تقديم
الحمد لله منزل الكتاب هازم الأحزاب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي العربي الهاشمي، الذي أدى الرسالة، وبلَّغ الأمانة، ونصح الأُمة، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وبعد:
فلقد نظم الإسلام علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بنفسه، وعلاقته بربه، وعلاقته بمجتمعه، ولكل علاقة هدفها، والهدف من علاقة الإنسان بنفسه ترويضها وتقويمها حتى أوج الكمال النفسي والخلقي، والهدف من علاقة الإنسان بربه تنمية هذه العلاقة، وتقوية غرسة الإيمان، وحسن التوكل على الله، والاستعانة به، واستمداد كل أنواع الخير منه، والاعتماد عليه وحده في توقي أنواع الشرور، والتخلص من الآفات والملمِّات. وتكون التقوى (وهي إطاعة الله في كل ما أمر به أو نهى عنه) سبيلاً لإصلاح هذه العلاقة وبقائها طيبة مباركة، ودافعة لكل عمل صالح دنيوي وأخروي. والهدف من تنظيم علاقة الإنسان بمجتمعه: إيجاد المجتمع الفاضل والفرد الصالح، وإسعاد الجميع، وإصلاح أنماط العلاقة الاجتماعية على أساس من العدل والتوازن، والرحمة والتعاون، والقوة والصلابة لمقاومة الأعداء، وحماية الأمة من ألوان التدخل الأجنبـي.
ولا بد لكلٍّ في نوعي العلاقة الأولى والثالثة من الاعتماد على الله تعالى سواء بطلب المدد والعون الإلهي، أو رقابة الله في السر والعلن، ليظل الإنسان متنبّهاً للمخاطر، مقبلاً على الحسنات، متردداً بين الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله فينزجر، والرجاء والطمع في سعة فضل الله ورحمته، فيقبل من ذاته على الطاعة والعمل الصالح، لأن كل ما فيه نفع خاص أو عام فيه حق لله تعالى، والواجب تحقيق العبودية التامة لله سبحانه في كل شيء.
ومظلة كل نوع من أنواع العلاقات الثلاث تتمثل بالخلق الكريم والأدب الرصين. ولقد قسمت الكلام في (خلق المسلم) جزأين:
الأول - في علاقــة الإنسان بربــه، والثاني - علاقـــة الإنسان بمجتمعه. وقد ذكرت في الجزء الأول (188 موضوعاً) تصلح عُدَّة صلبة لتحسين موضوعات الجزء الثاني، وبناء الفرد والجماعة على نحو شامل ومتوازن، ثابت ومتطور، روحيّ ومادي، واقعي ومثالي، يواكب الفطرة النقية، ويحفظ بهاء الإيمان ونضرة النعيم.
إن موضوعات الجزأين كلها نفحات ربانية قدسية، وتوجيهات كريمة، مصدرها آي القرآن الكريم التربوية، وأحاديث المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، لتكوين المواطن الصالح، والمجتمع الفاضل، وإقامة الدولة الرشيدة، والله يتولى الصالحين.
ومضمون هذا الكتاب: أحاديث إذاعية في مدة ثلاث سنوات من (1997- 2000م) في إذاعة صوت الشعب السورية، لمدة عشر دقائق، أيام السبت والإثنين والأربعاء، الساعة 6.15 صباحاً، وللأحاديث الإذاعية أهميتها وسحرها ومميزاتها، فهي تمتاز بالتبسيط والوضوح ويُسْر الفهم، وبُعْدها عن التقعر أو التشدد، وملاحظة عموم الخطاب فيها لكل من يسمعها من ملايين الرجال والنساء، المسلمين وغير المسلمين، المحبين لمسائل دينهم أو الكارهين لها، مما يوجب جعلها منطقية عقلية جذابة، متلائمة مع مختلف الطبائع والأمزجة، ومتمشية مع الواقع بقصد إصلاح ما انحرف أو فسد، والترغيب فيما صلح واستقام، مع تنمية الدوافع والبواعث للامتزاج مع شرعة الله، والحرص على بيان كون الدين لا مصلحة من وجوده إلا إسعاد المجتمع كله، وإصلاح الفرد والجماعة، وتذكير الجميع بالواجبات الإنسانية والحقوق الاجتماعية، سواء في نطاق الأسرة، أو السوق والمعاملات، أو العمل والتجمعات الصغيرة والكبيرة، ولا سيما في المزرعة والمصنع والمتجر والوظيفة وغيرها.
