كلمة الناشر
أذهلتني المعلومات التي أوردها هذا الكتاب.. اعتراني منها ما يشبه الزلزال.
لم تصدمني النبوءات المدمِّرة التي ترسُم للبشرية -وأنا ذرة منها- مصيرَها المشؤوم، كقدر محتوم؛ دمارٌ وخراب ودماء وأشلاء، وأسماء وأرقام، وإبادة وانتهاءُ زمان...
ما صدمني أنّ أمة؛ تتسنم اليوم ذروة الحضارة والتقدم، وترتقي أعلى درجات سلَّم التفوق العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والسياسي، لتمسك بتفوقها زمام العالم، تتبنى إدارتها هذه النبوءات عقيدة راسخة، تعزوها إلى الله لتضفي عليها صفة القداسة، ثم تنسج منها خطة الله للدهر، ثم تزعم أن الله انتدبها لتنفيذ خطته بحذافيرها.. ادخرها لها آلاف السنين، تخلفت خلالها أيٌّ من مواعيدها المضروبة لها عن التحقق، وتهيبت خلالها أمم كثيرة أن تضطلع بها، مخافة أن تبوء إزاء الله والإنسانية بشيء من آثامها وأوزارها.. فإذا بها تنبري، مشمرة عن ساعد الجد، لحمل رسالة الدمار والخراب، مسخرةً كل طاقاتها، ومدَّخرات مواطنيها المتراكمة عبر سنوات البناء، وما قدموا فيها من جهد وكفاح..
ونظراً لطابع القداسة الذي أضفته على مهمتها، فقد أباحت لنفسها تجاوزَ جميع القيم والمكتسبات التي أحرزتها الإنسانية عبر كفاحها المرير، منذ أن كانت تعيش في الغاب وتحتكم إلى شريعته، كما أباحت لنفسها انتهاكَ كل الحرمات المترتبة على هذه القيم، وخرقَ كل القوانين الدولية التي تقف عثرة في طريقها، وتهميشَ كل المنظمات التي شيدتها الإنسانية لصيانة مكتسباتها، ثم صنعت لنفسها مكيالين: أحدهما تكيل به ما يتعلق بمصالحها الخاصة الذاتية وتصرفاتها، والآخر للآخر المهدورة حقوقُه عندها، فمارست به أبشع أنواع التمييز العنصري، وهبطت به إلى حضيض الفساد الأخلاقي، ففقدت مصداقيتها، وخسرت ثقة الإنسانية بها.
كل ذلك كان بذريعة المهمة التي زعمت أن الله انتدبها للاضطلاع بها.
لقد قدَّم لنا المؤلف حصيلة جهده العلمي المكثف والمضني، بمنهجية علمية فائقة، وتصنيف دقيق للمعلومات، ولم يشأ أن يدخل في متاهة التحليل الدقيق لها ومناقشتها، متجنباً تحميلها بأي رأي شخصي، تاركاً ذلك للقارئ وفطنته وحصافته.
وإني لأستأذنه - بوصفي أحد هؤلاء القراء الذين ترك لهم أمر مناقشتها وتقويمها، وبما أحدثته قراءتي الأولى للكتاب فيَّ من صدمة هزت كياني، ودفعتني لإعادة ترتيب أفكاري - أن يسمح لي ببعض التقويم والاستنتاج..
أقول (ببعض)، لأنني - بدوري - أحرص على عدم مصادرة رأي القارئ، وعلى الاستفادة من تعدد الآراء لاستجلاء الحقيقة.
وهأنذا ألخص أفكاري عما أورده المؤلف - موثَّقاً - بما يلي:
لست بصدد توثيق نسبة النبوءات إلى الله، فلذلك مكانه من الدراسات اللاهوتية المعمقة، على اختلاف مذاهبها.
