التنمية السياسية التنمية الاقتصادية والأمن
يتناول جملة من القضايا الحساسة التي تتعلق بالتنمية السياسية، والتنمية الاقتصادية، والأمن.
يتناول جملة من القضايا الحساسة التي تتعلق بالتنمية السياسية، والتنمية الاقتصادية، والأمن.
مقدمة
مرت الثورة الإسلامية في إيران بمراحل عديدة، وقد استُغرق العقد الأول بشكل أساسي في عملية الحفاظ على الثورة ومعطياتها، ونجد أن الأزمات السياسية في أعوام الثورة الأولى وحرب الأعوام الثمانية أدتا إلى توظيف الموارد والثروات ماديةً ومعنوية في معالجة الأزمات تلك.
وقد ابتدأ العقد الثاني بشعار البناء والتنمية الاقتصادية، وبرغم أن تقييم تلك المرحلة بحاجة إلى جهد متخصص وتفصيلي إلا أنه لا يسع المرء تجاهل ظاهرة برزت في الساحة السياسية - الاجتماعية في إيران في نهاية مرحلة البناء، واكتسبت اسم (الثاني من خرداد).
ما الشعارات والبرامج الانتخابية للسيد محمد خاتمي الذي تولت أصوات الناخبين الواسعة وغير المتوقعة خلق ظاهرة (الثاني من خرداد) من خلال تصويتها لصالحه؟ وأية مُثُل دفعت المواطنين إلى صناديق الاقتراع وتحولت بالتالي إلى منشأ لتحولات لافتة؟
ثمة آراء عديدة للسيد خاتمي انبثقت من صميم تحولات الثورة وتجاربها، وطرحت في لحظة مناسبة، فلاقت ترحيباً اجتماعياً واسعاً، منها: ضرورة تحقيق التنمية الشاملة، ومنح الأولوية للتنمية السياسية على سائر مجالات التنمية الأخرى، والاعتراف بما يمتلكه الإنسان من حق وكرامة، والاهتمام بحقيقة أن الإنسان يمثل محور التنمية ومرتكزها، إضافة إلى الإصرار على ضرورة تكوين المؤسسات المدنية وتعزيزها، وبالتالي توسيع نطاق المشاركة الجماهيرية، وتكريس سيادة القانون وتوفير الأمن الذي يتيح إطلاق النقد والرأي الآخر.
يشتمل الكتاب هذا على قسم من كلمات الرئيس خاتمي وخطبه التي ألقاها في العام الأول من رئاسته، وهو يعبر بشكل جيد عن تلك الهواجس ذاتها، بما تكشفه أيضاً من هواجس الجماهير ومطالبها في ضوء ظاهرة الثاني من خرداد والأحداث التي تلتها. وعلى هذا الأساس تنطوي خطابات السيد خاتمي على أهمية خاصة ((تاريخياً)) و((سياسياً)).
فهي تعكس على المستوى (التاريخي) جانباً مهماً من تاريخ البلاد هذه، ويمكن للمؤرخين من خلال تناول تلك النصوص حالياً أو في المستقبل أن يتولوا دراسة آراء الرئيس حول قضايا مهمة من قبيل صلاحيات كل من الحكومة والشعب ومسؤولياتهما، إضافة إلى تحليل التحولات التي تطال الثورة الإسلامية في إيران. كما يمكن لهذه المجموعة أن تتحول إلى موضوع لمختلف ألوان البحث الاجتماعي والنفسي والسياسي والثقافي.
وهي تساهم على المستوى (السياسي) في إشاعة وجهات نظره في الدائرة العامة أولاً، كما أنها توفر الأرضية لحوار نقدي مثمر بين مختلف الفئات والعناصر السياسية والرئيس. وبذلك يتاح لأفكاره أن تسجل حضوراً أكثر تأثيراً وفاعلية في صميم الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد.
وقد ألقى الرئيس خاتمي خلال السنة الأولى من رئاسته في مناسبات مختلفة 149 خطاباً بينها 35 خطاباً تتصل بموضوع التنمية بنحو أو آخر، ويتضمن الكتاب الحالي تلك الخطابات، حيث انتظمت في ثلاثة فصول هي: التنمية السياسية، التنمية الاقتصادية، والأمن.
يتضمن الفصل الأول 16 عنواناً خصصت لتناول موضوعات نظير مفهوم التنمية السياسية، سيادة القانون، سيادة الشعب على مقدراته، المؤسسات المدنية والسياسية، الإنسان محور للتنمية، التنمية السياسية والجامعة، التنمية السياسية والحكومة، وغيرها.
