قضــــايا الحرية والأقليــــات في الوطـن العربي
الدكتورحيدر إبراهيم علي
مقدمة
يكاد موضوع الأقليات في الوطن العربي أن يكون من محرمات الكتابة والبحث، أو على الأقل يفضل أن يكون من المسكوت عنه. إذ لا تعتبر معالجة هذا الموضوع من النشاطات الفكرية البريئة، فهي غالباً ما تثير الريبة والشك وتذهب بالظنون بعيداً خاصة إذا كانت الأجواء السياسية غير عادية. ولأننا لم نتعرض لمسألة الأقليات، كان من الطبيعي أن يأتي الاهتمام من قبل باحثين أجانب، مما يجعل القضية لا تخلو من شبهة تآمر أو نوايا سيئة. ورغم أن الوطن العربي شهد حروباً طائفية واثنية استمر خلالها الاقتتال لسنوات طويلة، كما حدث في لبنان والسودان. وهي أمثلة لصراع ظاهر وعنيف. ولكن الكثير من الدول العربية يمور داخلها صراع أقليات كامن وناعم لم ينفجر بعد. ويمكن أن يعبر عن نفسه بأشكال أخرى في أي لحظة. كل هذا لم يجعل الاهتمام بمسألة الأقليات يحتل مكانة متقدمة في الفكر العربي أو المجال الأكاديمي والبحثي أو حتى في العمل السياسي المباشر.
تسعى هذا الدراسة للمساهمة قدر الإمكان في طرح سؤال الأقليات بتتبع المفهوم والمعاني والمصطلحات المتشابهة أو المتقاطعة التي تساعد في فهم وإدراك الظاهرة. ثم الرصد التاريخي بحثاً عن صلة الماضي في تشكيل حاضر وواقع الأقليات بالإضافة لتكوين النظرة والوعي بالأقليات. وبالتأكيد، في النهاية التساؤل حول المستقبل وتصور ممكنات المخرج. ولقد أصبحنا لا نتحدث عن استشراف المستقبل لأن الحاضر لايمدنا بالحقائق الثابته نسبياً، فحالة الانتقال التي تعيشها مجتمعاتنا تجعلنا مثل أبطال الرواية مفتوحة النهاية. وأمامنا الحرب الأهلية في السودان التي يمكن أن نؤرخ لها بصيف 1955م. وطوال هذه المدة عجزت كل القوى السياسية والنخب الحاكمة عن الوصول إلى حل ناجع يوقف هذا النزيف. وبالتأكيد العجز عن الحل دليل على ضعف التحليل والفهم للمشكلة. والسبب في ذلك قد لا يرجع إلى ضعف الوسائل العلمية والفكرية، ولكن الجرأة والصدق هما العلة الحقيقية.
إن ربط موضوع الأقليات بقضايا الحرية يفسر كثيراً من القصور والسلبيات، لأن الحرية هنا لاتتوقف عند المطالبة بها للأقليات، بل هي مطلوبة كوسيلة لدراسة الظاهرة دون محاذير ورقابة خارجية وداخلية. ومع أن قضايا الحرية تلح علينا بقوة خاصة وأن العالم المعاصر قد أعطاها أولوية قصوى، مهما اختلفت الدوافع ، إلا أنها تأتي عندنا بعد هموم أخرى كثيرة. ولم تصبح شرطاً ضمن أجندة البحث عن حلول لتلك الهموم. فالحرية وسيلة وغاية في حد ذاتها أي نستخدمها في فهم المشكلات برؤى صافية ونجعلها هدفاً واقعياً نواجه به أسباب وجود هذه القضايا المعقده التي تقعد بالمجتمعات والأوطان.
إن البحث عن حلول علمية وواقعية لمشكلات الأقليات من خلال التسامح وقبول الآخر وتبني التعددية السياسية والثقافية، هو المدخل الصحيح لقيام دولة وطنية قوية يمكن أن تتجه نحو وحدة قومية شاملة ومستدامة. ولكن حين تنشغل كل دولة بأزماتها الداخلية خاصة المتعلقة بدمج الوحدات الاجتماعية والثقافية، فسنكون أمام دول ومجتمعات فسيفسائية مبعثرة تنقصها القدرة أو القوة الذاتية. وبالتالي لن تضيف لما هو أكبر أو أشمل أي الوحدات القومية الكبرى.
