البوح
تعتريني رغبة عارمة في البوح.. أريد أن أقول لهم رأيي بصراحة.. أريد أن أكون شجاعاً مرة واحدة في حياتي، ثم ليكن ما يكون..
أحس أني أوشك أن أختنق بما يتجمع في حلقي من كلام.. لا بدَّ أن يخرج هذا الكلام.. كلُّه أو بعضه على الأقل، حتى أستطيع أن أتنفس تنفُّساً سليماً لا يمازجه الصديد..
* * *
ما وقفتُ أمامه مرة في عمري إلا موقف استخذاء وخوف، وما ظهر مني أمامه إلاّ وجهي الآخر:
- أنت خير من تولى هذا المنصب يا سيدي..
- أنت يا سيدي كفاءة نادرة..
- أنت رمز الأمانة والنـزاهة..
- لا يستطيع أحد غيرك في الدنيا أن يسيِّر هذه الدائرة..
إن النفاق يسري في دمي.. أتطوَّع به تطوُّعاً إن لم أكن محمولاً عليه.. أصبحت أتغذى به.. إنه يتسلق كل جدران نفسي.. أتنفسه مع الشهيق، وأخرجه مع الزفير..
يصيح الرجل المهيب في أعماقي:
- أما تخجل؟ ويحك!..
أقول له مستحضراً حجَّتي الأبدية التي أظنها لا تُدحض:
- إنْ أنا يا مولانا إلا واحد من هذه الجمهرة الغفيرة التي من حوله.. بل أنا - على إدماني المرضي - أقل زملائي دجلاً.. إنَّ كل ما حولي عابق برائحة التملُّق و (مسح الجوخ).. إن عدوى البيئة تسري إليَّ.. أنا لا أعيش وحدي في كوكب آخر.. أأستطيع وحدي أن أكون بطلاً في أمة من الجبناء والعجزة؟ من الذي سيسقيني لبن البطولة؟ أنا معذور يا مولاي.. المرء ابن دهره..
تلك كانت حجَّتي كلما حاول الرجل المهيب الذي في أعماقي أن يدغدغ عواطفي.. وأن يضيء فيَّ شمعة رجولة، أو بصيص شهامة.
كان يتحدَّاني بلهجته الوقور المستفِزَّة:
- هل تستطيع أن تكون رجلاً مرة واحدة في عمرك؟ هل تستطيع يوماً أن تخرج نفساً سليماً لا يمازجه القيح والصَّديد؟.. أنا أتحدّاك.. أجل أتحدّاك.. وأنت لن تقبل المناجزة.. أنت أتفه من نملة، وأذلّ من صرصار.. أنت تبيع كل يوم مرات ومرات شرفك وكرامتك.. يقشعر بدني، يسري فيَّ روع بارد، تتساقط حجتي. أحسُّ أنِّي أتعَّرى أمام الخلق جميعاً حتى من ورقة توت.. أنطمر في فراشي، أتدثَّر بسرعة، أدفن رأسي في وسادتي.. أخبط دماغي عدة خبطات حتى أفرغه مما قد يكون تسلل إليه خفية من أفكار الرجل المهيب التي تقود إلى الجحيم..
ولكن أفكاره تلح عليَّ.. تذود الكرى.. آخذ حبَّة منوِّم فأشعر أني غططت في نوم عميق.. وعلا شخيري..
* * *
شعرت بنشاط عجيب في الصباح.. تدافع الكلام إلى حلقي.. حدقت فيها بعينين جريئتين.. نظرَتْ إليَّ باستغراب:
- ما بالك تحدق فيَّ هكذا؟..
تدافع الكلام مثل سيل عتي، ولكنه عندما بلغ طرف اللسان انحبس..