ويتكون الفصل الثاني من 14 عنواناً طرح فيها الرئيس أفكاره حول التنمية الاقتصادية، وأزمات الاقتصاد الإيراني ومقترحاته بشأن ذلك، العدالة، المؤسسات الاقتصادية وموضوعات مشابهة أخرى.
هنالك صلة وثيقة ومتبادلة كما أشار الرئيس خاتمي بين (التنمية) و(الأمن)، إذ تتطلب التنمية مستوى من الأمن، بينما يتوقف الاستقرار الأمني الشامل على تنمية شاملة. ولذلك يشتمل الفصل الثالث من الكتاب على الخطابات ذات الصلة بموضوع الأمن فيما تتناول القضايا الأمنية وأهمية الأمن وعلاقته بالمشاركة الشعبية إضافة إلى عدة موضوعات أخرى.
تم ترتيب الخطابات وفقاً لتسلسلها التاريخي. كما أنه سيتم إصدار خطابات السيد خاتمي كافة في الكتب القادمة لهذه السلسلة الموضوعية. ومن المهم ملاحظة أن الخطابات هذه قد خضعت لمعالجة تحريرية لأن النصوص الشفهية بحاجة إلى قدر من التحرير كي تتحول إلى نصوص مقروءة. وقد روعي في ذلك بشكل دقيق الأمانة في النقل دون أدنى تغيير في مضامين الخطابات.
أشكر في الختام الزملاء الأعزاء الذين أصبحت هذه المجموعة بفضل جهودهم جاهزة للصدور.
(ربيع 1379)
(ربيع 2000)
محمد علي أبطحي
مقدمة المترجم
في نهاية آب (أغسطس) الماضي تناول الشيخ دري نجف آبادي (الوزير الأسبق للاستخبارات الإيرانية) في محاضرة له قبل صلاة الجمعة بطهران، موضوع الحدود الشرعية حيث لا يزال الجدل مثاراً بين اليمين واليسار الإيرانيين حول تنفيذها بنحو علني كما يصر الجناح المحافظ، أو إقامتها بعيداً عن الأماكن العامة كما يدعو الإصلاحيون. وأكد نجف آبادي أن الهدف الأساس من تنفيذ الحدود والقصاص في العلن وعلى مرأى ومسمع من الرأي العام هو تحقيق الاستتباب الأمني في البلاد، لكن المثير في ذلك أنه قال مستطرداً: ((نجد أن حركة طالبان التي طالما انتقدناها قد وفرت الأمن لشعبها، فهل نحن أقل من طالبان [شأناً وقدرةً] ياترى؟ )).
غير أن خاتمي عقد في اليوم التالي مؤتمراً صحفياً انتقد فيه بشدة أولئك الذين يتحدثون من خلال المنابر الرسمية ويقدمون أداء حركة طالبان نموذجاً في الإدارة، وشدد على رفض الرؤية التي تتبناها حركة طالبان قائلاً: ((إننا نرفض نموذج الإسلام الذي تدعو إليه طالبان كما نرفض مفهومها الذي طرحته للأمن)).
لا شك أن الشيخ نجف آبادي لم يكن ليقصد موضوع إقامة الحدود الإسلامية فقط بل إنه قد نوّه في ذلك وبشكل غير مباشر إلى مختلف الموضوعات المثيرة للجدل ولا سيما ما يتصل بالحريات وملف الصحافة وغيرها. كما أن خاتمي لم يكن جاداً في القول بأن هنالك من يستهويه النموذج الطالباني في الإدارة بقدر ما كان في صدد الإشارة إلى تشابه ملحوظ بين الرؤية التي تتبناها طالبان والرؤى التي تصوغها بعض الاتجاهات الإسلامية.
