة التي سقطت فيها الكثير من الأعمال من قبل، هناك جمل تحمل توجهات واضحة، لكنها جمل قد نقولها في حواراتنا اليومية دون أن نرفضها أو نعتبرها خطباً.. لذلك نحتاج إلى أن ننزع إرهاصات "المافيا" الأدبية عندما نقرؤها..
يكفي "بوبال" أنها تطرح قضية منسية، نسيتها أنا شخصياً بعدما تراكمت القضايا والمشاكل، ولا تكتفي بطرح القضية، بل تقدمها بشكل شمولي، وضمن إطار الحل، وهو أمر من الصعب جداً تحقيقه في عمل أدبي...
"بوبال" تعرض لمشكلة في غاية الأهمية، من خلال حدث واحد يكون كالبعد البؤري الذي تجتمع فيه أسباب أمراض الأمة، ما حدث في بوبال لم يحدث بالضرورة في أي مكان آخر من العالم الإسلامي، لكن أسباب الكارثة لو حللناها إلى مبادئها الأولى، لوجدنا أنها متوافرة في كل كارثة مرت بها أمتنا..من كارثة فلسطين إلى العراق مروراً بكل كوارث أمتنا العصية على الإحصاء..
مهارة الدكتور باباعمي تتجلى في السيطرة على الجانبين؛ التنظيري والروائي، لتقديم عمل أدبي أزعم أنه سيشكل علامة مهمَّة في مسيرة الأدب الإسلامي، الذي لا بد من دعمه والترويج له....
بوبال
بين يدي القارئ العزيز..
مذكراتُ شاب مسلم هرب من الموت بأعجوبة؛ ثم نجا من التخلف بامتياز، فأسَّس حياته ومواقفه ورؤاه الكونية على قاعدة من نموذج الرشد..
قصَّةٌ تتراوح أحداثها وتفاصيلها بين الواقع والخيال، موجَّهة لكلِّ شاب؛ رِجْلُه الأولى في المرحلة الثانوية والأخرى في الجامعة؛ وهي مفيدة لكل قارئ بروحه، وعقله، وقلبه، وضميره..
هذا الشاب هو أنا وأنت.. ذلك أنَّ الحقيقة تبقى واحدة ناصعة بيِّنة.. لا غبار عليها.. وإن اختلف الزمان والمكان، وتباين الحال والمآل..
إنها حقيقة كارثةٍ، عنوانها العريض (بوبال)