وعلى افتراض صحة هذه النسبة، وخلوها من التحريف الذي يقتضيه طول الأمد، وتعدد المصادر، وتباعد الأزمنة. فكيف سمح أبناء الله وأحباؤه لأنفسهم أن ينسجوا من هذه النبوءات (خطة الله للدهر)، وأن ينحتوا منها أوامر إلهية واجبة التطبيق، وأن يضعوا لتطبيقها برنامجاً وجداول زمنية ومهمات بشرية يقتسمونها بينهم؟!!
إن هذه النبوءات لاتعدو أن تكون معلوماتٍ، استقرت في علم الله المطلق، لا علاقة لها بإرادته، أي إنه سبحانه يعلمها.. يعلم أنها ستكون في سلوك الإنسان وتصرفاته، ولا تخرج عن إطار اختياره المسؤول، إلى إطار الإرادة والأمر الذي يعفي الإنسان من المسؤولية، فهذه النبوءات تتحدث عن قتل وتدمير وإراقة دماء وفساد، حاشا لله أن يأمر بشيء منها، أو أن يعفي مرتكبيها من المسؤولية عنها، فالله تعالى، بمقتضى تعاليم سائر الديانات، إنما يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويحاسب الناس بمقدار ما ينفذون من أوامره ويجتنبون من نواهيه.
وربط هذه النبوءات بزمن محدد، وإسقاطها على أحداث معينة جارية، إنما ينم عن مخططات سياسية، وأطماع إمبراطورية مكشوفة، أعوزتها المسوِّغات الأخلاقية والقانونية، فراحت تبحث عن ذرائع لها خارج نطاق القيم الإنسانية والأعراف الدولية والمنطق العلمي العقلاني.
وفي تقديري أن قراء أمتي لن تثير فيهم نبوءات تدمير دمشق عام 2004، ومعركة هرمجيدون المرتقبة وغيرها، من الرعب ما يطمح إليه تجار هذه النبوءات ومروجوها ومستثمروها، بقدر ما تثير لديهم من إحساس بالمسؤولية عن تراثهم الفكري الغني، الذي ترنو إليه الإنسانية لتخليصها من الوهدة السحيقة التي تردت فيها على أيدي النبوئيين أدعياء التدين.
إنني واثق من أن قراء أمتي محصنون بتراثهم الثقافي العظيم من الانخداع بأوهام النبوءات، وقد وعوْا بعمق جواب السيد المسيح عن سؤال الطريقة التي يمكن بها التعرف على الأنبياء الكذَبَة، فقال عليه السلام: ((من ثمارهم تعرفونهم)).
إن أكثر الناس سذاجة في أمتنا، لا يمكن أن يبيع أملاكه ويهرع إلى ذرا الجبال، إذا طلع عليه نبوئي مخرِّف، بنبأٍ يحدد له باليوم والساعة موعد قيام الساعة.
فلقد استقر في ضمير الإنسان العربي والمسلم:
أن أولياء الله المقربين إليه هم المتقون المتشبثون بموازينه للحق والخير والعدل.
وأن الناس كلَّهم لآدم، متساوون في الحقوق والواجبات، لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى وعمل الخير، فالخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.
وأن كل إنسان مسؤول عن عمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل جيل لاحق وزر جيل سابق، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 2/134].
وأن خطة الله للتاريخ الإنساني تقوم على تكليف الإنسان بإعمال عقله الذي وهبه الله إياه وميزه به من سائر المخلوقات، وحمَّله مسؤولية الكدح المتواصل من أجل التخلص من نوازع الفساد وسفك الدماء التي توقعت الملائكة ولوغه فيها. وقد استطاع الإنسان عبر تاريخه الطويل ومعاناته أن يقطع أشواطاً بعيدة في تطبيق هذه الخطة الإلهية، وأحرز لمصلحتها مكتسبات ثمينة، ولا يزال يكافح على طريقها..