لعل بعض التيارات الأصولية، على اختلاف المذاهب التي تدين بها، ومنها حركة طالبان، تمثل انبعاثاً جديداً لما اتسمت به فرقة الخوارج المعروفة من غلوّ وتطرف وشيء من البداوة، ولست هنا في صدد تقييم شامل لتلك الفرقة بل أشير وحسب إلى جانب من خصائصها. فحين لا يقوم هذا التصنيف على مجرد ربط جزافي، يلاحظ المرء أن ثمة العديد من المشتركات الفكرية والمنهجية وهي تتجلى في مستويات عدة: تطرف لا يتسم بالمرونة والسماحة اللتين يتميز بهما الإسلام، وانحياز إلى عقيدة الفرقة الناجية التي تحتكر الحقيقة وتمارس تكفير من لا يدين بمذهبها وربما تبيح دمه، إلى جانب ما أفرزه مجمل ذلك من اعتناق للتفسير الدسائسي والمؤامراتي للتاريخ، بنحو لا يتيح فرصة لوعي حركة التاريخ في إطار نواميسها وما يكتنفها من ملابسات تستعصي على الحصر. مضافاً إلى رفض دور الفرد الحر ومفهوم خلافة الإنسان لله سبحانه (بوصفه مجسداً لتلك الحرية)، والتأكيد على ضرورة خضوع الجمهور والأمة إلى شخص (خليفة أو أمير... إلخ) يحكم بمفرده وهو ما ينتهي عادة في ضوء الطبيعة الإنسانية إلى إنتاج النموذج التاريخي للسلطان الذي يتخذ من الشريعة غطاء لاستبداده، وشجبٍ لسائر ما يتصل بالحريات الأساسية للإنسان. كما نلاحظ أن التيار هذا يعيش قطيعة بنحو أوآخر عن العصر وحقائقه، ويحاول استعادة النموذج المادي التاريخي لدولة الرسول أو دولة الخلافة دون المضمون الجوهري، ولا يخفى ما في ذلك من خطأ فادح وفهم لا يستجيب لشروط الموضوعية، وجهل بما يتطلبه عنصرا التاريخ والجغرافية من مرونة.
هكذا نجد أن المشروع الذي تبشر به هذه الاتجاهات يتقاطع بالكامل مع تطلعات اتجاه واسع في الفكر الإسلامي الحديث، حيث إن جانباً من النتاجات الإسلامية الحديثة - وهي تقف على أرضية عريضة، وتستقطب جمهوراً واسعاً - راح يدرك مستويات متعددة للوعي بالحقيقة وينفتح على طيف فكري متنوع فلا يهرطق ما لم يألفه من صور الأشياء، إذ لا يترشح مفهوم اليقين لدى هذا الاتجاه عن هيكل حديدي من الوثوق لا يقبل الانخرام، بل يحافظ إزاءه على درجات من وعي الحقيقة، تترك مبرراً لإمكانية المراجعة والنقد والحوار، وتقلص من فرص الدوغما الفكرية، بينما يحاول بناء قناعاته على أساس عقلاني. وفي ضوء ذلك يرفض الاتجاه هذا ظاهرة الإسراف في اتخاذ فكرة المؤامرة نموذجاً تفسيرياً وأداة لصياغة الموقف. ويتفاعل هذان الموقفان ليفرزا شجباً لمظاهر الاستبداد في السياسة، وتوظيفاً لمعطيات جديدة توفر أشكالاً أخرى لمشروعية الحكم ومرتكزاته وأولوياته، تأخذ فيه موقعها المناسب مفاهيم أصبحت من مفاتيح إنقاذ الموقف الحضاري المتأزم نظير: المشاركة الشعبية، ومجتمع القانون، أو المجتمع المدني وحرية التعبير، ورفض الوصايات غير المبررة... إلخ.
نلمح في هذا الكتاب بوضوح انخراط الرئيس خاتمي في التيار العقلاني الذي يقدم نفسه بديلاً عن نموذج الخوارج أومختلف (الرواسب الخوارجية) التي تسربت إلى تراث الإسلام الفكري، فهو لا يفتأ يردد فيما يتصل بالمشروع السياسي الذي يدعو إليه: أن الحكومة القوية هي تلك التي تستوعب حقيقة فلسفية وإلهية وتكوينية تفيد بأن الاختلاف في وجهات النظر هو أمر ملازم للمجتمع الإنساني، وهو ما لا يمثل منشأً لخلق الأزمات، حيث إن الله تعالى هو الذي خلق الناس مختلفين. يضيف أيضاً: أن أولئك الذين يحاولون بناء مجتمع يحمل ذوقاً واحداً وتوجهاً واحداً عبر تعميم رسمي صادر من الجهات العليا، إنما يسيرون في الحقيقة على عكس الوجهة التي يتحرك نحوها الكون والخلق.