- يا امرأة.. حتى أمامك لا أستطيع أن أكون رجلاً.. أمارس معك لعبة النفاق المفضَّلة.. لا أجرؤ أن أقول إني لم أحبك في يوم من الأيام.. كنت أعاشرك على مضض، وأنجب منك على مضض.. حياتي معك كانت جحيماً، وكان ينبغي أن أتظاهر بغير ذلك.. كم خنقت العبارات التي تريد أن تقفز إلى شفتي..
ماذا يحصل لو جربت معك الصراحة مرة واحدة؟ ما ألذ أن أتخدَّر فأسترخي.. أو أنوَّم تنويماً مغناطيسياً حتى تنطلق مكنونات اللا شعور..
تمنى ذلك مراراً.. ولكن أخيلة كالكوابيس، وصوراً قبيحة الوجه كأنها العفاريت في ليل أربد.. كانت توقظه من استرخائه، فينتفض كمن لسعته الأفاعي..
ستترك له البيت.. وقد تأخذ الأولاد معها.. أو ترميهم في وجهه.. ستقوم الدنيا في وجهه وتقعد.. أبوها صاحب النفوذ.. سينقلب الجميع عليه.. أولاده سيصبحون أعداء له.. لن يفهموه.. ولن يقدِّروا موقفه أبداً.. رضعوا منها كل شيء.. أرتهم كل شيء كما تراه..
ظلَّ يحدِّق فيها كالأبله.. ولكن شفتيه ظلتا مزمومتين بقوة..
* * *
خرج إلى عمله.. مارس مع رئيسه في الدائرة لعبة التملُّق المعهودة.. كال له الثناء وعبارات الإطراء.. أنـزله من السماء.. جعله فريد عصره، وسلطان زمانه..
أخبرهم المدير أن لجنة للتقويم ستزور الدائرة اليوم، وستسأل الموظفين بعض الأسئلة.. عرف كالجميع المطلوب.. لم يتحدَّث عن رشوة ولا فساد.. ولم يشر إلى (محسوبيات) أو حسابات مزوَّرة، أو علاقات مشبوهة.. أو.. أو..
قال متطوعاً من غير أن يسأل:
- كل شيء على ما يرام.. دائرتنا مثال النـزاهة والشرف.. ومديرنا من أنظف الرجال وأكفئهم..
في اليوم التالي وجد اسمه مدرجاً في قائمة مجموعة من الموظفين لتصرف لهم مكافآت تشجيعية لأنهم (بيَّضوا وجه) الدائرة، ووجه المدير أمام لجنة التقويم..
* * *
رجع إلى البيت متأخراً.. لم يدرِ لِمَ تبعث المكافأة السَّخية التي نالها في نفسه السَّعادة المطلوبة.. كان يحسُّ بتعب شديد.. استلقى على سريره محاولاً الاستغراق في النوم.. ولكن الأفكار كانت تؤود ضميره.. اقتحمه الرجل المهيب الذي لم يعد يغادره في الأيام الأخيرة.. راح ينبض فيه.. يسري في دمائه.. يتلبسه من قمة رأسه إلى أخمص قدمه.. إنه يشعر أنه مسكون به.. دفن رأسه في الوسادة ليهرب من ملاحقته..
عندما صحا كان الوقت متأخراً.. كانت مستلقية على الأريكة في الصالة تتفرَّج على التلفاز.. والبيت - كالعادة - قائم قاعد.. الفوضى في كل مكان.. أحسَّ أنه قوي، وأنه يود أن يصرخ فيها.. أن يملأ الدنيا زعيقاً.. ولكنه تذكر أن ذلك لن يجدي.. لطالما زعق حتى ارتفع ضغط دمه.. لكن لا فائدة..
يشعر أنه على وشك أن يؤتى شجاعة لم يؤتها من قبل.. ينبغي أن يفعل ما ينبغي أن يُفعل.. أن يقول لها ما ينبغي أن يُقال..