إنني واثق من أن معركتنا القادمة معركة ثقافية، سلاحها الفكر والمعرفة، وأن الفكر هو رأسمال الأمم في عصر المعلومات الذي نعيش، وأن إعمال الآلة العسكرية وإيقاد نيران الحروب والفتن، يمثل نكسة تاريخية برهنت الإنسانية بجدارة على قدرتها على تجاوزها لاستئناف تقدمها، وأن معركة هرمجيدون المرتقبة ستواجَه بضربة استباقية تبطل مفعولها، وأن الضربة الاستباقية هذه ستكون ضربة فكرية؛ تستأصل العفن والأورام التي اعترت عقول السذَّج من بني البشر، وتفوِّت فرص الخداع والتزييف والتضليل الإعلامي على تجار الحروب والنبوءات، معتمدة على قوة الحق والعدل والإخاء والمساواة، وسيحل حوار الحضارات محل صراعها، ليسود بينها التعارف والتعاون والتكامل.
لكن هذه المعركة الفكرية الكبرى، تحتاج إلى إعداد دقيق ومضنٍ، فأمةٌ أضناها طول الأمد، وتصلُّب الشرايين، فأصابها بالعيِّ وقصر النظر والتخلُّف؛ لاغرو أنها تحتاج إلى إعادة تأهيل، تستجلي به كنوزها، وتقوِّم خطابها، وتشحذ هممها لاستئناف مسيرتها الحضارية، ولاستعادة مكانتها لتعود خيرَ أمة أخرجت للناس.
الفصل الأول
التراث اليهودي - المسيحي في أمريكا
تمهيد
في يوم 25/1/2001 أقيم أمام مبنى الكابيتول في واشنطن حفل تنصيب رئيس الجمهورية الأمريكية جورج بوش الابن، وفي اليوم التالي أقيم في الكاتدرائية الوطنية في العاصمة الأمريكية قداس وصلاة بهذه المناسبة. ألقى الموعظة الدينية بهذه المناسبة القس المعمداني فرانكلن غراهام ونُقل الحفل - مثل الحفل في اليوم السابق- على جميع الشبكات التلفزيونية الرئيسية في كل أنحاء أمريكا. والواعظ فرانكلن غراهام هو أبن القس المعمداني الشهير بيلي غراهام ووريث الإمبراطورية المعمدانية المنتظر (ويرد ذكر كلا الرجلين في مواضع عدة في هذا البحث).
إن إقامة قداس واحتفال صلاة في الكاتدرائية الوطنية بمناسبة مثل مناسبة تنصيب رئيس الجمهورية هي أمر ذو دلالة واضحة على دور الدين في الحياة الأمريكية، لكن هذا الحفل بالذات يكتسب أهمية كبيرة هنا لأنه حدث بمناسبة استلام إدارة يمينية سياسياً ودينياً زمام الأمور وبسبب تولي فرانكلن غراهام بالذات إلقاء الموعظة في هذه المناسبة.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو الموعظة التي ألقاها وما تمثله من رموز التراث اليهودي - المسيحي في الحياة العامة في أمريكا:
مقدمة الموعظة تتحدث عن مناسبة تنصيب رئيس الجمهورية، تليها فقرة عن المسيح والكتاب المقدس الذي هو مصدر الحكمة كلها. ثم ينتقل غراهام إلى الحديث عن قصص بني إسرائيل وأنبيائهم والأمثلة والنماذج التي يقدمونها للسلوك الفاضل الخير. يقول غراهام إن الله قدم أمثلة ((عظيمة في العهد القديم خاصة في سيرة الملك داود أعظم ملوك إسرائيل، بل أعظم القادة في تاريخ البشرية)). ويعلن غراهام في هذه الموعظة أن الله ((قد بارك الملك داود وبارك أمة إسرائيل من أجله))، ثم يضيف مخاطباً الأمة الأمريكية: ((وأعتقد أن الله اليوم سوف يبارك رئيس جمهوريتنا ونائبه إذا نحن سلمنا بأمر الله وأطعناه)). ولا ينسى الواعظ المعمداني أن يهيب بالرئيس أن يتأسى بالملك داود لكي تحل عليه بركة الله وعلى أمته كما حلت على إسرائيل من أجل داود. فقد خص الله شعب إسرائيل بالرحمة والبركة في عهد قطعه على نفسه، ولا شك أنه سيخص الأمة الأمريكية كذلك بالبركة والرحمة.