على الرغم من اعتقاد خاتمي بأن هنالك مشاكل في إطلاق الحريات ضمن دائرة الاختلاف الطبيعية هذه، غير أنه يرفض كذلك تحويل هذا الأمر إلى ذريعة للهروب من الحرية بل يدعو إلى الهروب إليها، بمعنى البحث عن حلول للمشاكل تلك في داخل الحرية ذاتها. وفي حديثه عن الأحزاب السياسية يؤكد أن ظاهرة الاختلاف والمعارضة يمكن أن تتحول إلى عوامل للتقدم دون أن تترك تبعات سلبية بفضل ما تلعبه الأحزاب من دور يقترن بتحديد ضوابط مدنية للعمل السياسي. ولا غرو في القول بأن هذا هو جوهر الخلاف بين التيارين الرئيسين في إيران، إذ يعبر أحد التيارين عن سعي دؤوب للتطابق مع الذات والتماثل معها بالكامل، وأعني بالذات هنا مجمل الموروث الفكري والثقافي والقيمي إضافة إلى إفرازاته الراهنة نظير قوالب القيم الثورية الراديكالية ومختلف السياقات التي راجت في إيران خلال العقدين الماضيين. بينما يسعى التيار الآخر إلى الدعوة للاختلاف مع الذات بمعنى استرجاع كل هذا الحشد من الموروثات والإفرازات واستلهامه بشكل نقدي ومحاولة تطويره وتنقيته وتقويمه.
تجربة غورباتشوف أم مشروع الأنتلجنسيا؟
أتذكر أن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني قال مرة صيف 1997م بداية تسلمه لمهام الرئاسة: إنه ينسى أحياناً كونه رئيساً للحكومة، لأنه لم يكن قد اعتاد على ذلك بعد. فهو يتفاعل كثيراً حين يقرأ في صحف الصباح نقداً موجهاً لرئيس الوزراء، ويتحمس لشجب موقف الحكومة ريثما يتنبه إلى أنه هو المقصود بذلك! وبمعزل عما ربما يكون في حديث بلير من مزاح، نجد حالة مماثلة لدى الرئيس خاتمي، إذ إنه كثيراً ما يتحدث وكأنه قد خال نفسه معارضاً للحكومة لا رئيساً لها. غير أن هذا يخلو عن أي لون من المزاح، ويرتفع إلى أعلى مستويات الجدية مع خاتمي، في ضوء انتمائه باستحقاق إلى أنتلجنسيا العالم الثالث الاحتجاجية، وكونه يعيش مع هواجسها وهمومها ويحمل ثقافتها، بنحو يتغلب هذا البعد في شخصيته على السمة الوظيفة المؤقتة التي يشغلها، ويرشحه بجدارة إلى تزعم تيار الإصلاح في بلده. إذ كثيراً ما نجده ينحاز لصالح الشعب ضد الحكومة، ويدعو المواطنين إلى التمسك بحاكميتهم على التاريخ وعلى المقدرات وعلى حق إبداء الرأي، وهو يتحدث بلغة العاجز عن إخفاء ما يتملكه من مشاعر السخط إزاء ألوان القهر والاضطهاد والاستبداد التي تعرض لها تاريخنا بعامة، وينشأ عجزه هذا عن كونه معبأً بثقافة الاحتجاج وهواجس الأنتلجنسيا وهموم التنوير.
وفي ضوء ذلك تتضمن كلمات خاتمي في هذا الكتاب تفاصيل مهمة من حديث مصارحة مع الشعب الإيراني ينطوي على مرارة مميزة أحياناً، الأمر الذي أدى بالبعض (داخل إيران وخارجها) إلى أن يلجأ إلى تشبيه خاتمي بميخائيل غورباتشوف الذي رفع شعار الغلاسنوست (الحديث بصوت عالٍ) بعد كل أعوام العزلة الأيديولوجية الطويلة والصمت الستاليني مما انتهى بتمزق الاتحاد السوفييتي. إلا أن انتخاب خاتمي لدورة أخرى إلى جانب المكاسب التي حققها التيار الإصلاحي - برغم تواضعها - أثبت إخفاق تلك المقارنة في تكوين صورة وتحليل متوازيين يواكبان واقع الحركة الإصلاحية الدائبة وحقيقة كونها مطلباً جماهيرياً يحظى بدعم من خطوط ثورية وشريحة وطنية قوية. يقول الباحث الإيراني مجيد محمدي: ((لقد اتضح خلال الانتخابات الرئاسية أن سوق السياسة أصبح وطنياً، فلم يكن ثمة فرق شاسع بين أصوات ساكني المدينة والريف. كما واجهت السلع التي لم تحز على رضا الجمهور طلباً قليلاً برغم الدعاية الكبيرة التي توافرت لها، حين أخفق الكمّ الدعائي في تقديم البديل للمستوى النوعي)).
