رابعاً- أيهما الأجدر بالمكافحة الظلم أم الإرهاب؟!
الإرهاب أم الظلم؛ أيهما أجدر بالمكافحة؟!
للظلم وجه واحد كالح لا تنفع معه محاولات التجميل، ولون واحد أسود حالك لا سبيل لتنصيعه، وتعريف واحد متفق عليه في اللغة والاصطلاح، هو حرمان الإنسان من ممارسة حقه أو بعض حقه، بالإكراه أو الاغتصاب أو وضع اليد، فإذا أضيفت إليه تاء التأنيث أصبح معناه ذهاب نور الشيء ليحل مكانه الظلمة والظلام، فيقال ظلام الليل، وظلام الغابة، وظلام السجن، ويبقى المعنى واحداً في الحالين:
فإنما الظلم ظلمات، كما وصفه نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لذلك كله يمتنع عن القبول أو التسويغ تحت أية ذريعة…
أما الإرهاب فإنه حمّال أوجه ومتعدد المفاهيم، لم يتفق له على معنى محدد، أو تعريف جامع مانع بعد. فلئن كان المعنى اللغوي للإرهاب الإخافة والإفزاع، فإن هذه الإخافة ربما كان لها ما يسوّغها لدفع ظلم أو منع عدوان أو ردع تآمر أو عقاب جريمة ، أو استرداد حق، أو استعادة وطن مستلب… بل إن الإرهاب بهذه المسوغات، يرتقي إلى مرتبة الواجب الذي تفرضه الشرائع والقوانين، ليكون فرض كفاية تقوم به الدول عن طريق جيوشها النظامية ويسمى الحرب، أو فرض عين ينهض به الأفراد بواسطة منظماتهم الشعبية ، عندما تعجز الدولة أو تتقاعس عن أدائه، ويسمى حينئذ المقاومة.
وعلى الرغم من كون التفاوض والحوار والتعاون الأصل في فض المنازعات، وكون العنف استثناءً لا يسوغه غير الإخفاق في حل المشكلات بالطرق السلمية ، فإن الإرهاب الذي يمارس، حرباً نظامية كان أو مقاومة شعبية، يكون محموداً يجب تأديته إذا التزم بشروطه وضوابطه وآدابه، فمن شروطه أن يكون عادلاً يناضل لرفع ظلم واسترداد حق،ومن ضوابطه أن يكون محدوداً في الزمان والمكان بالحدود التي وقع فيها العدوان ، ومن آدابه أن يحافظ على أراوح المدنيين وأمنهم وممتلكاتهم، فالضرورات تقدر بقدرها، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
فإن لم تكن للإرهاب، حرباً كان أو مقاومة، قضية عادلة، أو تجاوز حدوده، أو أصاب أناساً لا ذنب لهم، كان إرهاباً مذموماً وجبت مكافحته.
ومكافحة الإرهاب المنفلت المذموم الذي هو أحد أنواع الإرهاب، تندرج على كل حال ضمن مكافحة الظلم، الذي هو بطبيعته مذموم كله، ليس له أي وجه حميد يسوغ ارتكابه، بينما ينقسم الإرهاب إلى حميد يجب تأييده وخبيث يجب استئصاله، وبينهما درجات قد تتشابه في نظر بعض الناس فيلتبس عليهم الأمر، ويقعون في الشبهات، ويوجهون نقمتهم على الإرهاب إلى غير مواضعها.
من هنا نجد أن التحالف بين الأمم المحبة للسلام والراغبة في توفير الأمن للإنسانية، يجب أن يتوجه إلى مكافحة الظلم الذي هو شر كله، بدلاً من أن يتوجه إلى مكافحة الإرهاب الذي قد يكون منه إرهاب عادل مشروع تشجعه الأمم المتحالفة لمكافحة الظلم، وإرهاب ظالم سيكافحه التحالف لأنه جوهر موضوعه.
فإذا توجهت جهود الأمم المحبة للسلام إلى مكافحة الظلم، وتركزت أحلافها عليه، كان ذلك مدعاة لكسب قلوب جميع الشعوب، مهما تعددت معتقداتها ودياناتها، فلا يوجد معتقد ولا دين يؤيد الظلم أو يقف في صفه وإلى جانبه...