يشبّه غراهام حفل تنصيب الرئيس بوش في اليوم السابق بتنصيب الله للملك داود ملكاً على قبائل إسرائيل في مدينة إبراهيم الخليل. ويقول غراهام إن الملك داود نجح في توحيد قبائل إسرائيل بعودته إلى الإيمان وطاعة الله، فأعطاه الله النصر على أعداء إسرائيل، فأصبحت إسرائيل ((قوة عظمى)).
ولا ينسى غراهام أن يذكر الحضور مراراً بأن أعداء إسرائيل هم أعداء الله، وأن أحباء إسرائيل هم أحباء الله.
ونموذج آخر من السلوك في الحياة العامة في أمريكا يوضح التراث اليهودي - المسيحي في الثقافة الأمريكية جاء على شكل حادثتين مأساويتين في تاريخ برنامج الفضاء الأمريكي. فصلت هاتين الحادثتين فترة ست عشرة سنة وتلت كلتا الحادثتين تصريحات وطقوس تحكي ببلاغة رموزها ودلالاتها - مثلما تحكي موعظة فرانكلن غراهام - التطور المعاصر لهذا التراث اليهودي - المسيحي الذي أصبح المكون الرئيسي للمعتقدات الشائعة خاصة في أوساط اليمين المسيحي.
الحادثة الأولى وقعت في 28/1/1986 حين انفجرت سفينة الفضاء الأمريكية تشالنجر بعيد إقلاعها بثوان قليلة. أصيبت الأمة الأمريكية بصدمة كبيرة، وسارع الرئيس رونالد ريغان إلى توجيه خطاب عبر شاشة التلفزيون يحاول مواساة الشعب والتأكيد على أن الإيمان بالتدبير الإلهي سيكون عوناً على اجتياز المحنة، وقال إن أولئك الرواد ((انفلتوا من قيود الأرض الدنيئة وصعدوا إلى حيث يلامسون وجه الله)).
الحادثة الثانية وقعت بتاريخ 1/2/2003 حين تناثرت أجزاء مكوك الفضاء كولومبيا قبيل هبوطه بدقائق، وفقدت أمريكا ستة رواد فضاء إضافة إلى أول رائد فضاء إسرائيلي كان ضمن طاقم الرحلة. خاطب الرئيس جورج بوش الابن الأمة عبر شاشة التلفزيون بعد الحادثة بقليل واقتبس في خطابه نصاً من سفر إشعياء عن صعود المؤمنين إلى السماء لملاقاة الله، وأضاف بأن الرواد السبعة ((لم يعودوا إلى وطنهم، لكننا نضرع إلى الله أن يكونوا سالمين في مسكنهم)).
في هذين الخطابين اللذين يعبران عن ردة فعل عفوية من زعيمين قوميين يحاولان أن يمسحا دموع الأمة، اختار كل منهما التعبير البياني بشكل استعارة تأخذ دلالاتها من صورة كتابية عن حادثة ((الارتقاء أو الرقي)) التي تأتي مع نهاية الزمان حسب النبوءات المقدسة إعداداً لنزول مملكة الله. المؤمنون، حسب هذه النبوءات، ((يؤخذون إلى المسيح حين يظهر في الغيوم)) - تماماً كما صعد رواد الفضاء- قبل ((المحنة الكبرى)) حيث ينضمون إلى جيش القديسين الذي سيهزم جيوش الشر في معركة مجيدو.