وهو ما أحسبه يعبر عن رغبة وطنية في البناء والتطوير أكثر مما يشف عن نزوع للتقويض والهدم، بالرغم من تلازم العمليتين في الغالب، كما أنه يدلُّ بوضوح على حجم الفارق الكبير بين المرحلة الحضارية التي تمر بها شعوبنا في نضالها لبناء بلدان تنمو بشكل متوازن، وتجربة رأس الهرم في المعسكر الاشتراكي العجوز يوم كان عاجزاً عن التعامل مع ما عاشه من واقع القوة والتنمية القلق واللامتوازن.
التنمية: المفهوم، الأسس، المجالات
تمتاز كلمات خاتمي بأنها تنبثق من صميم التجربة في دولة تخضع لسياقات تأثير متنوع، وقد عرض لها الرئيس على مستويات غاية في الأهمية لا تبدأ بالشأن السياسي أو الاقتصادي، كما لا تنتهي عند موضوع الأمن، بل تستوعب مجمل جوانب عملية التحديث وبناء المجتمع المدني بوصفه مشروعاً يتحرك في أجواء خاصة تحمل الكثير من السمات التي انطبعت بها مجتمعاتنا العربية والإسلامية. إضافة إلى أن حديثه يتحلى بصراحة قلما نجدها لدى مسؤول رسمي مثله في العالم الثالث، خاصة وأنها تمتزج بأوجاع الإنسان التي يستعرضها ويقارب من خلالها إشكاليات حساسة باتت من الشواغل الرئيسة اليوم للفلاسفة وعلماء الاجتماع.
يمتلك خاتمي وجهة نظر خاصة حول مفهوم التنمية، حيث يؤكد بإصرار كبير يبدو من خلاله كمن يريد الكشف عن حقيقة ضائعة أو مغيبة، إن الإنسان هو محور التنمية ومرتكزها، فهو الذي يحقق التنمية ويعمل على تقدم خطواتها، وهو أيضاً من يجني مكاسبها. وبالتالي لا يمكن للخطط التنموية أن تغفل الإنسان وتتجه إلى تطوير قطاعات الإنتاج وعمليات التصدير، وتحسب أن ذلك يحقق الازدهار للبلد، فيما هي تتجاهل الإنسان، وتعمل على إلغاء دوره، وتطالبه بالتنازل عن أبسط حقوقه وحرياته.
ولذلك يعمد خاتمي إلى نسج صلات ارتباط وثيقة بين مختلف دوائر التنمية ويجعل في أولوياته تحقيق التقدم على مستوى الإنسان أولاً، معتقداً أن ذلك هو المنطلق الأساسي نحو التقدم في المناحي الأخرى سياسياً واقتصادياً وأمنياً كذلك. وعلى هذه الفكرة وفي ضوء هذا الفهم للتنمية يتشكل مضمون الكتاب الحالي.
يدرك خاتمي أن القطاعات التي يراهن عليها مشروعه في تدشين نموذج تنموي، تتمركز في الجامعات والوسط الأكاديمي والثقافي بالدرجة الأولى. ولذلك نجد حديثه الموجه إليهم يحتل مكانة خاصة، ويتسم بحضور مميز، فهو يحاول دفعهم إلى إدراك دورهم الاجتماعي والسياسي فيما لا تخونه خبرته بوصفه متخصصاً في الفكر السياسي أن يستشهد لما يرتبط بذلك بطبيعة الخريطة السياسية كما رسمها أفلاطون والفارابي وغيرهم من الفلاسفة. يردد: في مدينة أفلاطون الرائعة نجد أن الملوك فلاسفة أو أن الفلاسفة هم القادة، كما أن الفارابي يجعل النبي الحكيم على رأس المدينة الفاضلة، بوصفه الإنسان الذي يتصل عقله بالعقل الأول والقادر على إدراك الحقائق الكلية.