وكل موضوع من مواضيع هذا الكتاب يصلح درساً خاصاً أو عاماً، وخطبة جمعة، في مناسبات عامة أو خاصة، وفي مجتمع الرجال أو النساء. وفيه أيضاً فوائد لغوية كثيرة، وثروة ثقافية وتربوية قويمة.
والموضوعات في الأصل مستقاة من الكتاب النفيس للإمام النووي رحمه الله وهو (رياض الصالحين) الذي اشتمل على قرابة ألفي حديث (1898 حديثاً) وهي كلها أحاديث صحيحة أو حسنة، فلا موضوع ولا ضعيف فيها. وكل كتب أو مصنفات النووي، رحمه الله، فيها خير وبركة عظيمة، وتمتاز بحسن الاختيار، وتهدف إلى أغراض نافعة، ومنسجمة مع مختلف الرغبات والأحوال.
ويضاف إليها ما يفتح الله به من إدراكات وملامح، ومقارنة مع الآيات المناسبة لكل مجموعة من الأحاديث ذات الموضوع الواحد، والمتعدد فيه الروايات أو الأحاديث غالباً.
وإني لعلى ثقة بأن من يستوعب مضمون هذا الكتاب، يكاد لا ينقصه شيء من أصول المعلومات والمعارف المباشرة المحققة للخير الكثير.
وخطة الموضوعات تشتمل على مقدمة ممهدة لكل موضوع، مع إيراد الآيات المناسبة له، وجمع الأحاديث الواردة في الموضوع ذاته، ثم تبيان أهم النتائج المستفادة من كل موضوع على حدة، والله مع المحسنين.
ثواب الصبر
الصبر والصوم عظيمان، وثوابهما مفتوح غير مقيد بحدود؛ لأنهما يربيان قوة الإرادة، ويدلان على صحة الإيمان، وسلامة التفويض إلى الله عز وجل فيما قضى وأراد، أما الصوم: فيقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه - فيما يرويه ابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، وأبو الشيخ ابن حبان في الثواب عن سلمان: ((وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة))، وما يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة)) أي وقاية وحصن من الوقوع في المعاصي. وأما الصبر الذي هو كالصوم مفتوح الثواب، فيقول الله عز وجل عنه:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ} [البقرة 2/155]. ويقول سبحانه: {إِنَّما يُوفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر 39/10]. ويقول تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى 42/43]. ويقول أيضاً: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ} [البقرة 2/153]. {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج 70/5]. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع ولا تبرم ولا تسخط فيه، وإنما يكون مع تمام الرضا والقبول بما أراد الله تعالى. ومحل الصبر عند المصيبة: حين وقوعها، لما رواه مسلم عن أنس: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)).
ومن أخص حالات الصبر: الصبر عند المصيبة بفقدان الأحبة، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه، من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة)). وروى البخاري عن أنس: ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه (أي عينيه) فصبر، عوضته منهما الجنة)).
وكذلك الصبر عند المرض أو حالة الكرب، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتَب الله له، إلا كان له مثلُ أجر الشهيد)).
ومن فضل الله تعالى: أن الصبر على متاعب الدنيا وهمومها وأحزانها، وغمومها، وأذاها، وأمراضها: سبب لتكفير الخطايا، روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نَصَب (تَعَب) ولا وَصَب (مرض) ولا هَمّ، ولا حَزَن ولا أذىً ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها، إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه)). وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة: ((من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه)) أي يوجه إليه مصيبة.
وإذا ضاقت الدنيا بإنسان، أو أحدق به الخطر، أو تعرض لضرّ أصابه، فلا يجوز له تمنّي الموت، وإنما عليه بالصبر الذي يكون طريقاً للفرج في الدنيا، وزيادة الثواب في الآخرة، روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)).