في المناسبات العامة التي يلقي فيها رئيس الجمهورية خطاباً أو كلمة، يكتب هذا الخطاب خبير أو أكثر يعمل مستشاراً في مكتب الرئيس ويتم التشاور مع رئيس الجمهورية حول كل عبارة وكلمة، كما أن الرئيس عادة ما يعدل وينقح الخطاب قبل إلقائه بحيث يكون تعبيراً دقيقاً عن أفكاره ومبادئه ومعتقداته. وفي الحالات الطارئة مثل هاتين الحادثتين، من الممكن أن يكون خطاب الرئيس ردة فعل مباشرة وتكون كلمته تعبيراً مباشراً عفوياً عن أفكاره وأحاسيسه. ومهما يكن من أمر فقد جاءت كلمتا الرئيسين ريغان وبوش - وهما ينتميان إلى اليمين المسيحي- بتعابير رمزية مشتقة من خطاب التراث اليهودي - المسيحي المتطرف والقراءة الحرفية للنبوءات المقدسة.
لكن تتمة أحداث فاجعة المكوك كولومبيا هي أكثر وضوحاً في دلالاتها ورموزها اليهودية - المسيحية.إذا أقيم بعد الحادثة بأيام قليلة حفل لتأبين الرواد السبعة في الهواء الطلق في مدينة هيوستن، وكان برنامج الحفل مليئاً بالرموز والنصوص الصريحة المشتقة من التراث العبري في الثقافة الغربية. بدأ الاحتفال النقيب في سلاح البحرية الحاخام هارولد روبنسون بتلاوة أبيات لشاعر عبري باللغة العبرية ثم ترجمها إلى الإنجليزية. بعد ذلك تلا الحاخام صلاة من العهد الجديد بالإنجليزية وترجمها إلى العبرية. ثم تحدث نقيب آخر من أصدقاء الرواد وعدد مناقب كل منهم. وعندما ذكر قائد الرحلة جوشوا هازبند نوّه بإيمانه العميق، وقال إنه في اجتماع ضم أفراد أسرته وأصدقاءه قبيل الرحلة بساعات كان آخر نشاط له هو تلاوة بعض نصوص الكتاب المقدس التي تروي وعد الله للإسرائيليين بإعطائهم أرض الميعاد.
كانت كلمة الرئيس جورج بوش في هذا الحفل مؤثرة جداً توجه فيها بالعزاء لعائلات الضحايا وأصدقائهم وقال إن الأمة تشاركهم حزنهم. ثم ذكر الرئيس اسم كل واحد من الرواد وامتدح ما اتصفوا به من شجاعة وإيمان. وعندما ذكر الرائد الإسرائيلي أغدق عليه عبارات المحبة والإعجاب لأنه ((بطل وطني شارك في حربين دفاعاً عن وطنه)). كما ذكر الرئيس بوش أن الرائد الإسرائيلي مرَّ أثناء الرحلة فوق وطنه، ((فوق أرض إسرائيل)).
وكان ختام الحفل تلاوة بالعبرية للمزمار رقم 23 من مزامير داود.
مع أن هاتين الحادثتين المعاصرتين تحملان الكثير من الدلالات والرموز العبرية في التراث الثقافي الغربي فهذا لا يعني فقط أنهما تدخلان في التفكير اليومي الواعي للشخص الأمريكي العادي في حياته اليومية. بل إن ما يضاعف من أهمية هذا التراث وقوة تأثيره هو أنه يشكل جزءاً أساسياً من الذاكرة الثقافية التي تخاطبها هذه الرموز والصور الكتابية وتستثير ما يكمن في هذه الذاكرة من معتقدات ومشاعر. وسواء كانت الكلمات الملقاة في هذه المناسبات تعبيراً عفوياً أم معدّة بشكل مقصود فثمة براعة في استعمال الصور والرموز التي تحفز ذاكرة الأمة الثقافية.
