1- تمهيد
المقصود بالدلالة المحورية لجذر ما، هو المعنى الذي يتحقق تحققاً علمياً في كل الاستعمالات المصوغة من هذا الجذر.
فقولنا - مثلاً - إن الدلالة المحورية للجذر ((صلت)) هي: ((تجرُّد الشيء مما يعروه)) يعني أنَّ هذا المعنى يتحقق في كل استعمالات هذا الجذر، فمن ذلك قولهم:
- أصْلَتَ سيفَه: جرَّده من غِمْده (وهذا صريح).
- ورجلٌ صَلْتُ الجبين: واضحُه (جبينه مجرَّد من الشعر الذي يكسو ما حوله).
- والصَّلَتانُ: الحمار المنجرد القصير الشعر (قِصَرُ شعرِه يُبديه كأنه مجرَّد بالنسبة إلى طويل الشعر).
- وجاء بمرَقٍ يَصْلِتُ: إذا كان قليلَ الدَّسَم، كثيرَ الماء (مجرَّدٌ من قِشْرة الدَّسَم التي تعلو المَرَقَ الدَّسِم).
- وانصَلَتَ في سيره: مَضَى وسبق. (سَبْقُه يخلِّصه من بين ما حوله فيصيح وحدَه كأنه تجرَّدَ مما كان يحيط به).
- وقولنا: إن الدلالة المحورية للجذر (حزم) هي: ((شَدُّ الشيء وجمعُه))، يعني - كذلك - تحقُّق هذا المعنى في كل استعمالات هذا الجذر، وذلك مثل قولهم:
- حَزَم الشيء: إذا شدَّه (أي: أحاطه برباط وعَقَدَه).
- حُزْمة الحَطَبِ (عيدانه المربوطة معاً ربطاً محكماً).
- حِزام السَّرْج والرَّحْل (الحبلُ الذي يربِطهما بظهر الدابة رَبْطاً محكماً).
- الحَزْمُ، وهو ما غلُظ من الأرض وارتفع (الأرض الغليظة تكون شديدة التماسك بعضها ببعض، صُلْبة، وهذا اشتداد وتجمُّع).
- الحَزْمُ، وهو ضبط الإنسان أمرَه، والأخذُ فيه بالثقة. (هذا اشتداد معنوي محمول على الحسّي).
ومن الواضح، بعد، أن هذا المعنى المحوري، يتميز بما يلي:
1 - أنه تجريديّ، بمعنى أنه يُسْتخلَص مِنْ كل استعمالات الجذر - أو من أكثرها - استخلاصاً ينهض على لَمْح صور هذا المعنى في تلك الاستعمالات.
2 - أنه من صُنع اللغويّ، أو الباحث، بمعنى أنه بصورته المحورية قد لا يكون مصرّحاً به في المعاجم اللغوية التي تُفسر المفردات.
3 - أن هذا المعنى قد يتحقَّق في بعض الاستعمالات بصورة صريحة مباشرة، وقد يتحقق في بعضها الآخر بصورة تحتاج إلى تأويل بدرجات مختلفة.
فمعنى ((تجرُّد الشيء مما يعرُوه)) - وهو الدلالة المحورية لـ (صلت) - يتحقق بصورة صريحة مباشرة في قول العرب: ((أصْلَتَ السيفَ)) إذا جرَّده من غِمْده، وقولهم: ((الصَّلَتان)) للحمار المنجرد من الشعر، وقولهم: ((جاء بمرَقٍ يَصْلِت)) إذا تجرَّد مما يعلوه من الدَّسَم؛ فَظَهَرَ.
وأما قولهم: ((انْصَلَتَ الرجل)) إذا مضى وسبق، فيحتاج تأويلاً وبسطاً في القول، إذ إن السابق كأنه قد نفذ مِنْ بين من كانوا يحيطون به ويَغشوْنه كالغطاء، فصار - بِسَبْقه لهم - مجرَّداً عنهم، ومن غشيانهم إياه.
ومن صور هذه التأويلات: الربطُ بين الاستعمالات ذات المعاني الحسية، والأخرى ذات المعاني المجردة، بحيث تُحمَل الثانية على الأولى، وذلك مثل حَمْل ((الحَزْم)) بمعنى ضَبْط الإنسان أمرَه - وهذا معنى مجرَّد - على ((الحَزْم)) بمعنى شدَّ الشيء (كعيدان الحطب) شدّاً محكَماً: فينضبط، ولا يتسيَّب.
هذه دراسة لفكرة ((مهمّة)) في ((أهمّ)) مراجعها.
فأما الفكرة، فهي ((الدلالة المحورية للجذر اللغوي))، أي: الدلالة التي تدور حولها كل استعمالاته. وأما ((أهمّ)) مراجعها، فهو معجم ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (ت 395هـ)؛ وهو المعجم الوحيد في تراثنا المعجميّ الذي ينهض مُخلَصاً على معالجة هذه الفكرة في تناوله للجذور الثلاثية.
وقد جذّرت الدراسة لفكرة ((الدلالة المحورية) في الفكر اللغوي العربي السابق لابن فارس، ثم عرضت عَرْضاً تحليلياً ناقداً - ترفده أمثلة ضافية - لمعالم جهد ابن فارس في معالجة هذه الفكرة؛ من حيث: المصطلحات المعبرة عنها، وخصائص صياغتها، وتراوحها بين الأحادية والتعدد، ومجالات توظيف ابن فارس لها، وما استبعده من الاستعمالات لدى استنباطها، وموقفه مما بدا من الاستعمالات غريباً عنها...
وخُتمت الدراسة بتقرير الحاجة إلى اصطناع معجم اشتقاقي جديد للعربية، يُفيد من جهد ابن فارس - ومن سار على جديلته - ويتنكَّب ثغرات هذا الجهد الرائد. وقد عيَّنت الدراسة بعض الشروط الأساسية التي يلزم أن يفي بها هذا المعجم المنشود.
يتناول الدلالة المحورية: تعريفها ودلالاتها في الفكر اللغوي العربي السابق لابن فارس والمعاصر له، وفي الاشتقاق الصغير عند ابن جني، وتعريفها وأنواع المعنى الأخرى ، والمنهج العام لعرضها في المقاييس والمصطلحات المعبرة عنها فيه، ومصادر تعيين ابن فارس لها في معجمه وما استبعده من الاستعمالات عند استنباطها، وصياغته لها بين الأحادية والتعدد، وموقفه مما بدا غريباً عن تعيناته ، وتوظيفه لها، والجذور التي ليس لها دلالة محورية، وأصداء عمل ابن فارس في المعاجم اللاحقة، والحاجة إلى معجم اشتقاقي جديد.