حاولت هذه الدراسة أن تُعّمق فهم ظاهرة الأقليات من خلال التاريخ وعلم النفس والاجتماع وألا تكتفي بوصفية خارجية لنتائج تلك العوامل الدفينة التي تقف وراء الدوافع للتفرقة أو التمييز، والدوافع التي تجعل المجموعات تصل حد القتال ومحاولة القضاء على الآخر. فقد لاحظت أن أغلب دراسات الاقليات تدخل إلى الأبعاد السياسية مباشرة، وبرغم أننا لم نغفل دور السياسة، ولكن وضعنا السياسة في سياق أوسع وفي حجمها الحقيقي بالذات كنتيجة لسيرورة ثقافية واجتماعية ونفسية. قد يحس القارئ بالابتعاد أو التفصيلية أحياناً، ولكن كل هذا ليس من النوافل في موضوع كالأقليات، ولكنه بحكم العادة يتوقع تناولاً معلوماً ومطروقاً.
البلسم الثقافي لترطيب الأقليات من التعالي التاريخي إلى التآخي المســتقبلي
الدكتورميلاد حنا
على سبيل البداية
مشكلة الأقليات في العالم من أهم القضايا المرتبطة بكل من المشاكل السياسية والسلام الاجتماعي في مجتمعات كثيرة، فكان حتماً أن تهتم إحدى أهم دور النشر في سورية بإلقاء الضوء على مشاكل الأقليات في الوطن العربي.
وفي تقديري فإن أول من أعطى هذه المشكلة قدراً من الاهتمام هو أ.د. سعد الدين إبراهيم أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية في القاهرة فك الله أسره، وكان قد عكف لسنوات طويلة وبمعاناة على أن يسجل معلومات جمعها معه فريق متمرس وضمنها آراءه في مجلد موسوعي يحمل عنوان (الملل والنحل والأعراق - هموم الأقليات في الوطن العربي). صدر عن مركز ابن خلدون عام 1994م، وقد استفدت كثيراً من هذا المجلد النفيس.
وفي هذه الدراسة المرفقة حاولت أن ألقي الضوء على الظروف التاريخية التي ولدت مشكلة " الأقليات " في عالمنا العربي، من خلال الصراعات في كل من المسيحية والإسلام، ثم فيما بعد بينهما في الحروب الصليبية التي امتدت لقرون، وهو أمر استلزم قراءات هامة ليس في التاريخ فحسب وإنما في علوم اللاهوت والفقه، وسيلمس القارئ الجهد في تلخيص وتبسيط ما جرى عبر التاريخ.
وكانت قناعتي ولازالت، أن التاريخ مملوء بصراعات شديدة نتيجة الكراهية للآخر ونتيجة التخلف، وكانت الذروة في أحداث 11أيلول (سبتمبر) عام 2001م فغيرت الموازين الفكرية في العالم، واتضح أن موضوع الأديان قد صار عاملاً رئيسياً في المكون الثقافي ومن ثم صار إلقاء الضوء على تاريخه وتأصيله أمراً أكثر أهمية.
ومن غير المقبول لمؤلف يعالج هذه القضية، أن يتركها مع العرض التاريخي فحسب، إذ لابد أن يطرح أيضاً رؤيته في اتجاه الحلول الممكنة والتي أسميتها " البلسم الثقافي " لأن مشاكل الحب والكراهية لا تعالج بالقنابل والصواريخ بل من خلال قناعات فكرية.
لقد كتبت مؤلفاُ بعنوان "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" عن تنوع مكونات الشخصية أو الهوية المصرية، كجزء من دفع ثقافة التعددية وقبول الخصوصية الثقافية للأقليات (طبع لأول مرة عام 1989م والطبعة الخامسة 1998م)، وكان هدفي الأول من هذا المؤلف هو زيادة التآلف الوطني بين الديانتين الرئيسيتين في مصر.
هذا وقد كتبت مؤلفاً آخر صدر لأول مرة عام 1998م بعنوان (قبول الآخر)، وكان طبيعياً أن يلمس القارئ الإشارة إلى المفاهيم الواردة في هذين المؤلفين هنا وهناك.