هذا النظام الكلامي (أو المنظومة الكلامية) (The Order of words) -كما يصفه الناقد نورثروب فراي - هو جزء من تأثير الأدبيات الكتابية في الثقافة الغربية. والجزء الآخر، النظام السلوكي (The Order of things)، هو التعبير العملي عن هذا التأثير وهو ما نعالجه في أدبيات اليمين المسيحي الأمريكي وتصرفاته. إن ذكر غراهام لإسرائيل في موعظته في سياق قصص الإسرائيليين الكتابية ينسحب بصورة تلقائية في أذهان أبناء هذه الثقافة على إسرائيل الدولة السياسية الحديثة، كما يحدث ذلك فيما يتعلق ((بأحباء إسرائيل)) و ((أعداء إسرائيل)). وسيتضح من دراستنا لليمين المسيحي المتطرف أن هذا الأمر لا يغيب أبداً عن مقاصد أصحاب هذه الأدبيات الحديثة وأهدافهم. كما لا يغيب عنهم ذكر الرئيس المتعمد للتعبير الكتابي ((أرض إسرائيل)) في سياق حديثه عن دولة إسرائيل.
الفصل الأول
التراث اليهودي - المسيحي
و11 أيلول
ظهر تأثير الثقافة اليهودية - المسيحية في العديد من الأنشطة العامة التي شاركت بها قطاعات كثيرة من الأمة الأمريكية، كما رأينا من الأمثلة السابقة. ولكن التعبير عن الأفكار المعتقدات اليهودية - المسيحية لم يقتصر على مناسبات الأحداث الداخلية، بل تعداها إلى العلاقات والسياسة الخارجية. مثلاً، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001 على برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون أقيم في الكاتدرائية الوطنية في واشنطن اجتماع ديني لإحياء ذكرى ضحايا هذه الهجمات الإرهابية. ضم الحشد الموجود في ذلك الاحتفال مجموعة غير عادية من الشخصيات بما في ذلك أعضاء حكومة الرئيس بوش وأعضاء المجلسين التشريعيين وموظفي الحكومة البارزين. كما حضر الرئيسان كارتر وكلينتون ونائب الرئيس السابق آل غور ومحافظ المصرف المركزي. كل هؤلاء اجتمعوا تحت سقف مؤسسة دينية قومية وتم نقل هذا الاحتفال على الهواء مباشرة عبر أمريكا كلها.
تحدث في الحفل إضافة إلى الرئيس بوش وشارك في الطقوس الدينية قس بروتستانتي وحاخام يهودي وكاردينال كاثوليكي ورجل دين مسلم ثم القس المعمداني الشهير بيلي غراهام.
وصف الصحفي المرموق بوب وودوورد هذا الحفل (في آخر كتبه: ((الرئيس بوش في حالة حرب)) (Bush at War, 2002) بأنه نقطة انطلاق نحو الحرب بقدر ما كان احتفالاً دينياً. فقد ظهرت في تصرفات بوش وأقواله المشاعر الدينية العميقة، وقال هو نفسه للصحافي وودوورد فيما بعد: ((نظرت إلى هذه اللحظة من وجهة نظر دينية، وشعرت أنه كان من الضروري للأمة أن تصلي)). وأضاف: ((كانت اللحظة بالنسبة لي لحظة صلاة، الأمة كانت بحاجة لأن تصلي)). (وودوورد، ص 67). لكن هذه المشاعر الدينية العميقة والمخلصة التي عبر الرئيس بوش عنها لم تمنعه (بل يمكن القول إنها هي التي أعطته الحافز) من إعلان الحرب من على منبر ديني قومي.
قال الرئيس مخاطباً ذلك الحشد في الكاتدرائية الوطنية والأمة كلها على شاشة التلفزيون: ((إن مسؤوليتنا تجاه التاريخ أصبحت واضحة جداً: أن نرد على هذه الهجمات ونخلص العالم من الشر)). علق الصحافي وودوورد على ذلك بقوله ((كان الرئيس بذلك يطرح مهمته ومهمة الأمة كلها ضمن الإطار العام لرؤيا خطة الله الكبرى للكون)).
وفي ختام الحفل وقف الجميع وأنشدوا بصوت مفعم بالتصميم الغاضب ((نشيد ترتيلة المعركة للجمهورية)) (The Battle Hymn of the Republic) والذي يبدأ بعبارة:
((لقد رأت عيناي مجيء الرب بجلاله))
.((Mine Eyes Have Seen the Glory of The Coming of the Lord))
وقد علقت على هذا المشهد كوندليسا رايس، مستشارة الأمن القومي، فيما بعد بقولها ((شعرت برهبة الموقف وتصميم جميع من كانوا في الكنيسة)).