والظلم مفهومه واضح، لا لبس فيه ولا غموض، يدركه الإنسان بفطرته، بينما الإرهاب، لا تزال مفاهيمه غامضة، ودوافعه متعددة، يسمح تحالف الناس على مكافحته بسوقهم إلى حرب مدمّرة يخوضونها باسمه، ثم سرعان ما يكتشفون أنهم خدعوا بشعارات براقة تخفي وراءها تحقيق مصالح خاصة تنطلق من رغبة بالاستئثار والتسلط، ويشعرون بمرارة استخدامهم لتحقيق مآرب أخرى غير معلنة؛مرارة تدفعهم للانسحاب، إن لم تثر بينهم العداوة والبغضاء، والنـزاعات على اقتسام الغنائم…
إن التحالف على مكافحة الإرهاب، بمفاهيمه الغامضة غير المحددة، تحالف تقوده المصالح الخاصة التي تنظم قوائم الإرهاب، وتضع عليها كل ما تغريها به أهواؤها ودوافعها الأنانية، فتسلط الضوء على إرهاب مسوَّغ مشروع، وتعمى عن إرهاب ظالم مدفوع، بحسب توافق المصالح أو تعارضها.
أما التحالف على مكافحة الظلم، بما يتسم به مفهوم الظلم من الدقة والوضوح، فإنه تحالف تقوده القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة، والقيم لا تعبأ بالمصالح الخاصة ، ولا تفرق بين الأعراق والأجناس والديانات، ولا تحابي مقرباً أو محبباً أو معظماً، فالحق عندها أحق أن يتبع.
هكذا نجد محمداً رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ينادي في الناس ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) [متفق عليه، من حديث عائشة] ويضع الجميع أمام القضاء على حد سواء.
ونجد القرآن العظيم يأمر المسلمين أن يعدلوا {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة 5/8].
وقبل الإسلام انعقد في دار عبد الله بن جُدعان بمكة اجتماع حضره فضلاء قريش، تعاهدوا فيه على ((ألا يدَعوا ببطن مكة مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه على ظالمه حتى ترد إليه مظلمته)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته: ((حضرت مع أعمامي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حُمْرَ النَّعَم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)) [السنن الكبرى 6/120].
ودعي هذا الحلف القرشي بـ (حلف الفضول)، انعقد في أواخر القرن السادس للميلاد.
ترى أين يقع تحالف اليوم ضد الأفغان من هذا الحلف المجيد ضد الظلم؟
أكان فضلاء قريش في مكة قبل خمسة عشر قرناً، أكثر وعياً وإدراكاً لعمق المشكلات من زعماء اليوم؟!
فأين الدروس التي تلقتها الإنسانية من تجاربها المريرة عبر القرون؟
هل نكصتها التكنولوجيا المتقدمة على أعقابها فانتكست؛ منبهرة ببريقها وزخرفها، معتزة بقوتها، مزهوة بزينتها، مستغنية بعلومها عن قيم الخير والعدالة التي جاءها بها الأنبياء؟!
هل اشتاقت أوربة إلى الحروب التي هجرتها فيما بينها بعد حربين عالميتين مدمرتين، فعمدت إلى ممارسة هوايتها الشريرة على الشعوب المستضعفة؟
هل عثرت أميركا في المظلومين المقهورين على العدو المفترض تفرغ فيه عدوانها وقدراتها التدميرية، بعد أن أجهزت على عدوها السابق الاتحاد السوفييتـي، وارتاحت من حربها الباردة معه؟!
وإلا فما معنى التحالف لمكافحة الإرهاب، إذا كانت هذه المكافحة تعني قتل آلاف المستضعفين الآمنين، وتشريد الملايين، وإيقاد نار الفتن، وزرع البؤس واليأس والإحباط في النفوس، لإنتاج المزيد من الإرهاب؟
وما معنى التحالف لمكافحة الإرهاب، إذا كانت تهمة الإرهاب تُوجه للطفل الفلسطيني يواجه الدبابة الإسرائيلية بالحجر تعبيراً عن وجوده، ويجود بنفسه فداءً لأمته ووطنه،ويُسكت عنه عندما يمارسه الإسرائيلي:اغتصاباً للأرض وهدماً للمنازل واقتلاعاً للأشجار واغتيالاً للرجال وقتلاً للنساء والأطفال؟!