لقد كان دائماً محروماً من البوح.. في بيته وفي عمله.. إنه يعيش حالة من التمزق النفسي.. من انفصام الشخصية.. إنه ذو الوجهين.. يقول دائماً بلسانه ما ليس في قلبه.. إن البوح بما في الأعماق يكلِّفه غالياً.. غالياً جداً.. وهو - كما ينبض الرجل المهيب في داخله - يحتاج إلى رجل.. وأنت لست رجلاً..
إن رأسه يكاد ينفجر.. إنه يختنق تحت ضغط المكبوت في أعماقه.. والمحتبس في حلقه.. إنه معرَّض للموت إن لم يبح.. حالته أصعب من كل ما يمكن أن يواجهه لو مارس البوح..
هدد الرجل المهيب في أعماقه على نحو لم يعهده:
- كن رجلاً.. ليسجِّل التاريخ أنك كنت جريئاً.. صاحب موقف مرة واحدة في حياتك..
انفجرت القنبلة.. نسفت كل شيء.. التفت إليها كثور هائج:
- إني أكرهك..
- لم أحبَّك يوماً..
- أنت طالـ... ارجعي من حيث جئتِ.. إن حياتي معك لم تعد تطاق.. حاولت إصلاحك كثيراً.. علمتك كثيراً.. ولكن ذلك كله ذهب أدراج الرياح.. الأولاد لهم الله، كلٌّ منا له الله.. أبوك ليفعل ما يشاء.. اخرجي من حياتي حتى أستريح..
انفجرت بالبكاء والصراخ.. راحت تحطم كل شيء.. نادت الأولاد.. رفعت سماعة الهاتف وراحت تتصل.. ولكنه لم يعبأ.. صفع الباب خلفه، وخرج مسرعاً.. تحركه شجاعة يخشى أن تنفد قبل أن ينتهي من البوح.
دخلتُ على رئيسي في العمل من غير استئذان.. كنت أملك قوة الرجال جميعاً.. صرخت في وجهه من غير استتار:
- أنت وغدٌ مرتشٍ..
- لقد حوَّلت المؤسسة إلى قطاع خاص بك.. ملأتها فساداً وعهراً.. اشتريت جميع الضمائر والنفوس..
- أنت غير أهل لهذا المركز الذي أنت فيه.. وصلته في غفلة عن عين الزمان.. وصلته بالوساطة والرشوة.. وتملُّق الكبراء كما نتملقك نحن الصغار.. لن أسكت على فسادك بعد اليوم.. سأرفع الأمر إلى من هو أكبر منك.. و.. و..
بهت رئيسي.. اصفر لونه.. هرب الدم من عروقه.. غاص في كرسيه الضخم، وهو ينظر إليَّ مذهولاً.. لم يستطع أن ينبس ببنت شفة لمدة لحظات.. أخرسَتْ المفاجأة لسانه.. ولكن يده امتدت إلى زر أمامه.. ضغطه.. دخل مرافقه الضخم.. صاح به:
- أخرِجْ هذا المعتوه خارج الغرفة.. وأخبره ألا يعود إلى هذه المؤسسة حتى يُستدعى إلى مجلس التأديب..
خرجت إلى الهواء الطلق.. أحسست براحة عظمى.. أحسست أنني أتنفس هواءً عليلاً لا صديد فيه لأول مرة في حياتي:
صاح في أعماقي الرجل المهيب مزهواً:
- أحسنت.. بارك الله فيك.. أنت الآن رجل.. أنت إنسان شهم.. سيكلِّفك ذلك غالياً.. ستدفع ثمن هذا البوح.. ولكن حسبك أنك انتصرت في النهاية..
لم يشعر إلا وكفُّها تهزُّه:
- قم يا رجل.. اصحُ.. تأخر الوقت.. ما بالك تهلوس كالمجانين..
دبي: 20/ 5/ 1999 م
مجموعة قصصية بعنوان البوح، وفيها: الزميلان، الكابوس، امرأة أخرى، الانتظار، حافظة النقود، الشاعرة والمسابقة، وقصص أخرى.