((ونشيد المعركة)) هذا يتصل بالتراث اليهودي - المسيحي اتصالاً وثيقاً سواء من حيث بدايته أو اكتمال صيغته. فقد كان اللحن في البداية لحن ترتيلة تتلى في مخيمات الإحياء الديني في القرن التاسع عشر حيث كانت لازمة هذه الترتيلة تقول: ((يا إخوتي هلا لا قيتموني على شواطئ كنعان))!.
ثم تطورت هذه الترتيلة لتصبح أخيراً ((نشيد المعركة للجمهورية)) وكل أبياتها تردد المجيء الثاني للمسيح ((بسوطه الرهيب السريع)) لكي يشن حرباً على قوى الشر ((ويسحق الأفعى بكعبه)). ((نشيد المعركة)) هذا هو من المواد المشتقة من النبوءات المقدسة التي يروج لها تجار آخر الزمان في اليمين المسيحي، وهو أيضاً من أكثر الأغاني المحببة للجمهور الأمريكي يردده في كثير من المناسبات الوطنية والدينية وغيرها.
إن إعلان الحرب على الإرهاب من على منبر الكاتدرائية الوطنية وتلاوة جميع الحضور بصوت حماسي ((نشيد المعركة)) (عيناي قد رأت مجيء الرب بجلاله) في ختام الحفل هما جزء من هذا النظام الكلامي الثقافي. والتصريحات المتكررة التي أطلقتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة والزعماء الروحيون والسياسيون الأمريكيون بأن ((التاريخ)) أو ((القدر)) أو ((السماء)) أو غيرها من التعابير المشحونة ثقافياً قد أوكلت إليهم مهمة إنقاذ البشرية من الشر، ونشر نور الحرية والديمقراطية والكتاب المقدس - هي أيضاً جزء أساسي من هذا النظام الكلامي الثقافي. كل ذلك مشتق من التراث الكتابي اليهودي - المسيحي الذي ينبئ بنهاية الزمان ودور المؤمنين المخلّصين في أحداث هذه النهاية.
وليس هذا بتطور حديث في الفكر الأمريكي، أو الغربي بصورة عامة. بل سيتبين لنا من هذه الدراسة ما قصده ت.س. إليوت (الناقد والكاتب الإنجليزي - الأمريكي) حين قال بأن الغرب استقى ثقافته من ثلاثة مصادر رئيسية هي أثينا وروما وإسرائيل، وما عناه الناقد الأدبي الأمريكي فريدريك كاربنتر حين قال بأن ((الكتاب المقدس هو كتاب المسيحية، والمسيحية هي دين الغرب)).
منذ القرن الأول الميلادي إلى الحروب الصليبية إلى التفكير الذي حفز مغامرات كريستوفر كولومبس إلى استيطان الطهوريين الجزء الشمالي الشرقي من أمريكا الشمالية، كان النظام الكلامي الثقافي ونظام السلوك الثقافي واضحين في أقوال وأعمال الأمم الغربية، وفي التعبير عن الأثر الكتابي في ثقافتها. ثم دخل هذا الأثر في تصور الأمريكيين أنفسهم ((إسرائيل الله الأمريكية)) خاصة في حرب الاستقلال وفي وثائق وأدبيات الدولة الفتية. وأخيراً في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ازداد أثر هذا التراث الكتابي اليهودي - المسيحي وظهر في الحركات الدينية المتطرفة وتوقعات آخر الزمان وما زال مستمراً حتى الآن.