وبحكم انتمائي ومولدي ونشأتي - كعربي مصري قبطي - (وهي الانتماءات الموروثة الرئيسية)، كان طبيعياً أن أركز - بشكل أو بآخر - على " أقباط مصر"، كنموذج لأقلية لها وزن تاريخي وثقافي في مصر وربما في العالم العربي، وربما يكون ترطيب علاقتها كأقلية مع المسلمين عاملاً مساعداً لترطيب علاقات أخرى في الوطن العربي.
وآمل أن تفتح هذه الدراسة حواراً بين المثقفين في هذه القضية الهامة.
وأود -مع هذه البداية- أن أقدم الشكر للأخ العزيز والزميل الكريم المهندس جورج عجايبي مدير عام جمعية الصعيد للتربية والتنمية بالقاهرة ولكل العاملين معه، والذين قاموا بجهد مشكور في الطباعة والمراجعة.
القاهرة 10 كانون الأول (ديسمبر) 2001م.
ميلاد حنا
كلمة الناشر
قد لاتبدو مسألة الأقليات مهمة عند المسلم.
فهو لم يسبق له أن واجه مشكلة مع من هاجر إليه من أكراد وداغستان ومغاربة وأفغان، بقدر مافتح لهم صدره وآثرهم على نفسه.. حتى الأرمني الذي يختلف معه ديناً، لم يجد في نفسه حرجاً في أن يتعايش معه ويحبه.
ثم إن ذاكرة المسلم زاخرة بالنصوص المرجعية من القرآن والسنة التي لاتدع مجالاً لبروزها مشكلة تستعصي على الحل.
فالتنوع البشري فيها سنة كونية تستهدف ترقية الإنسان وإغناء تجاربه.
وتجمع الناس في شعوب وقبائل، سبب لتعارفهم.
واختلاف ألسنتهم وألوانهم آية تكاملهم وتعاضدهم.
ورسل الله عنده إخوة لايصح إيمانه مالم يؤمن بهم جميعاً؛ لايفرق بين أحد منهم.
وهم ينتمون إلى مدرسة واحدة، ترفض مسلمات الآباء، وتدعو إلى تغييرها بالحكمة والموعظة الحسنة والبلاغ المبين، وتنهى عن الإكراه في الدين، تاركة للإنسان حرية اختيار دينه بملء قناعته، ومحتفظة لله تعالى وحده بحق محاسبته على اختياره، بمقتضى أمانة العقل التي ائتمنه عليها.
والإنسان في نظر المسلم باحث عن الحقيقة، لايحق له أن يدعي امتلاكها واحتكارها من دون الناس. جل مايمكنه ادعاؤه أن يقول: ((رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي مخالفي خطـأ يحتمل الصواب))، وهو مايستبطن اعترافاً بالآخر، وقبول الحوار معه لاستجلاء ماقد يكون لديه من حقيقة خفيت أو غلط استبان.. فإن تعذر الوفاق على هذه الحال، فإنه لايفسد للود قضية، ولا يمنع من التعايش على أساس {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 109/6].
إنما يمنع التعايش الشعور بالاستعلاء والتفوق على الآخر، الذي ينتج الظلم والحرمان والقهر والنفي والتهجير..
هكذا يسترسل المسلم في تهوينه من مشكلة الأقليات، واستبعاده لإمكانية نشوبها.
لكنه حين يعاني المشكلة؛ مغترباً وسط أغلبية مختلفة في الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس، أو ملاحقاً مضطهداً بسبب رأيه في نظام سياسي متسلط لايطيق سماع صوت آخر، أو مصغياً إلى آخر يبثه حزنه وشعوره بألم الحرمان والانتقاص والرفض.. فلسوف يدرك أن النصوص مالم تتحول إلى ثقافة راسخة في ضمير الإنسان، يغتذي بها من ثدي أمه، ويتلقاها مناهج ثابتة في مدرسته وإعلامه، ويعيشها في سلوك مجتمعه، فإنها سرعان ماتضيع عند أول همسة يهمس بها شيطان ماكر، موقظاً نزعة الأنانية البغيضة {أَنا خَيْرٌ مِنْهُ} [ص: 38/76]، فلا يبقى على أثرها أحد خيراً من أحد، وينخرط المجتمع كله في فتنة لاتبقي ولا تذر، حتى ينفرط عقده ويتفرق جمعه، فيلعن الشيطان بعد فوات الأوان.