إضافة إلى أن خاتمي يتساءل حول موقف الحكومة من الطاقات المتعلمة وشريحة العلماء والمتخصصين قائلاً:
هل يمكن لإدارة البلاد الزعم بأنها قد أنصتت لوجهات نظر الخبراء قبل اتخاذ القرارات؟
وهل يتحتم على العلماء يا ترى أن يلهثوا وراءنا أم أن علينا نحن أن نقصدهم ممتنين طلباً لوجهات نظرهم؟
لكن حديثه الموجه إلى الوسط العلمي لا يعني أن هاجس التنمية السياسية سيقف عند سقف خاص لدى خاتمي، فهو يتحدث إلى الجميع بذلك ويطالبهم بتكوين آراء خاصة والدخول في معترك السياسة، فيخاطب بذلك الطلبة والعمال والنساء والموظفين والكوادر التربوية... إلخ.
التنمية السياسية: بين الديني والمدني
يعتقد البعض أن النظام السياسي في إيران يعاني مفارقةً على مستوى أسس مشروعيته، فهل يكتسب المشروعية من الشعب (الأساس الجمهوري) أم أنه يكتسبها على أساس حاكمية القيم والتعاليم الدينية (الأساس الديني)؟
لا تغيب هذه الإشكالية عن حديث خاتمي حيث يحاول أن يجعل الديني مستنداً في واقعه إلى الجمهوري مذكراً بأهمية القانون وخطورة التلاعب به في ردٍ على الاتجاهات التي لا تقيم وزناً للدستور إزاء اعتبارات أخرى يفرزها الوضع الإيراني الخاص. يقول: إنني أردد كثيراً ما قلته للمرشد، من أن نظرية ولاية الفقيه ستتحول إلى مجرد نظرية فقهية أو كلامية مقابل النظريات الأخرى على أفضل التقديرات، فيما لو تم إلغاء الدستور الذي صادقت عليه الجماهير، بينما نجد أن الدستور هذا يقرر أن ولاية الفقيه هي أساس النظام. ولو أردنا الدفاع عنها بوصفها كذلك، فإنه لا بد من تطبيق الدستور (أي تكريس القانون والوجه الجمهوري للنظام).
كما يتساءل أو يطرح السؤال على أولئك الذين ينحازون إلى الجانب الديني في النظام السياسي على حساب أساسه الجمهوري وأولئك الذين يرون أنهم يمثلون حالة خاصة، ويعبرون عن الحق المطلق فيحاولون تحقيق مطالبهم وفرضها على الشعب مهما بلغ الثمن... يقول: ترى هل نؤمن بأن الحكومة الإسلامية تعني أن ثمة أشخاصاً محددين هم الذين ينوبون عن الناس في اتخاذ القرارات وأنه لا بد للجميع أن يخضعوا لقراراتهم تلك؟ وهل تعبر ثورتنا عن عودة الدورة التاريخية مجدداً إلى مرحلة من الاستبداد هيمنت على العالم الإسلامي قبل 1200 عام، أم أن لدينا أفكاراً جديدة نود طرحها؟
وهو يوجه رسالة مشوبة بالتحذير إلى التيار ذاته قائلاً: نجد أن المجتمع ذا الصوت الواحد هو أسوأ المجتمعات، ذلك أن الناس مختلفون في وجهات النظر طبيعياً، ويمكن خنق الأصوات لفترة معينة في سبيل أن يبقى ثمة صوت واحد غير أن الأصوات المختنقة ستظهر ثانية على شكل انفجارات واسعة. وهو يؤكد في السياق نفسه وفي محاولة لتغيير المعادلة الاجتماعية، أن الحكام ليسوا أسياداً على الناس وأن الأمة هي الحاكم الحقيقي بنحو مباشر أو غير مباشر، وإنما تنبثق السلطات الاعتبارية أو المناصب عن إرادة الأمة وصوتها. وإذا كانت السيادة والحكومة تنبثقان عن الأمة فإن استمرار الرقابة الشعبية شرط أيضاً في تواصل تلك السلطات والمناصب وبقائها.
ويجد المتابع أن المضمون الحقيقي لمشروع خاتمي يتمثل بمحاولة إيجاد التوازن بين الديني والمدني في إيران بعد أن غاب التوازن هذا في حرارة الثورة وشعاراتها زمناً طويلاً، كما يعبر المنطلق الأساسي للتنمية السياسية لدى خاتمي عن استيعاب جيد للمفارقة التي يعيشها مرتكز المشروعية للنظام في إيران، وهو يبذل جهداً كبيراً لتعديل نتائج الجدل بين الديني والمدني بعد أن جعلتها الموازنات السياسية على حساب الإنسان.