مسيرة هذا التراث في أمريكا ستكون موضوع هذا الباب. ومع تجنب الخوض في الأمور السياسية البحتة، سيكون من الأهمية بمكان التركيز على التطور الحديث للفكر الديني في الولايات المتحدة الأمريكية، وتأثير هذا الفكر على السياسة الأمريكية الخارجية وبصورة خاصة الموقف الأمريكي من الوضع في المنطقة العربية بما في ذلك الموقف الرسمي، وموقف الأطراف الدينية والسياسية والاجتماعية من الصراع على فلسطين.
……
……
النبوءات التي أثارت (حمى الألفية)
- جمع شتات اليهود في أرض الميعاد وإعادة تأسيس إسرائيل.
- إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
- ارتقاء المؤمنين لملاقاة المسيح في الغيوم.
- المحنة الكبرى: سبع سنوات من المآسي تعم الأرض على يد المسيح الدجال.
- معركة مجيدو (هارمجيدون): تقع قرب حيفا.
- ألف عام يحكم فيها المسيح الأرض.
تلك هي النبوءات التي أثارت (حمّى الألفيّة) على رأس كل ألفِ عام ميلادية.
وفي ضوئها حدد الخراصون آلاف المواعيد لانتهاء الزمان.. تحداها الزمان ولم يعبأ بأي منها.
وحدد لنا موقع (آخر الزمان قريباً Apocalypse soon) شهر أيار من عام 2004 موعداً للبدء ببناء الهيكل والشهر ذاته من عام 2007 للانتهاء من بنائه، وبين البدء والختام ستكون دمشق قد دمرت وأصبحت ركاماً.
ونسجت الإدارة الأميركية من هذه النبوءات خطة للدهر بنت عليها خططها وأحلامها الإمبراطورية، ونسبتها إلى الله لتسوّغ بها سائر اختراقاتها لحقوق الإنسان وقيمه.
فهل ستذعن الإنسانية لهذه النبوءات كقدر محتوم؟! أم ستكلها إلى قوانين التاريخ الصارمة التي يواصل الإنسان فيها سيره في طريق التقدم والارتقاء، وسعيه للتخلص من الفساد وسفك الدماء، غير مكترث بنبوءات الخراصين.
من أجل صهيون
التراث اليهودي المسيحي في الثقافة الأمريكية
تأليف: فؤاد شعبان
يتناول هذا الكتاب التراث اليهودي - المسيحي في الثقافة الأمريكية، ويستعرض تطوره، ويضعه في مركز (رؤيا صهيون) الأمريكية باستغراق أمريكة بصورتها الذاتية كمدينة على الجبل أو القدس الجديدة، ويوضح مسيرة هذا المفهوم الذاتي الأمريكي في المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والأدبية، وتأثيره على السياسة الأمريكية تجاه العالم العربي والإسلامي.
ويحلل الكتاب منطقياً مصادر الفكر الأمريكي وعلاقات بعضها ببعض، وجذور الاستشراق الأمريكي وتطوره، ويجعل الثقافة الشرقية والتراث العربي والإسلامي أكثر وضوحاً للغربيين، ويحلل أوجهاً عديدة للحياة الأمريكية، ويلقي الضوء على تطورات سياسة أمريكة الراهنة المعادية للعرب والمسلمين إزاء الصراع العربي الإسرائيلي.
ويتحدث الكتاب عن كولمبس والأراضي المقدسة، والأرضية التاريخية للتراث اليهودي المسيحي، والجدال حول تهويد المسيحية الغربية التي من أجل صهيون لمن تلزم الصمت، ومن أجل احتلال القدس لن تخلد إلى الراحة، وتأثير معتقدات الحجاج الطهوريين في الفكر الأمريكي الديني والدنيوي والتاريخي، وبالشعار الوطني الأمريكي، ويتحدث عن نجمة الشرق ونجمة الغرب، وعن العبيد في أمريكة وأسطورة أرض الميعاد، وعن الدين في أمريكة، ودوره في الحياة السياسية، وتوقعات آخر الزمان.
ويلحق بالكتاب شرح لبعض التعابير المستعملة، وذكر للنبوءات والكتاب المقدس، والسرد التاريخي للألفية والنبوءات.