ولا بأس بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى في تفريج الكرب مع الصبر، فذلك لا ينقص الثواب، روى الترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبده الخير، عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشَّر، أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)).
وأسلوب الصبر: كظم الغيظ، وترك الاسترسال في الغضب، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) والصُّرعة: أصله عند العرب: من يصرع الناس كثيراً. وروى الترمذي وحسنه وأبو داود عن معاذ بن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كظم غيظاً، وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيِّره من الحور العين ما شاء)).
دلَّت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على فضل الله العظيم بإثابة الصابرين والصابرات، وإعداد جنان الخلد لهم.
تنبع أخلاق المسلم من علاقته بربه الذي يأتمر بأمره وينتهي بنواهيه. والهدف من علاقة المسلم بربه تنمية هذه العلاقة، وتقوية غرسة الإيمان، والقيام بحسن التوكل على الله، والاستعانة به، واستمرار كل أنواع الخير منه، والاعتماد عليه وحده في شؤون الحياة كلها.
على أن التقوى تكون سبيلاً لإصلاح هذه العلاقة والإبقاء عليها طيبة مباركة وهي التي تدفع لكل عمل دنيوي وأخروي. فكيف تكون أخلاق المسلمين مع الله ليرتقوا؟! إنّ لذلك طريقاً يجب أن يعرفوه.
إذا كان لكل مجتمع صفات تميّزه من غيره، فإن المجتمع الإسلامي تميّز بأخلاقه التي اهتم بها دينه وأولاها المكانة الأولى في سلّم المطلوبات.
بتلك الأخلاق ارتقى المسلمون في مسيرة الخير والبناء والصلاح فكانوا خير أمة أخرجت للناس.
وآفة المجتمع اليوم وأزمته في أخلاقه وفي سوء معاملة الأفراد بعضهم لبعض، وربما سهل على الفرد أداء العبادات، لكنه ليس من السهل الحكم على الاستفادة منها والتجاوب مع أغراضها التهذيبية في علاقاته مع الآخرين.. فهذا هو المحك الحقيقي للحكم على صدق المسلم والمسلمة.
فما أخلاقهما؟
أخلاق المسلم، علاقته بالمجتمع - أ.د. وهبة الزحيلي يتناول هذا الكتاب أخلاق المسلم في علاقته بالمجتمع، التي تميزه من غيره بصفات اهتم بها دينه وأولاها المكانة الأولى في سلم المطلوبات، فارتقى بتلك الأخلاق المسلمون في مسيرة الخير والبناء والصلاح فكانوا خير أمة أخرجت للناس. ويحتوي الكتاب على 127 موضوعاً من موضوعات علاقة الإنسان بغيره، أي بمجتمعه، تبين حرص الإسلام على إصلاح الفرد والجماعة. ويشتمل كل موضوع على مقدمة ممهدة له، مع إيراد الآيات المناسبة له، والأحاديث الواردة في الموضوع ذاته، ثم تبيان النتائج المستفادة من كل موضوع على حدة. ويبرز الكتاب فضيلة الصدق وجزاءه، وطرق الخير، وأداء الأمانة، وتحريم الظلم وتعريفه وبيان مظاهره ورد المظالم، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، والتضامن الاجتماعي في الإسلام ومظهره ومراعاته الحقوق الاجتماعية، وعدم إشاعة السيئات لغير ضرورة، وقضاء الحوائج، والشفاعة أو الوساطة، والإصلاح بين الناس، وحماية المستضعفين، والإحسان إلى الأيتام والمساكين والبنات، ورعاية النساء، وآداب أفراد الأسرة وحقوقهم وواجباتهم، وحقوق الجوار، وإكرام آل البيت النبوي، وتوقير العلماء والكبار وأهل الفضل والخير، والكرم، والمواساة والتواضع والعدل، وأصول التعامل الاجتماعي بين الناس، والاستخارة، والاستشارة، وآداب الأعمال في اليوم والليلة، والفضائل فيهما، والنهي عما يسيء إلى الفرد والمجتمع، مع ذكر طائفة من الأمور المنهي عنها والمحرمات.. ويشير الكتاب إلى أن التقيد بالأخلاق الإسلامية هو المحك الحقيقي للحكم على صدق المسلم والمسلمة.