ضمن المسارات والهموم ذاتها يُكبر المرء في خاتمي رفضه لفكرة الرمز أو الكاريزما التي رسخت في ضمائر شعوبنا، وباتت تهدد مصير حركتها نحو التصحيح، حيث يخاطب الجماهير المحتشدة لتحيته قائلاً: ((لا ينبغي أن نكون ضحية، لا سمح الله، لعبادة الأشخاص والكاريزمات، بمعنى أنه لا بد أن يتركز اهتمامنا وحسب على أن الشخص الذي وصل إلى السلطة قد أُتيح له ذلك بفضل ما أدلينا به من أصوات. لم يكن المأخوذ في نظر الاعتبار أبداً أن تتجه أنظار الناس إلى شكل الشخص المنتخب ولون عينيه وطوله وعرضه... بل إن الذي تم طرحه في الانتخابات كان جملة من الأهداف والتوجهات والمعايير، وأعتقد أن ذلك العدد من الأصوات يتصل بالأهداف والتوجهات المعلن عنها، والتي من المهم في ضوء هذا أن تصبح محوراً لتشكيل التجمعات والمؤسسات وعملها بوصفها الطريق لضمان المشاركة الجماهيرية)).
لكن الجدير بالذكر أن خاتمي وسواء شاء أم أبى قد أصبح كاريزما إيرانية جديدة في ضوء الشعارات التي رفعها، ذلك أن عقل الشرقي ومشاعره لا يزالان في طور يعجز خلاله عن كبت رغبته في اللهاث وراء البطل الذي يحب، وسنظل ندفع ضرائب هيامنا بالأبطال والملهمين ريثما ننتقل إلى طور حضاري آخر يقف فيه الإنسان مع الفكرة دون صاحبها، ويهيم بالمشروع دون الكاريزما، فيحتفظ لنفسه بما يؤهله للحركة بنحو موضوعي. وذلك طبقاً للطموحات العريضة التي لن يتنازل عنها خاتمي أو حملة المشروع التنويري في العالم الثالث.
تحولات فرضها المتغير الإصلاحي
أجد من المهم أن أكرر هنا ما قلته في مناسبة سابقة من أن الشيء الذي يلفت النظر أننا نجد أن خاتمي نفسه وبعد أربعة أعوام من القيام بأعباء الرئاسة وحمل هموم التأسيس للمشروع الإصلاحي، قد تغير إلى حد ملحوظ. فالمقارنة المتأنية بين كتبه السابقة مثل ((بيم موج: المشهد الثقافي في إيران …)) الذي صدرت ترجمته العربية قبل حوالي ثلاثة أعوام وكتابه الحالي، تفيد أن ثمة تحولاً فرضه المتغير الإصلاحي ظهر في ما تتسم به الأفكار الحالية من عمق أكبر ومستوى أعلى من الجرأة والصراحة والواقعية أيضاً، برغم أن البعض لا زال يسجل عليها أنها تعاني الغموض أو تخضع لدرجة حرارة معينة ومناخ خاص أحياناً، مما هو صحيح نسبياً. إلا أنه يمكن القول: برغم كل شيء إن أفكار خاتمي في هذا الكتاب قد نجحت بشكل أفضل في التعبير عن نفسها، مما سيدركه القارئ بالتأكيد.
وحين تبدو جوانب من المعالجة المطروحة ذات طابع محلي، فإن ثمة مساحات واسعة، لا شك في أن التجربة الإيرانية تشترك في إطارها مع سائر التجارب في العالم الثالث بشكل عام وفي الدائرة الإسلامية خاصة. ولا يقوم ذلك على أساس صدفة تاريخية، بل تتبلور الشراكة في مستويات مختلفة على ضوء القواسم المشتركة التي تتضمن تناظراً في البنية المعرفية السائدة والمرحلة الحضارية وطبيعة التحديات التي تواجهها الدائرة الواسعة هذه على الصعيد الفكري والتنموي والإستراتيجي، وهي قبل كل شيء أفكار تعلن بصراحة انتماءها إلى الطيف المتنوع للخطاب الإسلامي فيما تحاول بوضوح أن تتحرك من الواقع لتنطلق نحو النص بعد أن طال الانهماك في الاتجاه المعاكس، أي من النص بما يثقل قراءته من قبليات وإشكاليات، إلى الواقع!.