ولعلنا نلاحظ أن مسألة الأقليات ترتبط بالتحضر؛ تختفي عندما ترتقي أمة معارج الحضارة، فتبحث عن نقاط وفاقها لتنميها، وتبرز عندما تسأم أمة تكاليف الحضارة، فتبحث عن مواطن اختلافها وتثيرها لتهوي بها في حضيض التخلف.
إن مكمن الإثارة في هذا الحوار عن أزمة الأقليات أنه يجري بين مفكريْن كبيرين يعيشانها ويعانيانها: مصري من الأقباط يكشف عن منابعها ودخائلها، وسوداني يكتوي بلده بنارها منذ ثمانية عشر عاماً.
ولسوف نلمس من حوارهما مدى الضرر الذي يترتب على تجاهلها، والحاجة إلى مزيد من الحوار حولها، لكشف خفاياها وجذورها.
يعدّ موضوع الأقليات من المواضيع الشائكة التي يتجنبها الباحثون، لما يلحق بهم من تجنٍّ واتهامات عندما يقاربون مثل هذه المواضيع.
حتى إنّ بعض الدول تتعامل مع موضوع الأقليات بكثير من الحذر والريبة في النوايا، وعادة ما تؤجل تلك الدول وتسوف في طرح الإشكالات والأزمات التي تعيشها الأقليات.
مع العلم أن عدداً من الأزمات قد تنفجر على شكل صراع عنيف داخل الدول العربية التي لم تعالج هذا الموضوع بشكل حكيم وعادل.
إن البحث عن حلول علمية وواقعية لمشكلات الأقليات، هو المدخل الصحيح لقيام دولة وطنية قوية تسعى نحو وحدة قومية.
لذلك طرحت دار الفكر هذا الموضوع في حوارية بين مفكرين عربيين متميزين بسعة الاطلاع والتخصص الأكاديمي، ومشهود لهما بالقدرة على الغوص بعيداً في مثل هذا الموضوع، للوصول إلى الأفكار القيمة والحلول الناجعة.
مستخلص يتناول هذا الكتاب من المواضيع الشائكة موضوع الأقليات، ويبحث عن حلول عملية وواقعية لمشكلاتهم تؤدي إلى قيام دولة وطنية قوية تسعى نحو وحدة قومية، ويعرض تلك الحلول الناجعة من خلال حوارية بين مفكرين عربيين متميزين بسعة الاطلاع والتخصص الجامعي. يتحدث البحث الأول عن قضايا الحرية والأقليات في الوطن العربي، فيبحث في مفهوم الأقليات وأنواعها، والخلفية التاريخية للأقليات وظهور التمايز في الوطن العربي. ويدرس قضية الحرية ومشكلات الأقليات الراهنة، ويضع الحلول لها، ويستخلص النتائج. ويتحدث البحث الثاني عن البلسم الثقافي لترطيب الأقليات من التعالي التاريخي إلى التآخي المستقبلي، فيؤرخ لمشكلة الأقليات منذ البداية، ويعرض لمصطلحاتها عالمياً. ثم يتناول قصة الحضارة عبر ألفي عام وانبثاق معاناة (الأقليات في سياقها التاريخي)، ويعرض للصراعات داخل المسيحية ونشأة المذاهب الرئيسية الثلاثة فيها، ويبين كيف ولماذا يتولد الإحساس بالتعالي لكل دين ومذهب، ويتحدث عن قبط مصر نموذجاً لأقلية متعايشة. ويبحث في الحراك الاجتماعي والتلقيح الثقافي بين الأغلبية والأقلية، ويضع البلسم الثقافي للأقليات من خلال احترام خصوصياتها الفكرية وتنميتها، وينصح بالانتقال من التعالي إلى التآخي. ويختم الكتاب بملاحق في ميثاق حقوق الأقليات، والقضاء على التعصب والتمييز الديني، وحرية الفكر والوجدان الديني، والخط الهمايوني، وتعقيب كل باحث على الآخر.