ما معنى أن يطلب مكافحو الإرهاب من المظلوم أن يلزم الهدوء ويكف عن البكاء، ولا يطلبوا من الظالم أن يتوقف عن ظلمه ولو على سبيل التلطف والرجاء؟!
ما معنى أن يُدان مقتل أطفال إسرائيليين في الزحام، ويُسكتَ عن قتل سبقه لأطفال فلسطينيين في طريقهم إلى مدرستهم؟!
وأن يُدان رد الفعل الفلسطيني الدفاعي مهما كان عنيفاً ويُلتزم الصمتُ إزاء الفعل الإسرائيلي العدواني الذي يسبقه اغتيالاً وتقتيلاً يومياً، بل يشجَّعُ ويُصفق له إخضاعاً لشعب يدافع عن أرضه وعرضه ووجوده وحقه في تقرير مصيره؟!
فهل يتشرعن الإرهاب إذا تمكن؟!
أي هل يصبح الإرهاب شرعياً إذا تمكن بالقتل والإبادة والطرد والتشريد والنهب من تكوين دولة وتشكيل حكومة إرهاب؟!
ومن ذا الذي يمكن أن يضع يده في يده إلا من كان على شاكلته؟!
أو ليس الذي يظاهر الظالم على ظلمه، ويأخذ بيده بدلاً من أن يأخذ على يده، وينصره بدل أن يزجره... ألا يكون ظالماً مثله؟!
هل يكون المظلوم مخطئاً إذا فكر على هذا النحو، ووضَع الظالم ومن ينصره ويشد على يده ويسكت على ظلمه، في سلة واحدة؟!
هل أدركنا الآن أن الأجدر بالعالم المتمدن أن يتحالف لمكافحة الظلم لكي يختفي الإرهاب وتموت جذوره، وأن الإرهاب سيبقى مادام يمارَس بحرية وتأييد، وأن مكافحته على السطح تغذي جذوره في الأعماق؟!
فلم لا ينخرط العالم المتمدن في حلف الفضول، وينضم إلى الثلة من فضلاء مكة المجتمعين في دار عبد الله بن جُدعان، بعد أن يُعَوْلموا صيغة التحالف لتصبح:
((ألاّ يَدَعوا في العالم كله من سائر الناس والأجناس مظلوماً إلا كانوا معه على ظالمه حتى تردَّ إليه مظلمته))؟!
إن باب عبد الله بن جُدعان ما يزال مفتوحاً ودعوته إلى حلف الفضول ما زالت قائمة… وحاجة العالم إليها اليوم أكثر إلحاحاً لحل مشكلة الإرهاب من جذورها..
هذه الصفحات تمثل مجموعة مقالات، تتعلق بالأحداث والمفاجآت المتتابعة التي تمخضت عن أعمال العنف يوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) بتفجيرات برجي مركز التجارة العاليم في نيويورك والبنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) في واشنطن كتبها المؤلف في التواريخ المبينة مع كل مقالة، وأدرجها مع ترجمتها للإنجليزية في موقع دار الفكر على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت).. تعبر عن تساؤلات مهمة، وتبحث في جذور ما خلف هذه الأحداث، وتشير إلى موقف الإسلام وتبينه في ظروف اختلطت فيها الحقائق بسوء الفهم. إنها تحتاج إلى وقفة تأمل من مفكري العالم الذين تناولوا الأحداث بالتعليقات المختلفة، لعلها تنفع في التبصر.
إلى أين تسير هذه الأحداث؟! ما النهاية التي ستنتهي إليها؟! هل تجد من يكبح جماحها؟! وكيف سيكون ذلك؟!
مجموعة مقالات تتعلق بالأحداث والمفاجآت المتتابعة، التي تمخضت عن أحداث الحادي عشر من أيلول، تعبر عن تساؤلات مهمة، وتبحث في جذور ما خلف هذه الأحداث، وتشير إلى موقف الإسلام، وتدعو إلى وقفة تأمل.