حول ترجمة الكتاب
تمثل موضوعات الكتاب الحالي محاضرات ألقاها الرئيس خاتمي في مناسبات مختلفة خلال الدورة الأولى لرئاسته، كما هو الحال مع كتابه السابق (المجتمع المدني: مقاربات في دور المرأة والشباب) الذي صدر عن دار الفكر قبل بضعة أشهر بترجمة كاتب السطور. ومن الطبيعي أن تواجه الترجمة تحدياً إضافياً في ذلك لتجريد النص من الطابع الشفهي برغم أن الأصل الفارسي قد تعرض إلى عملية تحرير جيدة. وقد راعينا في ذلك جانب الأمانة في النقل ما وسعنا، مع الاضطرار إلى حذف بعض الفقرات التي حملت تكراراً لا يتحمله النص المدون أو التي تمثلت بعبارات تحية ومجاملة لا علاقة لها بالموضوع. كما حاولت أن أضع القارئ في صورة بعض الأحداث أو الأرقام التي ذكرها المؤلف ما وجدت في ذلك ضرورة، إضافة إلى بعض الايضاحات بشأن الترجمة الصحيحة التي أقترحها لمصطلح هنا ومفردة هناك، مما سيجده القارئ في هوامش المترجم. وقد اضطرني لذلك أن هذه اللغة لا تميل كثيراً إلى نحت المصطلح بل تسرف في اقتباس المصطلح اللاتيني، ولا سيما الفرنسي، دون أن تعمد إلى إعداد معادلات فارسية مناسبة. ونجد على سبيل المثال حين نقارن بالعربية أن مصطلحات التعددية والواقعية والوضعية والشيوعية وغيرها وهي مترجمة عن اللغات اللاتينية بالطبع تقابلها استخدامات فارسية تمثل اللفظ الحرفي أو المحرف قليلاً عن الفرنسية عادةً أو الإنجليزية أحياناً، فنجد ما يقابلها بالترتيب كما يلي: (بلوراليزم، رئاليسم، بوزيتيفيسم، كمونيسم) وهكذا. بل حتى حين يتوافر معادل فارسي أقره مجمع اللغة الفارسية بطهران فإنه لا يشيع بسهولة إذ نلاحظ مثلاً أن (تكثرّ كرائي) معادل فارسي للتعددية، لكنه مهجور قياساً للاتيني (بلوراليزم). والمهم أن المنهج الذي تعامل به الإيرانيون مع العربية وأدى إلى اقتباس هائل لمفرداتها وموادها في فصحاهم وآدابهم وعلومهم حتى بداية عصر النهضة عاد ليتكرر في تعاملهم مع اللغات اللاتينية في العصر الحديث.
أجد لزاماً علي في الختام أن أتقدم بالشكر إلى كافة الذين خرجت بفضلهم هذه الترجمة، وحيث لا يسعني الإشارة إليهم جميعاً لا أجد بداً من شكر أسرة دار الفكر ومديرها العام الأستاذ محمد عدنان سالم الذي يتبنى هذا العمل، إضافة إلى الأستاذ عبد الجبار الرفاعي الذي لم يبخل بما تكوّن لديه من ملاحظات واقتراحات، وأخيراً... زوجتي لقاء كل ما تقدم من عون ومؤازرة.
والله الموفق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
22/11/2001م
7/رمضان/1422هـ
سرمد الطائي
يتناول هذا الكتاب قضايا حساسة تتعلق بالتنمية، ونلاحظ فيه انخراط السيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في التيار العقلاني الذي يقدم نفسه بديلاً عن نموذج الخوارج ورواسبه التي تسربت إلى تراث الإسلام الفكري.
وهو ما يفتأ يردد بصدد مشروعه السياسي أن الحكومة القوية تستوعب حقيقة فلسفية وتكوينية تفيد بأن الاختلاف في وجهات النظر أمر يشكل عاملاً هاماً من عوامل تقدم المجتمع الإسلامي ونموه، لا يجوز إهماله أو استبعاده.
وتمتاز كلمات خاتمي بأنها تنبثق من صميم التجربة في دولة تخضع لسياقات تأثير متنوع، وتستوعب جوانب عملية التحديث وبناء المجتمع المدني، وتلامس أوجاع الإنسان وهمومه، متحلية بصراحة قلما نجدها لدى مسؤول رسمي مثله.
يتناول جملة من القضايا الحساسة التي تتعلق بالتنمية السياسية، والتنمية الاقتصادية، والأمن.